تعيش إسرائيل في ظل حرب الإبادة التي تشنها على قطاع غزة مشكلة سياسية كبيرة، وترت علاقاتها ليس فقط مع أغلب دول العالم، وإنما كذلك مع أقرب أصدقائها. ومثّل إعلان المستشار الألماني فريدريش ميرتس فرض حظر على تصدير أسلحة ومعدات قتالية إلى إسرائيل يمكن استخدامها في الحرب، صدمة هائلة للحكومة الإسرائيلية ورئيسها بنيامين نتنياهو. فمثل هذا القرار ليس مجرد إعلان نوايا أو حدث ضئيل التأثير سياسيا وعسكريا واقتصاديا، وإنما هو حدث بالغ الأهمية. فألمانيا هي الحليف الأقوى لإسرائيل في أوروبا، وهي مزود السلاح الثاني في أهميته بعد الولايات المتحدة، ومن الصعب خسارته في هذا الوقت بالذات. كما أن مثل هذا القرار يعني أيضا بداية "التحرر" الألماني من "عقدة الذنب" تجاه المحرقة النازية. وليس صدفة أن نتنياهو اختار، في معاتبته لميرتس، التذكير بالهولوكوست، وبأن مثل هذه القرارات مكافأة لإرهاب حماس. وطبعا لا يمكن فهم حجم النقلة النوعية في القرار الألماني، من دون الإشارة إلى أن ميرتس في دفاعه عن إسرائيل قبل شهور، اعتبرها في حربها تقوم بـ"العمل الأسود" نيابة عن أوروبا.
وجاء القرار الألماني بعد ساعات قليلة من قرار الكابينت الإسرائيلي باحتلال غزة. وهنا يمكن فهم التداعيات السياسية لهذا القرار حيث: أعلنت ألمانيا، التي هي في نظر إسرائيل، أهم دولة في أوروبا، أنها ستتوقف عن إرسال أسلحة إلى إسرائيل يمكن استخدامها في حرب غزة. في تصريح مثير أدلى به المستشار فريدريش ميرتس بعد موافقة الكابينت على خطة نتنياهو، قال فيه إن "الحكومة الألمانية لن توافق حتى إشعار آخر على أي تصدير للمعدات العسكرية إلى إسرائيل التي يمكن استخدامها في قطاع غزة". وأضاف ميرتس أن لإسرائيل "حق الدفاع عن نفسها ضد إرهاب حماس"، وأوضح أنه "لا ينبغي أن يكون لحماس أي دور في مستقبل غزة"، لكنه في الوقت نفسه أعرب عن "قلقه البالغ إزاء وضع السكان المدنيين في غزة".
وجاء القرار الألماني بعد التقارير المتداولة منذ فترة حول ما اعتبر في بعض الأوساط "حظرا صامتا على صادرات الأسلحة" قلّص إلى حد ما نطاق صفقات الأسلحة بينها وبين إسرائيل. ويُعتبر المستشار الألماني، ميرتس، أحد أبرز الحلفاء الرئيسيين لنتنياهو في أوروبا. فميرتس عضو في الحزب المحافظ الذي هاجم في الحملة الانتخابية الأخيرة الحكومة الاشتراكية الديمقراطية السابقة عقب التقارير التي نُشرت آنذاك حول حظر الأسلحة الصامت، ووعد بدعم إسرائيل "من دون تردد". في الأشهر الأخيرة، رفض ميرتس مطالبات داخل ائتلافه بتشديد لهجته تجاه إسرائيل، بسبب الحرب المطولة وتقارير المجاعة في غزة، كما لم تنضم ألمانيا إلى البيان الصادر الشهر الماضي عن 25 دولة، والذي أدان إسرائيل بلهجة قاسية للغاية في أعقاب الأزمة الإنسانية في القطاع. وفقط قبل أسبوعين عرقلت ألمانيا وإيطاليا، وساعدتا في إحباط مقترح بتعليق مشاركة إسرائيل في أجزاء من برنامج "هورايزون أوروبا"، أكبر برنامج بحث وتطوير في العالم للتعاون العلمي والصناعي.
وواضح أنه لا يمكن معرفة أثر قرار الحظر الألماني على الصادرات الحربية إلى إسرائيل، من دون معرفة دور الصناعات الألمانية في التسلح والإنتاج الحربي الإسرائيلي. ويكفي هنا القول مثلا إن ألمانيا منحت إسرائيل، من خلال تزويدها بغواصات "دلفين" القادرة على حمل رؤوس حربية نووية، القدرة على امتلاك الضربة الثانية في حرب نووية. كما أن البوارج وسفن الصواريخ الرئيسية في سلاح البحرية الإسرائيلية من طراز "ساعر" صُنعت بالكامل في أحواض بناء السفن في ألمانيا. لكن هذه ليست سوى عناوين لبعض أوجه التعاون، حيث كان لما عُرف منذ مطلع الستينيات بـ"التعويضات الألمانية" عن الهولوكوست دور مركزي في الارتقاء بمكانة إسرائيل الصناعية والإنتاجية.
ومعروف أن إسرائيل وقعت على شراء 3 غواصات ألمانية متطورة بقيمة 3 مليارات يورو من شركة "تيسنكروب" قبل حوالي عامين، لتحل مكان غواصات دلفين التي ستغدو قديمة في العقد المقبل. وتتبرع الحكومة الألمانية ببعض تكاليف هذه الصفقة، كما حدث مع صفقة غواصات دلفين وقد تتعرض هذه الصفقة إلى نوع من العرقلة على الأقل في المستقبل القريب. ولكن القصة لا تبدأ من هنا ولا تنتهي عند هذا الحد. فمن المعلوم أن قسما مهما من الصناعات العسكرية الإسرائيلية في مجالي الدبابات وناقلات الجند المدرعة الإسرائيلية من طراز ميركافا وطرازي "النمر" و"إيتان" يعتمد بشكل أساسي على محركات وقطع ألمانية.
وأبدت جهات إسرائيلية، بعد القرار الألماني الذي جاء إثر قرار كابينت إسرائيل احتلال قطاع غزة، مخاوف من تأثير الحظر على توريد محركات دبابات ميركافا وناقلات الجند المدرعة مثل نمر وإيتان، التي تصنعها إسرائيل بنفسها في منشآت إنتاج الدبابات التابعة لوزارة الدفاع. وحسب وسائل الإعلام الإسرائيلية فقد طُورت وصُممت هذه المحركات في معهد "إم تي يو" (MTU) الألماني، وتُصنع مكوناتها هناك، حيث تنتج بالكامل في شركة جنرال ديناميكس في الولايات المتحدة، وتشتريها إسرائيل منها بتمويل من صندوق المساعدات الأمنية الأميركي.
وعلاوة على ذلك، تُزود الصناعات الألمانية إسرائيل بقذائف وأنظمة كهروضوئية، ومجمعات تستخدمها الصناعات العسكرية في إنتاج الصواريخ والقذائف وأنواع مختلفة من الذخائر. واعترف مصدر في الصناعات العسكرية الإسرائيلي في مقابلة مع موقع كالكاليست بأنه "منذ اندلاع الحرب، شهدنا العديد من القيود على الأسلحة من قِبل العديد من الدول، لكن الحظر الألماني يُمثل ضربة قاسية". وأضاف "أجرؤ على القول إن العديد من العاملين في إدارة المشتريات بوزارة الدفاع يعانون من قلق شديد اليوم، ليس فقط بسبب أعباء العمل الثقيل". كما صرح مصدر إسرائيلي مطلع على العلاقات مع ألمانيا لموقع كالكاليست بأن "إعلان المستشار رسميا عن حظر الأسلحة على إسرائيل يمثل مأساة كبرى. ومع ذلك، يجب ألا ننسى أن هذه الخطوة يائسة من صديق عزيز يريد الأفضل لإسرائيل".
ومع ذلك حاولت بعض الجهات في إسرائيل ادعاء أن أثر الحظر الألماني محدود، وأن طاقم وزارة الدفاع المكلف بالمشتريات في ألمانيا صغير. ولذلك لا يمكن مقارنة المشتريات من ألمانيا بما تشتريه إسرائيل من الولايات المتحدة. ومع ذلك تضطر هذه الجهات للاعتراف بأن ألمانيا تُعد مورّدا لقطع غيار الأسلحة الإستراتيجية لدولة إسرائيل. فهي من أنتجت أسطول غواصات "دلفين" التابع للبحرية، كما أنها التي بنت سفن الصواريخ الكبيرة "ساعر 6″، ذات القدرات الإستراتيجية. ومع ذلك تخشى إسرائيل من اتساع نطاق الحظر الألماني وتأثيره على بيع المكونات والأسلحة، التي لا تُستخدم بشكل مباشر في القتال ضد حماس في غزة.
وتقر هذه الجهات أيضا أن ألمانيا مورد رئيس لبعض مركبات الجيش الإسرائيلي ووكالات الإنقاذ المختلفة في إسرائيل؛ فهي مورد سيارات الإسعاف للجيش الإسرائيلي، كما بدأت منظمة نجمة داود الحمراء مؤخرا بشراء مئات سيارات الإسعاف من مرسيدس. ومن المركبات الأخرى التي تشتريها إسرائيل من ألمانيا للجيش الإسرائيلي الشاحنات، خصوصا ناقلات الدبابات.
ولكن ألمانيا ليست فقط مصدر سلاح لإسرائيل، بل هي أيضا مستورد لأنواع من الأسلحة بينها صواريخ حيتس، التي تحاول ألمانيا الاعتماد عليها في ظل الحرب الأوكرانية- الروسية.
بالإضافة إلى بيع المعدات الألمانية الصنع لإسرائيل، تُعد ألمانيا من أبرز زبائن المعدات الإسرائيلية بين الدول الأوروبية. وقد اشترت ألمانيا أنظمة دفاع إسرائيلية، مثل "حيتس 3″ و"القبة الحديدية". كما أنها، وفق صحيفة "معاريف" تشتري أنظمة كشف ورادار.
ثم أن ألمانيا معروفة عالميا بإجراء اختبارات دقيقة، تدفع العديد من الدول إلى الاعتماد على قراراتها والسعي إلى شراء أسلحة مشابهة لما تشتريه.
وكما سلف فإنها إلى جانب كونها موردا مهما للمكونات والأنظمة المستخدمة في احتياجات الصناعة الحربية الإسرائيلية، تُعد أيضا أحد العملاء الرئيسيين لصناعاتها الدفاعية. ومن المقرر أن تبدأ الصناعات الجوية الإسرائيلية خلال الأشهر المقبلة بتزويدها بنظام الدفاع الجوي "حيتس 3" الذي اشترته ألمانيا منها بعد نشوب حرب غزة مقابل مبلغ ضخم يقارب 4 مليارات دولار. تُعد هذه أكبر صفقة دفاعية في قطاع صناعة الأسلحة الإسرائيلي، وهي المرة الأولى التي يصدَر فيها نظام "حيتس" إلى الخارج.
بالإضافة إلى صواريخ "حيتس"، التي تستخدمها ألمانيا لحماية نفسها ودول أوروبية أخرى من الهجمات الصاروخية الروسية، وقّعت الصناعات الجوية الإسرائيلية عدة صفقات مع ألمانيا في السنوات الأخيرة لتوريد طائرات مسيرة من طراز "هيرون". ومع ذلك، أعلنت شركة "إلبيت سيستمز" قبل أيام عن صفقة بقيمة 260 مليون دولار تقريبا، ستزود بموجبها شركة "إيرباص" بأنظمة دفاع صاروخي لتركيبها على طائرات النقل "إيه 400 إم" (A400M) التي سيتم تسليمها لسلاح الجو الألماني في السنوات المقبلة.
وطبيعي أن يُنظر للقرار الألماني عبر منظار الرؤية والقرارات الأوروبية المتلاحقة. حيث إن هذا القرار يعني انضمام ألمانيا إلى قائمة طويلة من الدول الأوروبية التي تقيّد إمدادات الأسلحة إلى إسرائيل أو المواد الخام والمكونات المستخدمة في إنتاجها، خصوصا في هذه الفترة الاستثنائية بالذات. فقد حاولت بعض هذه الدول، مثل إسبانيا، عدة مرات خلال العام الماضي عرقلة توريد الأسلحة من الولايات المتحدة إلى إسرائيل، عبر منع السفن التي تحمل ذخيرة وجرافات "دي-9" (D-9) المخصصة للجيش الإسرائيلي من الرسو في موانئها البحرية.
كما عرقلت فرنسا عدة مرات مشاركة الشركات الحربية الإسرائيلية في معارض الأسلحة الدولية التي أقيمت هناك، وأوقفت جميع تراخيص تصدير الأسلحة من أراضيها إلى إسرائيل. كما فرضت بريطانيا وكندا وهولندا وبلجيكا قيودا على صادرات الأسلحة إلى إسرائيل. وكانت مصادر مختلفة أكدت في الماضي أن هذه الدول كانت في معظم الحالات مصدرا للمواد الخام والتركيبات الفرعية التي تستخدمها الصناعات في إنتاج الأسلحة.