في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
يستعد كل من اليسار واليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي لتقديم مقترحين لحجب الثقة عن رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين ، حيث من المتوقع أن يشهد البرلمان جلستي تصويت في شهر أكتوبر/تشرين الأول في حال الاستجابة للشروط المطلوبة، في مشهد مكرر لجلسة سابقة في يوليو/تموز الماضي.
في آخر تصويت، نجت رئيسة المفوضية من حجب الثقة في مذكرة تقدم بها اليمين المتطرف بفضل دعم حلفائها، لكن النتائج أشارت إلى تراجع في نسبة الرضا مقارنة بعدد النواب الذين صوتوا مع تنصيبها في نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
وفي حين خيّر غالبية النواب آنذاك منح السياسية الألمانية "فرصة أخيرة" على رأس المفوضية، كما ذكرت كاتارينا بارلي نائبة رئيس البرلمان عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي، فإن استهدافها من جديد بمذكرتين لسحب الثقة صادرتين عن اتجاهات سياسية متباينة في البرلمان الأوروبي، يطرح اليوم أسئلة بشأن مستقبلها السياسي على رأس الجهاز التنفيذي للمؤسسة الأوروبية.
وقد هاجم عدد من البرلمانيين فون دير لاين، متهمين إياها بالتواطؤ في الإبادة المرتكبة بقطاع غزة، وبغياب الشفافية، والميل إلى المركزية المفرطة في اتخاذ القرار، فضلا عن التراجع عن الاتفاق الأخضر، وانتهاك الإجراءات المؤسسية للاتحاد الأوروبي.
تقود كتلة "وطنيون من أجل أوروبا" التي تضم تحالفا لنواب حزب "فيدس" المجري ونواب " التجمع الوطني " الفرنسي و"الرابطة" الإيطالية، جهود اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي للإطاحة برئيسة المفوضية.
ونجحت الكتلة، التي تعد الثالثة من حيث الحجم في البرلمان، في جمع عدد أعلى من التوقيعات المطلوبة، حيث أمضى جميع أعضائها، البالغ عددهم 85 عضوا، على مقترح مذكرة حجب الثقة، مما يُلزم رئاسة البرلمان بتحديد موعد لإجراء التصويت بمجرد عرضها رسميا.
وعلى غرار المحاولة الأولى في يوليو/تموز الماضي، قد لا تفضي المحاولة الثانية إلى تحقيق تطلعات اليمين المتطرف لحجب الثقة عن فون دير لاين، ذلك أن اليمين والوسطيين والديمقراطيين الاجتماعيين لم يعلنوا عن أي نوايا لتنحيتها من منصبها، على الرغم من التحفظات التي أبداها بعض نوابهم تجاه أدائها.
ولكن من المتوقع أن تزيد المبادرة من الضغوط على أورسولا فون دير لاين. ويتوافق هذا مع خطط اليمين المتطرف التي كشف عنها النائب الروماني المحافظ جورجي بيبيريا من كتلة "المحافظين والإصلاحيين"، في تصريحاته من أن الهدف من المقترح هو "فتح صندوق باندورا".
ولهذا السبب، ينظر اليمين المتطرف إلى نتائج التصويت على المقترح الأول لحجب الثقة في تموز/يوليو الماضي، بجمعه 175 صوتا معارضا من أصل 533 عضوا حاضرا في التصويت، كنصر رمزي يمكن تعزيزه في محاولة ثانية، مما يتيح تدريجيًا توسيع دائرة المعارضين لرئيسة المفوضية.
وإجمالا، تتلخص تحفظات كتلة اليمين المتطرف، التي تضم نوابا قريبين من موسكو، ضد رئيسة المفوضية، في عدد من الملفات، من بينها:
على الجانب الآخر، ترى كتلة اليسار المكونة من أحزاب مثل "فرنسا الأبية"، وحزب "بوديموس" الإسباني، و"حركة النجوم الخمس" الإيطالية، أن سياسات رئيسة المفوضية تتعارض أكثر من أي وقت مضى مع تطلعاتها في أكثر من ملف، أبرزها المواقف المتقاعسة تجاه حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، والصندوق الاجتماعي، وقضايا المناخ، لهذا ترى الكتلة أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى تغيير ملحّ لا تكون فيه فون دير لاين على رأس المفوضية.
ومع أن رئيسة المفوضية كانت قد أعلنت في سبتمبر/أيلول الجاري عن حزمة قرارات ضد إسرائيل، فإن هذه الخطوة يُنظر لها في توقيتها كبادرة سياسية متأخرة جدا، ولا تعكس التزاما مبدئيا باحترام القانون الدولي .
وتحمل مواقف النائب اليساري عن حزب العمل البلجيكي في البرلمان الأوروبي، مارك بوتينغا، عدة مآخذ صريحة تجاه سياسات فون دير لاين في ملف الإبادة في غزة، بما في ذلك إعلانها المتأخر عن تعليق تمويل جزئي لإسرائيل في خطابها عن حالة الاتحاد، في الوقت الذي تدعو فيه كتلة اليسار إلى وقف كامل وفوري لجميع أشكال التعاون، وفرض عقوبات على الدولة العبرية، باعتبارها الطريقة الأكثر مصداقية للتصدي لجرائم إسرائيل.
ووجهت لها أيضا النائبة اليسارية مانون أوبري، اتهاما مباشرا بالتواطؤ في الإبادة المرتكبة في غزة، والإحجام عن إعلان عقوبات ضد إسرائيل رغم مخالفتها لمضمون الفصل الثاني حول حقوق الإنسان في اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، والقانون الأوروبي بشكل عام.
بجانب ذلك، تواجه رئيسة المفوضية انتقادات حادة داخل اليسار، بسبب رفضها المستمر الحديث عن إبادة جماعية في القطاع، على خلاف نائبتها الاشتراكية الإسبانية تيريزا ريبيرا، رغم القتل الجماعي المستمر للمدنيين، بما في ذلك النساء والأطفال، منذ نحو عامين.
لا يقف تعنت فون دير لاين في نظر اليسار على الإبادة في غزة فحسب، بل يشمل أيضا تعارض سياستها مع الأولويات الحارقة للمواطن الأوروبي، ومن بينها أساسا مسألة تمويل صندوق التماسك الاجتماعي، حيث تتصدر المخاوف من استحواذ مشاريع الدفاع والأمن، في استثمارات تُقدّر بـ150 مليار يورو، على التمويلات الموجهة إلى برامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية في الدول الأقل نموا.
وفي هذه النقطة، يعلق بوتينغا على الموقع الرسمي لحزب العمل البلجيكي: "لسنوات، قيل لنا إنه لا توجد أموال للأزمة الاجتماعية أو لمكافحة تغيّر المناخ. فجأة، يتم توفير مليارات الدولارات، ستُكلّف المواطنين الأوروبيين غالبا. وسيأتي هذا على حساب معاشاتنا التقاعدية وحقوقنا الاجتماعية".
في هذا السياق، يركّز اليسار في تحفظه على نقطتين رئيسيتين:
والقضية الأخرى أن اليسار لا يرى أي رغبة حقيقية لدى رئيسة المفوضية في منح "الصفقة الخضراء" الزخم الذي تستحقه، وتُثير سياسة فون دير لاين في هذا الملف حالة استياء لدى نواب حزب " الخضر " المتحالفين مع الأغلبية الحاكمة.
ويعتقد "الخضر" أن أجندة المفوضية البيئية قد دُفنت إلى حد كبير تحت ما يسمى بالحزم التشريعية "الشاملة"، مما أدى عمليا إلى تفكيك "الصفقة الخضراء".
وتجد المجموعة نفسها الآن في وضع متناقض داخل البرلمان الأوروبي: فهي من جهة جزء من الأغلبية الحاكمة، ومن جهة أخرى ما فتئت تخسر تصويتات رئيسية حول القضايا البيئية، بالإضافة إلى إصرار رئيسة المفوضية على تبني سياسة هجرة متشددة تتعارض مع الخط السياسي لـ"الخضر".
ويدفع هذا التضارب إلى التساؤل داخل الكتلة حول مدى وجاهة الاستمرار في دعم رئيسة مفوضية لا تدافع عن أجندتهم؟
ويقول محجوب السعيدي، وهو مستشار في الاتصال السياسي ومحلل يعمل في مركز دراسات بتولوز في فرنسا، للجزيرة نت: إن "الصفقة الخضراء عندما عُرضت عام 2019 كانت أحد أبرز الإنجازات، لكن التطبيق الفعلي كشف هشاشتها العملية والاقتصادية، مما دفع آلاف المزارعين إلى الاحتجاج على القيود المفروضة على المبيدات التي تهدد مشاريعهم الزراعية".
وهذا الجدل امتد أيضا إلى داخل حزب الشعب الأوروبي، الذي طالب بمراجعة هذه الإجراءات أو التراجع عنها.
مع ذلك، من غير الواضح انضمام كتلة الخضر والتحالف الأوروبي الحر إلى مقترح اليسار لحجب الثقة عن فون دير لاين، حيث ترى الكتلة أن مناقشة مثل هكذا اقتراح كل شهرين لا يُعد بالسيناريو الأمثل للبرلمان الأوروبي.
وستحتاج كتلة اليسار، التي تضم 46 عضوا، إلى توقيعات إضافية للوصول إلى العدد الأدنى المطلوب (72 إمضاء) من أجل تقديم مذكرة لحجب الثقة. ومن المرجح أن يتم جمع التوقيعات الناقصة من كتل أخرى مثل الاشتراكيين والديمقراطيين أو حركة "تجديد أوروبا".
وفي كل الأحوال، صرّح توماس شانون، المتحدث باسم كتلة اليسار، بأن المقترح "يسير على الطريق الصحيح".
بغض النظر عن مآلات مذكرة سحب الثقة في البرلمان الأوروبي، فإن الحديث عن تراجع الدعم لرئيسة المفوضية لم يعد موضع خلاف، في ظل الانتقادات الصادرة أيضا من دائرة الحلفاء من الوسط والاشتراكيين الديمقراطيين ومن حزب الشعب الأوروبي، الذي تنحدر منه فون دير لاين.
ويشير الخبير محجوب السعيدي، في تحليله للجزيرة نت، إلى أنه بالإضافة إلى تراجع الدعم التلقائي، فإن الاتفاق التجاري مع إدارة ترامب تحوّل إلى نقطة مفصلية في تقييم الأداء السياسي للرئيسة.
ويتصدر أيضا الأسلوب القيادي لفون دير لاين، وانحسار القرارات في محيط مكتبها الضيق مع تهميش واضح لدور البرلمان، لائحة الانتقادات الموجهة لها، كما يلخصها الخبير في الاتصال السياسي عبر تحليله، في النقاط التالية:
تُتّهم رئيسة المفوضية بقصور كبير في الشفافية، رافق خصوصا مفاوضاتها السرية بشأن لقاح فايزر أثناء تفشي وباء كوفيد، واتفاقية "ميركوسور"، ثم اتفاق التجارة مع إدارة ترامب حول الرسوم الجمركية، خارج أي نقاش ديمقراطي علني.
وفي وقت سابق من العام الجاري، خلص كذلك تقرير لـ"محكمة المدققين الأوروبية" من مقرها في لوكسمبورغ، إلى أن التمويلات التي تقدمها المفوضية الأوروبية للمنظمات غير الحكومية، أو ما يُطلق عليهم بجماعات الضغط، لا تتم بطريقة شفافة.
وقد صدرت ملاحظات من داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي ومن نواب حزب الشعب الأوروبي، الذي تنحدر منه رئيسة المفوضية، تشير إلى تجاوزات ارتكبتها "جماعات الضغط" بدعم من المفوضية نفسها، من أجل دفع أعضاء في البرلمان إلى تأييد سياسات بعينها، من بينها سياسة مضادة للصفقة الخضراء.
ومع أن محكمة المدققين الأوروبية لم تتوصل إلى أدلة قاطعة حول ارتباطات مخالفة للقوانين خلف تلك التمويلات الموجّهة للمنظمات غير الحكومية، فإنها في تقريرها النهائي وجّهت توصيات إلى المفوضية تقضي بتحديد التعريف القانوني للمنظمات غير الحكومية، من أجل توضيح معايير الاستقلال عن الحكومات، وتحديث نظام الشفافية المالية الإلكتروني التابع للاتحاد الأوروبي، ووضع آلية تحقق للتثبت من مدى التزام المستفيدين من التمويلات بقيم الاتحاد الأوروبي.
رغم المآخذ العديدة الموجهة لرئيسة المفوضية، فإن الملاحظين لا يتوقّعون نجاح أحد مقترحي سحب الثقة في إزاحتها من المنصب، بالعودة إلى أغلبية الثلثين المطلوبة عند التصويت، والتفاهمات السياسية بين الكتل في البرلمان الحالي.
لكن، ماذا لو حصلت المفاجأة وأُطيح بفون دير لاين من منصبها؟
يُعد هذا الأمر، إن حدث، استثنائيا وبالغ الخطورة من الناحية السياسية، حيث يمكن أن يؤدي، وفق الخبير محجوب السعيدي، إلى نتائج فورية مثل:
وتاريخيا، لم يسبق أن تم عزل رئيس المفوضية عبر التصويت منذ تأسيس المنصب عام 1958، ولكن هذا الأمر كاد أن يحدث لأول مرة عام 1999 بعد اتهام المفوضية بسوء الإدارة المالية، مما دفع جاك سانتر، رئيس المفوضية حينها، إلى الاستقالة قبل موعد التصويت في البرلمان.