في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
غزة- قبيل حلول الليل وصل ضابط الدفاع المدني عبد الله المجدلاوي مع فريقه إلى حي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة ، وكانوا يسيرون بحذر شديد وسط أنقاض المنازل المدمرة جزئيا وكليا.
وكانت المنطقة قد شهدت توغّل جيش الاحتلال الإسرائيلي ، ولم يبقَ منها بعد انسحابه سوى الدمار والركام، وأصوات سيارات الإسعاف التي تتنقل بصعوبة بين الشوارع المدمرة، والغبار يملأ الجو.
عبد الله لم يلحظ شيئا بعد، سوى الصمت المخيف الذي يسبق الكارثة. لكن فجأة، جاء الصوت الخافت: أنين طفل صغير، لا يفصح عنه سوى آهات تحت الركام. كان الطفل أحمد نعيم، محاصرا منذ 10 أيام تحت أنقاض منزله، بلا طعام، بلا ماء، في ظلام دامس.
"سمعت صوته الخافت، كأنما طفل يقول شيئا بين الحروف، لم أصدّق أن هناك من بقي حيا"، يقول المجدلاوي، وهو يستحضر اللحظة، مضيفا "كنت قد انتشلت 7 جثث من المنزل نفسه، كلهم أفراد عائلته تقريبا، وفجأة رأيته.. جسده هزيل جدا، ملابسه ممزقة، كالعظم بلا لحم تقريبا. لم أصدق أنه بقي حيا كل هذه المدة".
لم يكن الأمر سهلا، فالحفر تحت الركام يتطلب دقة وسرعة، ووجود الطفل لا يقلّ صعوبة عن إنقاذ حياة أي إنسان بالغ. استمر المجدلاوي وزميله في العمل لمدة 5 ساعات شاقة، حتى تمكنوا من إخراج أحمد من فتحة ضيقة بالكاد تكفي جسده الهزيل. ومن ثم، نقلوه نصف الطريق ركضا على أقدامهم، في ظروف لم تساعدهم فيها شوارع غزة المدمرة، حتى وصلوا به إلى المستشفى باستخدام عربة كارو وحمار.
وأردف قائلا "كانت لحظة إنقاذه من أصعب اللحظات التي أثرت فيّ، فقد قضى 10 أيام تحت الركام، بلا طعام أو ماء، وسط أصوات القصف المستمر، ثم نجا.. كانت معجزة حقيقية".
هذا الطفل ليس حالة استثنائية، بل مثال على معاناة آلاف الأطفال في غزة الذين يعيشون تحت خطر الموت المستمر. فوفق أحدث التقارير الصادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية، فإن حرب الإبادة على قطاع غزة خلّفت استشهاد وإصابة قرابة 230 ألفا، معظمهم أطفال ونساء، إضافة إلى نزوح مئات الآلاف داخليا.
وخلال قرابة عامين من الحرب على غزة تحول المجدلاوي إلى أحد أيقونات الدفاع المدني في شمال غزة ، إلا أنه ليس البطل الوحيد فالمئات من فرق الدفاع المدني والإسعاف في غزة يحاولون جاهدين مواكبة رقعة الدمار الواسعة، بقدرات محدودة ومتهالكة، بينما يستمر الاحتلال الإسرائيلي في استهداف منازل سكنية بغارات متزامنة، تشتت جهودهم، وتستنزف طاقاتهم.
وبعد أيام على هذه الواقعة، لم يكن عبد الله المجدلاوي يعلم أن يومه سينتهي بصورة محفورة في ذاكرة كل حر. فمع تصاعد القصف الإسرائيلي على غزة، وتحديدا في أحد أحياء المدينة المنكوبة، وصل نداء استغاثة: منزل قُصف، وسكان محاصرون بالنار.
وسط صراخ الناس، ودخان يتصاعد من بين الركام، ظهر عبد الله راكضا، لا يحمل سلاحا، بل يحمل شجاعته.
"فيه امرأة جوّا… جوّا!"، صرخ أحد الجيران.
عبد الله لم ينتظر تعليمات. اقتحم المكان المحترق، يده تحاول دفع الحطام، ونظره يبحث في الظلام والدخان عن أي حياة. لم تمر سوى لحظات حتى سُمع صوته من الداخل: "ساعدوني! بتحترق بإيدي!".
كان يحمل امرأة تحترق، النار التهمت جزءا من جسدها وملابسها. ومع ذلك، لم يتركها. لفَّها ببقايا بطانية، وركض بها خارج المنزل، وهو يصرخ طلبا للمساعدة، بينما لهيب النار لا يزال يشتعل حولهم.
بعد إنقاذها، بدا عبد الله منهكا، لكنه لم يترك السيدة حتى سلّمها إلى طاقم الإسعاف. يداه متفحمتان، ملابسه ممزقة، وصدره يعلو ويهبط من شدّة الدخان، لكنه نجا بها… من الموت.
يقول أحد زملائه في الدفاع المدني "عبد الله ما فكر بنفسه. فكّر كيف ينقذها حتى لو انحرق معاها. وفعلا، أنقذها."
عبد الله المجدلاوي ليس مجرد رجل إنقاذ، إنه شاهد على المأساة اليومية لغزة، يروي للجزيرة نت أصعب موقف واجهه قائلا "ذهبنا لإنقاذ عائلة في مخيم النصيرات . أنقذنا طفلة صغيرة على قيد الحياة، لكن الأم لم نتمكن من الوصول إليها قبل انهيار الركام عليها. شعور العجز أمام الموت مباشرة يقتل القلب".
وفي الحديث عن الضغوط النفسية، يقول المجدلاوي "بصراحة رؤية هذا الكم الهائل من الضحايا يوميا ليس سهلا. نعود إلى بيوتنا صامتين، نتحسس ذكريات الصرخات والأصوات العالقة في أذهاننا. أحيانا أبكي بصمت كي لا يرانا أحد"، لكنه يضيف "نحن اخترنا هذا الطريق، وعلينا أن نصبر ونحتسب".
الحياة تحت الحرب ليست محصورة على رجال الدفاع المدني فقط، بل تشمل الأسر أيضا، يتذكر المجدلاوي لحظة اتصال ابنته الصغيرة "بابا، وينك؟ ليش ما بترجع؟"، بينما كانت أصوات القصف تتسرب عبر الهاتف، يضيف "شعرت بأنني ممزق بين واجبي كإنسان وواجب الأبوة، لكن واجب إنقاذ الأرواح واجب مقدس لا يمكن التراجع عنه".
قوة المجدلاوي والمئات من زملائه في فرق الدفاع المدني والإسعاف المستمرة في مواجهة الخطر تأتي من إيمانهم بالله، ومن شعورهم بالواجب الإنساني، يقول "عندما نرى طفلا يخرج حيا، أو أما تبتسم لأننا أنقذنا ابنها، نشعر أن كل التعب يزول. كلمات الناس ودعواتهم تمنحنا طاقة لا توصف".
ويتابع "المعدات شبه معدومة، وسيارات الإسعاف غالبا لا تستطيع الوصول، حتى الزي الواقي أحيانا غير متوفر، لكن رجال الدفاع المدني يثبتون كل يوم أن الإنسان يمكن أن يتغلب على الظروف القاسية إذا كانت لديه إرادة".
وعن المستقبل، يقول المجدلاوي "أتمنى أن تنتهي الحرب، وإلى أن تنتهي أن نجد دعما حقيقيا: معدات حديثة، تدريبات متقدمة، حماية دولية لطواقم الإنقاذ. أرواح الناس تستحق أن نبذل من أجلها كل شيء".
رسالة المجدلاوي للعالم ليست سياسية، بل إنسانية بحتة يقول "انظروا إلى غزة بعين الإنسانية، لا السياسة. عندما ينهار بيت فوق ساكنيه، نهرع لإنقاذه لأنه إنسان، بغض النظر عن دينه أو لونه. عملنا ليس بطولة فردية، بل صرخة إنسانية تقول: ‘اتركونا نعيش بسلام'".
وعلى الرغم من كل الصعوبات، فإن روح الأمل لا تموت في قلب المجدلاوي فـ"الطفل أحمد، الذي خرج من بين الركام، هو رسالة لكل العالم، بأن هناك دائما فرصة لإنقاذ الأرواح، مهما بدا الأمر مستحيلا".
قصة المجدلاوي ورفاقه في غزة تتكرر كل يوم، فبين الأنقاض والركام، هناك رجال يكتبون حياة جديدة على جدار مأساة لا تنتهي، ويثبتون أن الإنسانية لا تموت حتى في أصعب الظروف.