لم تكن الضربة الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت العمق الإيراني حدثًا عابرًا في الصراع الإقليمي، بل شكّلت محطة مفصلية في إعادة صياغة التوازنات، من طهران إلى بيروت. إذ امتد تأثيرها المباشر إلى أحد أبرز حلفاء إيران الخارجيين، وهو حزب الله، الذي وجد نفسه فجأة في موقع الدفاع، لا الهجوم، أمام أسئلة مصيرية تتصل بوظيفته، وقدرته على الرد، وحدود تحركه.
الواقعية السياسية تفرض اليوم قراءة معمقة لموقع الحزب بعد الضربة: هل يملك قرار التدخل؟ أم إن الواقع اللبناني والإقليمي والدولي يدفعه إلى ما يشبه الشلل الإستراتيجي؟ وهل الدخول في حرب جديدة بات خيارًا ممكنًا، أم عبئًا لا قدرة له على تحمله؟
والأكيد اليوم وبعد الحرب الإسرائيلية المدمرة على لبنان الصيف الفائت، بدا أن الواقع اللبناني الداخلي لا يشكّل أرضية خصبة لأي مغامرة عسكرية جديدة. فمنذ انطلاق المواجهة المحدودة على الجبهة الجنوبية عقب 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تعرّضت بيئة حزب الله لخسائر ضخمة، أبرزها اغتيالات طالت قادة سياسيين وميدانيين على رأسهم الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله، إضافة لدمار شامل في البنية التحتية الجنوبية، وتهجير مئات الآلاف من السكان، وسط غياب شبه كامل للدولة، وتباطؤ واضح في تدفق المساعدات.
يُضاف إلى ذلك أزمة إعادة الإعمار، التي باتت مشروطة سياسيًا، وربطت الدول المانحة أي تمويل فعلي بإحداث تغيّر في تموضع الحزب وسلاحه. هذا الواقع خلق أزمات متنقلة داخل البيئة الحاضنة للحزب، التي بدأت، بصوت خافت، تُراجع كلفة الصراع وجدوى استمرار معادلة المواجهة بالشكل الحالي.
ولا يمكن القفز فوق الاحتقان الداخلي والذي لم يقف عند حدود البيئة الشيعية فقط. فالانقسام السياسي الحاد، وعجز الحكومة على البدء بورشة إعمار وإصلاح إداري، باتت كلها عناصر تضغط باتجاه التهدئة لا التصعيد. فلا غطاءَ داخليًا جامعًا للحرب، ولا موقفَ لبنانيًا موحدًا يمكن أن يمنح الحزب شرعية الرد الواسع، وهو ما يزيد من حرج قيادته أمام جمهور بدأ يشعر أن الحرب صارت عبثًا، وأنه لا أحدَ يشاركه في الكلفة أو القرار.
إذا كان حزب الله قد نجح لعقود في تثبيت حضوره الإقليمي عبر شبكة إمداد تمتد من إيران إلى لبنان عبر العراق وسوريا، فإن هذا المسار بات اليوم شبه معطّل. فسوريا التي شكّلت عمقًا إستراتيجيًا للحزب، تغيّرت قواعدها. فصعود الرئيس أحمد الشرع إلى السلطة، والانفتاح الخليجي والغربي على دمشق، أعادا تشكيل توجهات النظام السوري.
فالنظام الجديد، الذي يسعى لإعادة تأهيل نفسه على الساحة الدولية، ليس بوارد الدخول مجددًا في لعبة المحاور، خصوصًا إذا كان ثمن ذلك هو نسف أي مسار تفاوضي مع الغرب، وخاصة أن سوريا اليوم باتت في مرحلة تجريبية.
وهذا التحوّل يضع الحزب أمام مأزق عملياتي، إذ لم تعد الحدود السورية مفتوحة كما كانت، كما لم تعد دمشق التي خبرها الحزب وتحالف معها لثلاثة عقود مستعدة لدعم دور الحزب الإقليمي، في ظل الحديث عن فتح مسار تفاوضي إسرائيلي- سوري، ما يجعل من حزب الله عبئًا حتى على من كان يعدّه حليفًا.
وثمة تأكيد واضح لدى الأطراف الدولية والإقليمية أن انجرار المنطقة ولبنان للحرب بات أمرًا غير مسموح، فمنذ الساعات الأولى للضربة، فتحت عواصم إقليمية وغربية قنوات اتصال مع حزب الله، في محاولة لاحتواء الموقف. وسمع الحزب خلالها من هذه الأطراف مطالبهم بعدم الانجرار إلى الرد، أو على الأقل ضبطه ضمن الحدود اللبنانية، ومنع أي اتساع في رقعة الحرب.
اللافت أن هذه الوساطات لم تأتِ نتيجة الخوف من ردّ إيراني مباشر، بل من إمكان استخدام حزب الله كمنصة لإشعال حرب إقليمية موسّعة، وهو ما تسعى واشنطن وحلفاؤها لتفاديه، خلافًا لما يطمح إليه بنيامين نتنياهو، الذي يُراهن على انفجار شامل يعيد خلط الأوراق.
حتى الآن، يتعامل الحزب بحذر شديد. يلوّح بالرد، لكنه لا يتعهد به. يصدر إشارات تهدئة، لكنه لا يتخذ القرار بالذهاب نحو تفعيل الرد. لذا فالتريث هو العنوان، لا لأن الحزب لا يريد الحرب دفاعًا عن الحليف الأبرز، بل لأن شروطها لم تعد متاحة كما في السابق.
والمؤكد أن حزب الله كغيره من الأطراف ينتظر تطورات الواقع الإقليمي الجديد للبناء عليها، وخاصة مع الزيارة المرتقبة للمبعوث الأميركي لسوريا ولبنان، توم باراك، والذي سيحمل عرضًا شبيهًا بما حمله سابقًا سلفه آموس هوكشتاين قبل أشهر، والذي يقضي بانسحاب إسرائيلي من مزارع شبعا، مقابل انسحاب حزب الله من معادلة الصراع. لكن هذه المرة، العرض ليس مغلفًا بالليونة الدبلوماسية. فباراك يأتي برسالة حاسمة: "إما القبول الكامل بالشروط الأميركية، أو ترك لبنان لمصيره في وجه إسرائيل".
المبادرة تتجاوز مجرد ملف الحدود. هي جزء من ترتيبات إقليمية أوسع تشمل سوريا، التي تُدفع دفعًا نحو تطبيع مع تل أبيب مقابل ضمانات أمنية، وصفقات إعادة إعمار. ولبنان، إن رفض، سيُترك لمصيره، مع تهديد أميركي صريح بعدم الاستمرار في الوساطة أو تقديم الحماية السياسية.
هذا المسار يحمل تداعيات جذرية على لبنان. فإذا ما حصلت تسوية سورية – إسرائيلية، فإن لبنان سيكون معزولًا، يراوح في أزمته، فيما تسير دمشق نحو إعادة دمجها إقليميًا. عندها، لن يعود سلاح حزب الله ورقة قوة، بل عبئًا إستراتيجيًا بالنسبة لأطراف الصراع في البلاد.
حزب الله يدرك حجم الثقل والحدث، وهو الخارج من حرب طاحنة وصل صداها لكل المشرق والمغرب، وعليه فإنه سيسعى لتجنب الانخراط في ملحمة عسكرية شائكة، مرتكزًا على الواقع الشيعي اللبناني والتحديات الجغرافية ووقائع داخلية لا يمكنه تجاوزها بأي شكل من الأشكال.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.