في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
أطنان الركام تنافس في الامتداد عشرات آلاف الشهداء، في كل شبر قصة صادحة، من هنا مر الرصاص، ولعلع اللهب، ومن هنا كتب العدوان الإسرائيلي براجمات الموت وقاصمات الحياة قصة من أشلاء وركام، استمرت فصولها بين 3 أكتوبرات في سنتين من الدم والنار.
وكما كان الاندفاع الغزي مشهودا في مواجهة العدوان، فمن المتوقع أيضا أن يكون مشهودا في إرادة التعمير، خصوصا أن لغزة مع الهدم والبناء تاريخا طويلا، منذ أن يممها الغزاة، منذ افتراق الماء والطين، ومنذ منبلج النضال في أخت القمرين، وقرينة الدنيا.
غير أن العزيمة الغزية ستواجه في طريق البناء ملايين الأطنان من الركام والأنقاض، التي لا يمكن أن تصنع منها كلها سلالم للنهوض، بل ستجد تحتها كوارث، لم يكشفها الإعلام من قبل، وربما جثم الركام على أجساد كثيرة، كانت تسير في الطرقات، وتملأ الأفق إنسانية مرحة.
هل سيخرج من رماد اللهب طائر الفينيق الغزي ليحلق في الآفاق من جديد، معيدا إلى جارة الشاطئ ألقها وأبراجها القديمة وفرحة صياديها، وأهازيج الطيور في حدائقها التي أحرقها العدوان الإسرائيلي الذي استمر عامين كاملين.
وإذا استطاعت غزة الخروج من تحت الرصاص، فإن عليها تهيئة مساحات البناء، التي تتطلب على الأقل التعاطي مع مخلفات عدوان هو الأقوى والأقسى في تاريخها مع الحروب.
فعدد المنشآت المهدمة في غزة يصل إلى أكثر من 300 ألف منزل مدمر بالكامل، وقرابة 200 ألف منزل آخر تضررت بشكل كبير، وهو ما يقارب 90% من مساكن المدينة الصامدة، أما الطرقات والشوارع، فقد نسف أكثرها، مما يتطلب إعادة بنائها بالكامل من جديد.
وستجد غزة الجريحة نفسها ملزمة بإعادة بناء ما يناهز 37 مستشفى أنهكها الاحتلال بين المدمر بالكامل والمتضرر إلى حد كبير، أما مراكز الرعاية الصحية، فقد تضررت منها بشكل كارثي قرابة 105 مراكز.
ولا تسأل عن المنشآت التعليمية، فقد فقدت ما يقارب 95% منها وأصبحت خارج الخدمة بين المدمر بالكامل، والمتضرر بشكل كبير.
وفي ما يتعلق بالمساجد، فقد هدم أكثر من 800 منها ما بين مدمر بالكامل أو متضرر بنسبة كبيرة خلال لهب العامين المنصرمين، أما موارد المياه والصرف الصحي، فقد تحطم منها نحو 85%، وبين تلك المدمرات المتعددة، والركام المسامق للسماء، يبدو الجوع قصة أخرى، لا تقل صعوبة عن معركة إعادة العمران.
ليس إعمار غزة مستحيلا رغم ضخامة الأرقام المتوقعة لتكاليف العودة إلى الحياة، التي يتوقع أن تتجاوز 53 مليار دولار، خصوصا مع همة وعزم الغزيين وقدرتهم غير المتخيلة على البناء والإنجاز، وتعودهم مواجهة أشد الظروف، والتعايش مع أقساها وأصعبها.
وبالنظر للإمكانات البشرية وطبيعة المجتمع وتجاربه السابقة مع الحصار وإعادة إعمار ما تهدم، يمكن القول إن نهوض غزة من كبوة العدوان أمر ممكن جدا، ومسبوق بنماذج دولية متعددة، أعادت بها دول ومدن عمرانها بعد أن دمرتها القنابل. وفي ما يلي أشهر تلك النماذج:
يمكن اعتبار ألمانيا نموذجا للنهوض من كبوة حربين كونيتين خلال ربع قرن، فإذا كانت الحرب العالمية الأولى قد دمرت كثيرا من المدن الألمانية، فإن شريط البناء والتعمير لم يطل طويلا، حتى جاءت الحرب العالمية الثانية بداية العقد الرابع من القرن المنصرم، لتكتب هي الأخرى 7 سنوات من اللهب والركام.
وخلال سنوات الحرب كان النازيون يعدون العدة لما بعد الانتصار "الموهوم"، حيث كانوا يرغمون السجناء على فتح الطرق، وإزالة الأنقاض والركام، غير أن يد القدر وضعت قلم التعمير بيد طرف غير النازيين ، لتبدأ ألمانيا بعد الحرب مباشرة في مسار سريع للبناء والتعمير.
وقد كان أبرز أسباب النهضة الألمانية في التعمير مرتكزة على:
ورغم أن ألمانيا كانت ملزمة بشروط تقييدية، يراد منها أن تكون أمة رعوية، بعيدة من الإنتاج الصناعي، فقد أدى التحول الجديد بظهور عملة المارك الألماني على أنقاض الرايخ الثالث، إلى تطوير اقتصاد السوق، وحركية التجارة الجماعية، وتنشيط صناعة السيارات، لتجد ألمانيا نفسها بعد سنوات قليلة قوة اقتصادية جاذبة وفعالة ومؤثرة، وذلك بفعل سياسة اقتصاد السوق الجماعي، وتوجيه التنافسية إلى الإنتاج.
ولقد كان لتضافر العامل الداخلي عبر إعادة التأسيس الهيكلي للاقتصاد، والعامل الخارجي عبر خطة مارشال الأميركية التنموية دور حاسم في نهضة ألمانيا، وإعادتها إلى سكتها التنموية، والتي توجت لاحقا بالوحدة مع ألمانيا الشرقية، وتحركت المعاول مرة أخرى لا لتهدم المنشآت، بل لتسقط جدار الفصل بين الألمان.
لم يكن تدمير المدينتين هيروشيما وناغازاكي، وضرب البلاد بالسلاح النووي نهاية للأمة اليابانية، بل كانت بعد سنوات قليلة بداية نهضة آلية، لهذا البلد الذي يطلق عليه البعض اسم "كوكب اليابان" لاندفاع الإنسان فيه نحو العمل والإنتاج.
أعادت تلك المجزرة الهائلة، تشكيل الوعي والتنمية في اليابان، التي استلمها الإنسان الغربي بيد جديدة، غير تلك التي دمرها بها، فقد أعاد الأميركيون هيكلة النظام السياسي والاقتصادي، وأعادوا بناء نظام التعليم، وسرعان ما تحققت الاستجابة، حيث نما الاقتصاد الياباني، وأخذت طفرته في الارتفاع والتطور مع الستينيات، وتأسست تلك النهضة على عوامل، من أبرزها:
خرجت كوريا الجنوبية من الاحتلال الياباني، لتجد نفسها في مواجهة حرب أهليه مع شقها الشمالي، لمدة 3 سنوات دموية، بدأت سول تلملم جراحها، وكان الناتج الزراعي واحدا من أهم ضمادات سنوات ما بعد الحرب، وبالتوازي مع ذلك تدفقت المساعدات الغربية على هذا البلد الليبرالي في فضاء شيوعي مناوئ للغرب.
ومع المساعدات والتنويع والتطوير الاقتصادي، تضاعف الناتج الإجمالي للبلاد عشرات المرات منذ ذلك الحين، وأصبحت كوريا أحد أهم بلدان العالم، خصوصا في اقتصاديات المعرفة، وذلك بعد أن ضمنت الديمقراطية المدعومة غربيا استقرارا سياسيا مكّن الكوريين من التفرغ للإنتاج، بعد أن أصبحت دولتهم ذراعا مهمة في وجه شقيق غاضب ومناوئ للغرب.
لم يكن النموذج الرواندي ناجحا في تجاوز أزمته الخانقة في بعدها الاقتصادي فقط (تضاعف حجم الاقتصاد الرواندي 3 مرات خلال 15 عاما)، بل كان باهرا أكثر من ذلك في تحقيق إنجازات فائقة في فضاء أفريقي مخفق تنمويا، فقد تضاعف حجم الاقتصاد الرواندي 3 مرات خلال 15 عاما، مع نمو وصل إلى 8% سنويا.
فبعد سنوات قليلة من الحرب الأهلية التي حصدت أكثر من مليون قتيل، بدأ نهار رواندا الجديد ينسلخ من ليلها اللاهب، وبدأت البلاد تأخذ نموذجها الجديد، مع جنرالها القوي بول كاغامي ، وأخذ الفقر في مسار انخفاض متواصل.
ركز العقل التنموي الرواندي في منطلق نهضته على التعليم والصحة والزراعة، وذلك بعد أن مهد تربة المصالحة لبذر التنمية الرافعة، متخلصا من اللغة الفرنسية التي كانت الإطار الثقافي للروانديين، ومتحولا إلى الإنجليزية.
وقد مكنت التجربة الرواندية عوامل متعددة من الوصول إلى الإقلاع التنموي من خلال:
أما غزة فتستقبل أسبوعها الثاني بعد توقف الحرب بتوديع مزيد من الشهداء، وبضحكات أطفالها الذين ولدوا خلال العدوان المؤلم، وبين الموت والحياة، رسمت غزة أكثر من مرة نموذجها المتكرر في إعادة الإعمار، أو بالأحرى بالتكيف مع الموت المتربص بها كل حين.
ولعل نجاح غزة خلال الـ20 سنة المنصرمة، في تطوير قدراتها التنموية -مما يظهره حجم المدارس المدمرة (400)، والمنشآت الصحية (38)، إضافة إلى الكم الهائل من المنازل، زيادة على نمط العمران الجمالي الذي ميز أجزاء واسعة من غزة خلال السنوات المنصرمة- يؤكد أن إعادة إعمارها غير مستبعد وإن تطلب:
وبناء على هذين العاملين، يملك الغزاويون قدرة كبيرة على الإنجاز تتأسس على:
وبين غزة في سيرها لنفض ركام الحرب، وبين النماذج الدولية السابقة، يبقى البون شاسعا، فقد كان الغرب المحور الأساسي في صناعة تحولات ما بعد الدمار الذي كان سببا فيه، وكان عنصر اختيار وتوجيه النظام السياسي وإعادة هيكلة الدولة هو كلمة السر في تلك التحولات الكبيرة التي صنعت النموذج الياباني والألماني والكوري والرواندي.
أما في حالة غزة، فإن الغرب -خصوصا الولايات المتحدة الأميركية – حليف قوي لمن صنع دمار غزة.