منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، عندما اندلعت حرب غزة، ظلّت العلاقات الخليجية-الإسرائيلية في حالة توازن هشّ بين مسارات التطبيع من جهة، وضغوط الرأي العام ومقتضيات الوساطة من جهة أخرى.
لكن الهجوم الإسرائيلي على الدوحة في التاسع من سبتمبر/أيلول 2025 نقل هذه العلاقات إلى مرحلة مختلفة تماماً: مرحلة أصبح فيها مبدأ السيادة هو الخط الأحمر الجديد.
الهجوم، الذي استهدف قيادات من حركة حماس أثناء وجودهم في العاصمة القطرية الدوحة، لم يُقرأ خليجياً فقط باعتباره تطوراً عسكرياً خطيراً، بل كرسالة سياسية مباشرة تمسّ أمن دول مجلس التعاون مجتمعة.
ومن هنا جاءت ردود الأفعال التي اختلفت في لهجتها، لكنها التقت عند نقطة أساسية: رفض ما اعتُبر "انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي والسيادة الوطنية".
قبل بدء الحرب لم تكن بين السعودية وإسرائيل علاقات دبلوماسية، لكن الرياض دخلت في محادثات غير مباشرة برعاية أمريكية، ربطتها بحزمة أوسع مع واشنطن تشمل ترتيبات أمنية وبرنامجاً نووياً مدنياً، وبشرط اتخاذ خطوات واضحة في الملف الفلسطيني.
ومع اندلاع الحرب في غزة، علّقت السعودية مسار التطبيع وأكدت في بياناتها ضرورة وقف إطلاق النار وحماية المدنيين، واستضافت في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 قمة عربية-إسلامية استثنائية خرجت بموقف جماعي ضد العمليات العسكرية.
وفي فبراير/شباط 2024، أوضحت الرياض أن لا علاقات دبلوماسية مع إسرائيل من دون اعتراف بدولة فلسطينية، فيما واصلت تفاهماتها الأمنية-النووية مع واشنطن.
وخلال 2025 شاركت السعودية في صياغة مبادرات سياسية، بينها مؤتمر دولي مع فرنسا تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة نتائجه الداعية إلى خطوات ملموسة نحو حل الدولتين.
وبعد هجوم الدوحة في سبتمبر/أيلول 2025، وصفت السعودية العملية بأنها "انتهاك صارخ للقانون الدولي" وأكدت تضامنها مع قطر، لتبقى سياستها على خط ثابت: لا تطبيع من دون دولة فلسطينية، مع تمسك بخطاب قانوني وسيادي واضح، كما أجرى ولي العهد محمد بن سلمان اتصالاً بأمير قطر شدد فيه على "التضامن الكامل" مع الدوحة.
ويتوافق هذا إلى حد كبير مع الإمارات، التي كانت أول دولة خليجية طبّعت مع إسرائيل عبر الاتفاقيات الإبراهيمية، لكن وزارة الخارجية الإماراتية استدعت دبلوماسياً إسرائيلياً وأكدت أن الهجوم "اعتداء غير مقبول على سيادة دولة خليجية"، معتبرة أن "أمن قطر جزء لا يتجزأ من أمن واستقرار مجلس التعاون".
هذا الموقف يعكس معضلة الإمارات: فهي لا تريد خسارة مكتسبات التطبيع، لكنها في الوقت نفسه تُدرك أن التغاضي عن خرق سيادة قطر قد يضرب أساس الثقة بين دول المجلس.
وبصفتها المستهدَفة، اعتبرت الدوحة أن الهجوم يقوّض دورها كوسيط إقليمي، وقال المتحدث باسم الخارجية إن الهجوم "خرق صارخ لكل القوانين الدولية والأعراف"، فيما شدد رئيس الوزراء الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني على أن العملية "تضرب جوهر الوساطة وتجعلها بلا معنى إذا لم تُحترم السيادة".
قطر، التي رعت لسنوات مفاوضات بين إسرائيل وحماس، تجد نفسها أمام سؤال هام متصل بشكل مباشر بالدور الذي اعتادت أن تقوم به خلال السنوات الماضية: هل يمكن أن تواصل الوساطة إذا كان الطرف الآخر لا يعترف بأمنها كدولة مضيفة؟
أما البحرين قد أقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ضمن الاتفاقيات الإبراهيمية (2020)، مع تعاون اقتصادي وأمني محدود وإطار تمثيل متبادل، وظلّ الخطاب الرسمي يربط أي تقدّم بمراعاة الالتزامات الدولية وتهدئة الساحة الفلسطينية.
وبعد اندلاع حرب غزة، أبقت المنامة على العلاقات القائمة دون إعلان عن تفكيكها، وركّزت بياناتها على الدعوة إلى وقف القتال وحماية المدنيين، وتقديم مساعدات إنسانية، مع انخفاض الظهور العلني لبعض الأنشطة المشتركة قياساً بمرحلة ما قبل الحرب.
وطوال عام 2024 ثم 2025، واصلت البحرين اتصالاتها الدبلوماسية في الإطار القائم، مع تأكيد ثابت على المرجعيات الدولية وقرارات الأمم المتحدة، من دون الإعلان عن خطوات توسّع كبيرة في مسار التطبيع خلال فترة الحرب.
وعقب هجوم الدوحة في سبتمبر/أيلول 2025، أدانت المنامة العملية ووصفتها بأنها انتهاك لسيادة دولة شقيقة ومبادئ القانون الدولي، وأعلنت "التضامن والدعم الكامل لقطر"، من غير أن تُعلن إجراءات تمسّ البنية الدبلوماسية القائمة مع إسرائيل.
وبذلك بقيت سياسة البحرين على خطّها العام: الحفاظ على العلاقات المُبرمة ضمن الاتفاقيات الإبراهيمية، مع خطاب سياسي يؤكد السيادة الخليجية والمرجعيات الدولية.
أما الموقف الكويتي فلم يخرج عن ثوابته التقليدية، بإدانة وزارة الخارجية الهجوم ووصفه بأنه "عدوان غير مبرر" و"انتهاك صارخ لسيادة قطر"، وأكدت أن الكويت "ترفض أي شكل من أشكال التطبيع في ظل استمرار الاحتلال".
وأصدر مجلس الأمة في الكويت بيانات متزامنة تؤكد رفض أي انفتاح على إسرائيل، وهو ما يعكس تماهياً بين السلطة التنفيذية والتشريعية في هذا الملف.
وعُمان التي عُرفت بسياساتها الهادئة، انضمت إلى الموقف الخليجي المشترك، وقالت وزارة الخارجية العُمانية إن القصف يمثل "خرقاً خطيراً للقانون الدولي"، ودعت إلى "التحرك الفوري لخفض التصعيد وحماية الاستقرار الإقليمي".
ورغم أن عُمان لا ترتبط بعلاقات دبلوماسية معلنة مع إسرائيل، إلا أنها لطالما احتفظت بقنوات اتصال خلفية.
وبعد الهجوم، بدا أن مسقط حريصة على تأكيد التضامن مع الدوحة، من دون الانجرار إلى تصعيد أكبر.
ما يمكن استنتاجه - في ضوء النصوص الرسمية - أن العواصم الخليجية وحّدت القاموس: "انتهاك صارخ"، "خرق للسيادة"، "تهديد للاستقرار"، مع إجراءات دبلوماسية منضبطة، وهذا كله يرفع "كلفة التجاهل" ولا يعلن - حتى اللحظة - شقّ مسارات عملية جديدة.
على سبيل المثال، أكدت الإمارات رفضها للهجوم واستدعت المبعوث الإسرائيلي، لكنها لم تُعلن عن تجميد تعاون اقتصادي أو فني؛ والسعودية استخدمت أقوى ألفاظ الإدانة القانونية وربطت الحدث بمفهوم الأمن الجماعي، من دون إعلان قرارات تنفيذية على خطوط الاتصال الخلفية؛ وقطر شدّدت شرط السيادة إطاراً لعمل الوساطة، لا إعلاناً عن التخلّي عنها.
بالمختصر، الوضع لم يتغيّر جذرياً: الدول التي وقّعت اتفاقات التطبيع ما زالت متمسكة بها، والدول التي ترفض التطبيع ما زالت ثابتة على موقفها، وقطر ما زالت تواصل دور الوساطة لكن مع تأكيدها أن سيادتها خط أحمر.
الفارق أن هذا الشرط بات مكتوباً بوضوح في بيانات الدول وقرارات المنظمات، كما في عبارة مجلس الأمن التي "شددت على احترام سيادة قطر وضرورة خفض التصعيد"، وفي تعبيرات خليجية متقاربة متعلقة بـ "السيادة".
وبينما يبقى الرأي العام عامل ضغط محسوس، خصوصاً في دول مثل الكويت، تُظهر الوقائع حتى الآن أن الأنماط العملية لم تتغير جذرياً.
والمسار الأرجح، إذا استمرت الأمور عند هذا الحد، هو استمرار إدارة العلاقة مع تشديد قيود السلوك: رسائل قانونية-سيادية أعلى، وإجراءات دبلوماسية أوضح، من دون قرارات قطيعة.
أما الاختبار الفعلي فسيظهر فقط إذا تكرر خرق سيادي مماثل، لا سيّما مع تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن الضربة في الدوحة كانت "عملية إسرائيلية خالصة" وتحذيره من إمكانية استهداف قادة حماس مجددًا حتى داخل قطر، عندها تتضح إن كانت هذه اللغة ستظل سقفاً خطابياً أم تتحول إلى قرارات فعلية تغيّر نمط العلاقة.