في ساحة القديس بطرس في الفاتيكان، كان يسوع، الطفل الرضيع المنحوت من خشب الزيتون، مستلقياً على ظهره ملفوفاً بالكوفية الفلسطينية. حول تمثال يسوع توزعت مجسمات خشبية مصنوعة من شجر الزيتون الفلسطيني أيضاً، ومن فوقها نجمة بيت لحم التي كتب عليها باللغة اللاتينية "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة." على طرف المشهد ظهر البابا فرنسيس على كرسي متحرك في حفل الكشف عن مشهد الميلاد التقليدي، ليرسل رسالته: "كفى حروباً، كفى عنفاً!".
كان ذلك في الأسبوع الأول من كانون الأول/ ديسمبر العام الماضي. اللوحة الفنية التي صممها فلسطينيان بعنوان "ميلاد بيت لحم 2024"، كانت بمثابة تذكير بأولئك الذين "يعانون من مأساة الحرب في الأرض المقدسة وأجزاء أخرى من العالم"، بحسب ما صرح البابا فرنسيس.
المشهد أثار جدلاً حينها، بين مرحب ومنتقد. وهذا الجدل، برمزيته ربما يعكس الى حد كبير خصوصية الحقبة التي ترأس خلالها البابا فرنسيس الفاتيكان، الفترة التي "لن تتكرر"، بالنسبة لمحبيه. فبخلاف من سبقه، حافظ البابا فرنسيس على علاقة دافئة مع الدول العربية، لم تقتصر على مسيحيي المشرق بالتأكيد.
العلاقة المتميزة التي ربطت البابا فرنسيس بالشرق الأوسط لم تتمثل فقط بمواقفه الواضحة تجاه الصراعات في المنطقة، والتي يصفها البعض بأنها"جريئة". بل لقد كان أيضاً أول بابا يزور دولاً في شبه الجزيرة العربية ويلتقي بقيادات من الطائفة الشيعية في العراق، إضافة الى توقيعه لاتفاقية "الأخوة" التاريخية مع شيخ الأزهر الشريف أحمد الطيب.
بالنسبة للقس نديم نصار، المدير التنفيذي لمؤسسة "وعي" الإنسانية الخيرية فإن البابا فرنسيس كان لديه "شغف بالشرق الأوسط – بيئة المسيحيين الأولى- واهتمام بمشاكله،" و كان على "وعي بأنه إن فرغ الشرق الأوسط من المسيحيين فستكون هذه كارثة لمسيحيي العالم" لأننا بذلك نفقد التواصل بين حقبة يسوع المسيح والقرن الواحد والعشرين، فمسيحيو الشرق هم همزة الوصل بين الاثنين."
كان البابا فرنسيس محط أنظار العالم الى جانب شيخ الأزهر الشريف أحمد الطيب عندما التقيا في الرابع من شباط/فبراير 2019 في أبو ظبي بالإمارات للتوقيع على وثيقة "الأخوة" الإنسانية التي تهدف إلى تعزيز العلاقات الإنسانية، وبناء جسور التواصل والتآلف والمحبة بين الشعوب، إلى جانب التصدي للتطرف وسلبياته.
ويصف أنطوان قربان، الأستاذ في جامعة القديس يوسف، وجامعة القديس جورجيوس ببيروت، وثيقة "الأخوة" بأنها من "أهم وثائق العقل البشري،" وحجر الزاوية لدبلوماسية الفاتيكان التي يختصرها البابا بجملة "إما نحن أخوة أو أعداء... لا يوجد خيار ثالث".
وبحسب الأستاذ قربان، فإن الانفتاح على الأديان الأخرى لم يبدأ بحقبة البابا فرنسيس، وإنما يعود الى فترة الستينات عندما صدرت وثيقة "نوسترا أيتاتي"، ومعناها باللغة العربية "في عصرنا"، عن المجمع الفاتيكاني والتي تحدد علاقات الكنيسة الكاثوليكية مع الإسلام والأديان الأخرى. امتنعت الوثيقة عن تكفير الديانات الأخرى كما كان يحدث من قبل، بل وأجلت لها الاحترام. "هذه وثيقة أساسية لفهم سياسة حاضرة الفاتيكان أو الكرسي الرسولي"، يضيف قربان، متابعاً أنه بعدها فتحت أبواب الكنيسة الكاثوليكية على العالم، ما بدا أنه تحول استراتيجي بدأ مع البابا يوحنا بولس الثاني، وكأن حاضرة الفاتيكان والكرسي الرسولي يغيران استراتيجيتهما الدبلوماسية بشكل يقدم روما كسلطة روحانية طورت ذاتها لتصبح "العمود الفقري لدبلوماسية أخلاقية مبنية على اعتبار الإنسان أخا لكل إنسان."
المقاربة ذاتها، بحسب قربان، تكللت في عهد البابا فرنسيس في القاهرة في 2017 عندما دعا شيخ الأزهر أحمد الطيب ومجلس حكماء المسلمين لعقد مؤتمر موسع يناقش المواطنة بحضور البابا فرنسيس، وكافة الكنائس.
ولد الكاردينال برغوليو (البابا فرنسيس لاحقا) في 17 كانون أول/ديسمبر عام 1936 في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس. وهو أول بابا من أمريكا اللاتينية وأول يسوعي في الوقت نفسه يصل إلى رأس الكنيسة الكاثوليكية. وبيرغوليو هو أول بابا يختار اسم فرنسيس، وذلك تكريما للقديس فرنسيس الأسيزي الذي تخلى عن ثروته من أجل مساعدة الفقراء.
نشأ البابا فرنسيس في الأرجنتين وتأثر بلاهوت التحرير الذي برز بصورةٍ رئيسة في أمريكا اللاتينيّة في النصف الثاني من القرن العشرين، ويقوم على مبدأ أساسي يرى أن الإنجيل يفرض خيار الانحياز إلى الفقراء.
وبحسب نصار، كان البابا فرنسيس يتسم بـ"التواضع والتقشف والزهد،" فهو لم يجلس على كرسي مُذهبة أو يحمل صولجانات وتيجان من الذهب على حد تعبيره. ويتابع أن البابا "عاش في شقة بجانب الفاتيكان، وكان لديه ثوبان فقط، ولم يره أحد يلبس المجوهرات. هو متواضع بنشأته ورهبنته وطريقة حياته."
تزامنت حقبة البابا فرنسيس مع الكثير من التقلبات والنزاعات التي تعصف بالشرق الأوسط، إلا إنه تعامل معها بحساسية عالية. فبعد أيام قليلة فقط على سقوط حكم الأسد في سوريا ووصول الفصائل الإسلامية بقيادة "هيئة تحرير الشام" الى الحكم، صلى بابا الفاتيكان من أجل بلوغ حل سياسي في سوريا لتعزيز استقرار البلاد ووحدتها وخير شعبها، بحسب ما نقل موقع أخبار الفاتيكان حينها.
وأكد البابا فرنسيس في ختام مقابلته العامة مع المؤمنين متابعته بشكل يومي لما يحدث في سوريا، وصلاته كي يعيش الشعب السوري في سلام وأمن على "أرضه الحبيبة ... في البلاد التي عانت من سنوات كثيرة من الحرب،" بحسب ذات المصدر.
وكرجل دين مسيحي سوري مهتم بحوار الأديان، يرى نصار أن البابا كان "سباقا ورائدا بهذا الموضوع، أكثر من أي بابا آخر في تاريخ الفاتيكان، وقدم الكثير للحوار."
التطورات الكبيرة في سوريا حدثت بعد أيام قليلة فقط من التوصل لإعلان وقف إطلاق النار في لبنان بعد أسابيع من الضربات العسكرية الإسرائيلية. وكان البابا فرنسيس قد أعرب أيضا عن حزنه إزاء ما يحدث في لبنان وقربه من الشعب اللبناني وصلاته من أجله، راجيا أن يبذل المجتمع الدولي كل الجهود الممكنة من أجل إيقاف هذا التصعيد الرهيب وغير المقبول، على حد وصفه.
تصريحات مشابهة أدلى بها البابا، قبيل عيد الميلاد في كانون الأول /ديسمبر الماضي عندما أدان غارة جوية إسرائيلية أسفرت عن مقتل سبعة أطفال من العائلة ذاتها في شمال قطاع غزة، ووصفها بالـ "قاسية".
وحرص البابا كزعيم للروم الكاثوليك البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة، على الحذر بشأن اتخاذ موقف متعلق بأي من الصراعات، لكنه كان أكثر صراحة بشأن الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة. ففي مقتطفات من كتاب نُشر في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، دعا البابا إلى إجراء "دراسة متأنية" بشأن ما إذا كان الوضع في غزة "يتوافق مع التعريف التقني" للإبادة الجماعية، وهو اتهام ترفضه إسرائيل.
ويذكر أنطوان قربان في حديثة لـ "بي بي سي عربي" أن البابا "كان يتصل باستمرار وبشكل شخصي مباشرة بالمسؤولين عن الرعية المسيحية في غزة خلال الحرب الإسرائيلية." ويصف قربان البابا فرنسيس بأنه "رجل شجاع ولا يخاف من الحقيقة."
لم يقتصر اهتمام البابا فرنسيس على التطورات المتعلقة بالحروب الإسرائيلية مع دول الجوار، بل على مدار أكثر من عقد من ترأسه الفاتيكان أظهر الحبر الأعظم تعاطفه وتفاعله مع أحداث كثيرة في العالم العربي، واهتماماً عالياً بمد الجسور والحوار عبر عنه بمناسبات عديدة.
وكان البابا قد قام بزيارة تاريخية للعراق في مارس/آذار2021 حيث ناقش وضع الأقلية المسيحية في البلاد، وأدان التطرف الديني. وجمعته قمة روحية بالسيستاني، المرجع الديني الأعلى للشيعة، الطائفة الدينية الأكبر في العراق، ليصبح أول بابا للفاتيكان يلتقي بمرجعية شيعية على هذا المستوى.
وبحسب قربان، كانت هناك طلبات ملحة لعقد اللقاء في النجف الأشرف لـ"إضفاء رمزية على الزيارة" و كرسالة مفادها أن الكنيسة لا تصطف مع فئة معينة مسلمة ضد فئة بل "تحترم كل الرمزيات المقدسة."
رحلة بابا الفاتيكان للعراق كانت واحدة فقط من عدة جولات قام بها إلى الشرق الأوسط، إذ زار مملكة البحرين في العام التالي للمشاركة في "منتدى البحرين للحوار". ومنذ توليه رئاسة الفاتيكان عام 2013، زار الحبر الأعظم عدة دول عربية من بينها الإمارات في 2019، حيث يعيش نحو مليون مسيحي من طائفة الروم الكاثوليك، معظمهم من الفلبين والهند. وكان بذلك أول بابا يزور شبه الجزيرة العربية.
وقبل ذلك، في نيسان/أبريل 2017، التقى البابا فرانسيس بالبابا تواضروس، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقصية في مصر، لمواساته في ضحايا تفجيرين استهدفا كنيستين في شمال مصر قبل أسابيع قليلة. أما زيارته الأولى للشرق الأوسط فكانت للأردن، بعد عام واحد من ترأسه الفاتيكان، في جولة شملت الأراضي الفلسطينية وإسرائيل.
وبحسب نصار، فإن البابا "كان واعيا بشكل أكبر بأهمية القضايا العربية وأحقيتها. فهو لم يأخذ طرفا، بل كان واعيا بمظلومية الناس في الشرق سواء من كان تحت سلطة الديكتاتوريات أو الدين الفاسد. "
إلى أي مدى يمكن للبابا القادم أن يفهم تعقيدات العلاقات الدينية والسياسية في الشرق الأوسط؟
يرى قربان أنه "بالنسبة للعالم العربي هناك أهمية خاصة للمشرق العربي وبلاد الشام نقطة تلاقي الأديان ومهد الأديان،" مضيفاً أن البابا فرنسيس لم يكن "منحازا لا غربيا ولا شرقيا وإنما منحازا للإنسانية."
يتفق معه القس نصار الذي يعتبر أن وجود البابا بالحقبة الماضية كان "هدية" بالنسبة للمنطقة و"كأنه كان هناك مخطط إلهي أن يأتي شخص يفهمنا بهذا الوقت،" متابعاً أنه لم يسبق البابا فرنسيس "من قدر على فهمنا كمشرقيين بتعدديتنا وتنوعنا"، وأنه "ليس من السهل أن يتكرر".