يستعد العراق لإجراء سادس انتخابات برلمانية بعد عام 2003، والمقررة في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الحالي، في أجواء تبدو مختلفة تماماً عن الدورات السابقة، إذ تأتي هذه الانتخابات في ظل دعوة مقتدى الصدر زعيم التيار الوطني الشيعي -الذي كان يسمى بالتيار الصدري- أنصاره إلى مقاطعتها بشكل كامل، في خطوة تعد غير مسبوقة من حيث تأثيرها المحتمل على الخارطة السياسية العراقية.
وتوسعت دعوة الصدر في دعوته لمقاطعة الانتخابات لتشمل منع تعليق اللافتات الانتخابية للمرشحين في مدينة الصدر شرقي بغداد، المركز الرئيسي للتيار وهو مشهد لم تألفه الحملات الانتخابية في الدورات الماضية، حتى في أكثر فتراتها توترًا.
في المقابل، تسعى قوى سياسية شيعية منافسة كالإطار التنسيقي، إلى حشد الناخبين وتعويض الفراغ الذي قد يتركه غياب الصدريين، خاصة بعد ما شهدته الانتخابات السابقة من عزوف واسع من قبل ما يُعرف بـ "الأغلبية الصامتة" من المواطنين، ما أدى إلى تسجيل نسب مشاركة متدنية أثارت الكثير من الجدل بشأن شرعية النتائج حينها.
تكتسب هذه الانتخابات أهمية استثنائية، ليس فقط على المستوى المحلي، بل ضمن سياق إقليمي مضطرب يشهد تصاعداً في التوترات والصراعات الجيوسياسية، والتي قد لا يكون العراق بمنأى عنها.
ففي ظل تشابك مصالح القوى الإقليمية والدولية داخل الساحة العراقية، تصبح العملية الانتخابية أكثر من مجرد استحقاق دستوري، بل أداة لفرز مواقف سياسية قد تحدد شكل تموضع العراق في ملفات إقليمية حساسة، لا سيما فيما يتعلق بالفصائل المسلحة التي ترتبط بشكل أو بآخر بمحاور خارجية.
وفي حال فشل الانتخابات في إنتاج سلطة سياسية قوية أو تمثيل متوازن، فإن أطرافا سياسية تخشى من أن تجد الفصائل المسلحة في هذا الفراغ فرصة لتوسيع نفوذها، وهو ما يخشى أن يعيد إنتاج سيناريوهات الفوضى أو الصدام الداخلي.
وحذرت أطراف سياسية من أن تأجيل أو إلغاء الانتخابات قد يفتح الباب أمام فراغ دستوري، ويزيد من احتمالات الفوضى السياسية والأمنية.
وفي هذا السياق، أكد زعيم ائتلاف دولة القانون، ورئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، أن إجراء الانتخابات في موعدها يشكل ضرورة وطنية لحماية الاستقرار، والحفاظ على المسار الديمقراطي في البلاد.
كما حذر من تداعيات وصفها بـ"الخطيرة" في حال عدم إجراء الانتخابات التشريعية العراقية في موعدها المقرر، مؤكداً أن صناديق الاقتراع تمثل الضمانة الأساسية لمنع "عودة الدكتاتورية والطائفية والتهميش".
تعد مسألة "السلاح المنفلت" وحل "الميليشيات" واحدة من أبرز النقاط الخلافية بين مقتدى الصدر والكتل السياسية، لا سيما الشيعية منها.
فالصدر لطالما شدد على ضرورة حصر السلاح بيد الدولة، وتقوية مؤسساتها الأمنية من جيش وشرطة، إلى جانب الدعوة إلى استقلال القرار العراقي، ومكافحة الفساد ضمن مسار إصلاحي شامل.
ورغم أن هذه المطالب تلقى تأييدا واسعا، إلا أن تحقيقها يصطدم بواقع معقد، تعترف به الحكومة نفسها، إذ ترى أن التعامل مع ملف السلاح خارج إطار الدولة يتطلب توازنا دقيقا، نظراً لحساسيته الأمنية والسياسية. فالفصائل المسلحة، وعلى اختلاف ولاءاتها، باتت تمتلك نفوذاً عسكريا وسياسيا يصعب تجاوزه بسهولة، كما أن تفكيكها دون بدائل واضحة قد يترك فراغا يهدد الاستقرار.
وفي هذا السياق، تتحول قضية السلاح إلى واحدة من أكثر الملفات انقسامًا في المجتمع العراقي، بين من يراها أولوية وطنية لا بد من حسمها، ومن يربطها بتعقيدات إقليمية وتوازنات داخلية قد تفجر الأوضاع إذا لم تدار بحكمة.
يرى مراقبون أن موقف الصدر لا يعد مجرد انسحاب من العملية الانتخابية، بل هو تعبير عن انسداد الأفق سياسي وفقدان الثقة بإمكانية الإصلاح من داخل المنظومة الحالية.
وقال مناف الموسوي، رئيس مركز بغداد للدراسات الاستراتيجية والقريب من التيار، إن موقف مقتدى الصدر من مقاطعة الانتخابات يعكس قناعة بعدم إمكانية تنفيذ مشروعه الإصلاحي في ظل المنظومة السياسية الحالية.
وأوضح أن الصدر يرى أن بقاء الفاسدين، المدعومين من زعامات وكتل سياسية نافذة، يشكل عقبة رئيسية أمام أي إصلاح حقيقي، مضيفًا أن القوى نفسها تحاول إعادة إنتاج ذاتها عبر الانتخابات دون تقديم مؤشرات على التغيير.
وأشار الموسوي إلى أن الصدر يعتبر أن المحاصصة، واستغلال النفوذ، ووجود السلاح خارج سلطة الدولة، عوامل أدت إلى تآكل الدولة، مؤكدا أن التجربة السابقة التي فاز فيها التيار الصدري لم تفض إلى تشكيل حكومة أغلبية أو تنفيذ مشروع إصلاحي، ما عزز قناعة الصدر بأن المشاركة لن تغيّر من واقع الحال.
وعلى هذا الصعيد، يرى إحسان الشمري، رئيس مركز التفكير السياسي، أن مقاطعة التيار الصدري ستشكل ضربة كبيرة لشرعية الانتخابات المقبلة، نظرا لثقل التيار الشعبي والجماهيري الذي يمثله.
ويشير الشمري إلى أن غياب هذه الكتلة الناخبة لن يؤثر فقط على النتائج، بل سيحفز شريحة من المترددين إلى العزوف عن التصويت، تحت قناعة أن العملية السياسية لم تعد ذات جدوى حقيقية.
وأضاف أن هذا العزوف الجماهيري قد يؤدي إلى تراجع حاد في نسب المشاركة الفعلية، بعيدا عن الأرقام الرسمية التي قد تعلنها المفوضية، والتي برأيه تفتقر للشفافية وتتجاوز المعايير الدولية المعتمدة لقياس المشاركة الانتخابية. "إذا ما تراجعت نسبة المشاركة إلى ما دون 10%، فنحن لا نتحدث فقط عن مشروعية قانونية، بل عن فقدان شبه كامل للشرعية الشعبية".
وأشار إلى أن الشرعية الأمنية بدورها باتت على المحك، في ظل ما وصفه بـ "الاغتيال السياسي" والتصفيات التي تستهدف بعض الشخصيات، إلى جانب تغول الجماعات المسلحة التي تشارك في الانتخابات رغم مخالفتها للدستور وقانون الانتخابات، الذي لا يفعل بشكل فعلي تجاه أجنحتها المسلحة كما قال.
وأكد الشمري أن مشاركة هذه الجماعات ستضاعف من أزمة الشرعية، خاصة أن بعضها مصنف دوليًا ضمن قوائم الإرهاب، الأمر الذي سيجعل المجتمع الدولي حذرًا في التعاطي مع نتائج انتخابات تتحكم فيها قوى تفرض معادلتها بالسلاح.
واختتم بالقول إن ما يشهده المشهد الانتخابي من استغلال موارد الدولة، وتوظيف المال السياسي، وتغييب القانون، كلها عوامل من شأنها أن تعمّق أزمة الشرعية التي ستواجهها السلطة المنبثقة عن هذه الانتخابات.
ويأتي هذا التحذير بعد أيام قليلة على حادثة اغتيال المرشح صفاء حسين ياسين المشهداني المعروف أيضًا بـ(صفاء الحجازي)، عضو مجلس محافظة بغداد والمرشح للانتخابات النيابية، إثر انفجار عبوة لاصقة أسفل مركبته في قضاء الطارمية شمالي العاصمة بغداد.
ووفقا لقيادة عمليات بغداد، فقد أدى الانفجار إلى مقتل المشهداني وإصابة أربعة آخرين كانوا برفقته، فيما وجه رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة بتشكيل لجنة تحقيقية عليا بإشراف مباشر من قيادة العمليات للكشف عن ملابسات الحادث.
وقد أثار الاغتيال موجة إدانات سياسية، حيث وصفه رئيس مجلس النواب، محمود المشهداني، بأنه "عمل إرهابي جبان"، داعيًا إلى فتح تحقيق عاجل.
كما حذرت النائبة عائشة غزال المساري من أن عودة هذه الحوادث "تدق ناقوس الخطر في أمن العاصمة بغداد"، وتعيد للأذهان موجة الاغتيالات التي عاشها العراقيون في السنوات الماضية.
وبحسب مراقبين ومحللين سياسيين، فإن المقاطعة التي يتبناها التيار الصدري لا تعد مجرد موقف "سياسي ظرفي"، بل تمثل استراتيجية واضحة تعكس أعلى درجات "الرفض والاعتراض على الآلية السياسية الحالية".
ويرى المحللون أن ما يجري قد لا ينتهي بمجرد إغلاق صناديق الاقتراع، بل إن المقاطعة نفسها قد تشكل نقطة شروع لتحول أكبر نحو معارضة شعبية منظمة وفاعلة للنظام السياسي، في حال استمرت المؤشرات على غياب الإصلاح وفشل الاستجابة للمطالب الجماهيرية.
وبذلك، فإن انتخابات هذا العام، وإن جرت في موعدها، قد تكون بداية مرحلة جديدة من الصراع السياسي والاجتماعي في العراق، عنوانها الأبرز: شرعية النظام تحت المجهر.