من أغرب التداعيات التي تفرزها حرب الرسوم الجمركية على الاقتصاد الأميركي، انخفاض قيمة الدولار وما يتبعها من فقدان المستثمرين الثقة في الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب ، مما يعيد للأذهان ما أصاب الجنيه الإسترليني عقب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 مع اختلاف السياق في الحالتين.
ترتفع العملات وتنخفض باستمرار بسبب المخاوف من التضخم، وتحركات البنوك المركزية، إلى جانب عوامل أخرى. لكن خبراء الاقتصاد يخشون أن يكون الانخفاض الأخير في قيمة الدولار حادا، لدرجة أنه يعكس أمرا أكثر خطورة في ظل سعي ترامب لإعادة تشكيل التجارة العالمية وهو فقدان الثقة في الولايات المتحدة .
عززت الإدارات الأميركية السابقة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي هيمنة الدولار على التجارة عبر الحدود، كملاذ آمن، لعقود من الزمن، لأنها تساعد على إبقاء تكاليف الاقتراض الأميركية منخفضة، وتسمح لواشنطن باستعراض قوتها في الخارج، وهي مزايا هائلة قد تختفي إذا تضررت الثقة بالولايات المتحدة.
يقول الخبير الاقتصادي بجامعة كاليفورنيا باري آيكنغرين "لقد بُنيت الثقة والاعتماد العالميان على الدولار على مدى نصف قرن أو أكثر. لكن هذا الاعتماد قد يتلاشى في لمح البصر".
ومنذ منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، انخفض الدولار بنسبة 9% مقابل سلة من العملات، وهو انخفاض نادر وحاد، ليصل إلى أدنى مستوى له في 3 سنوات.
لا يعتقد العديد من المستثمرين، الذين يخشون ترامب، أن الدولار سيتزحزح سريعا عن مكانته كعملة احتياطية عالمية، بل يتوقعون انخفاضا بطيئا. لكن حتى الانخفاض يعد مخيفا بما فيه الكفاية، بالنظر إلى الفوائد التي ستفقد بسببه.
ومع تداول معظم سلع العالم بالدولار، ظل الطلب على العملة الخضراء قويا حتى مع مضاعفة الولايات المتحدة للدين الفدرالي خلال 12 عاما، وقيامها بأمور أخرى من شأنها عادة أن تدفع المستثمرين إلى الفرار.
وسمح ذلك للحكومة الأميركية والمستهلكين والشركات بالاقتراض بأسعار فائدة منخفضة بشكل غير طبيعي، مما ساهم في تسريع النمو الاقتصادي ورفع مستويات المعيشة.
كما تسمح هيمنة الدولار للولايات المتحدة بالسيطرة على دول أخرى مثل فنزويلا وإيران وروسيا من خلال حرمانها من عملة تحتاجها للشراء والبيع مع الآخرين. لكن الآن، أصبح هذا "الامتياز الباهظ"، كما يطلق عليه الاقتصاديون، معرضا للخطر فجأة.
وقال بنك "دويتشه بنك" في مذكرة للعملاء في وقت سابق من أبريل/نيسان الجاري "إن خصائص الدولار كملاذ آمن تتآكل"، محذر في الوقت نفسها من "أزمة ثقة".
وفي تقرير أكثر تحفظا صادر عن شكرة "كابيتال إيكونوميكس" ومقرها لندن تضمن القول "لم يعد من المبالغة القول إن وضع الدولار كاحتياطي، ودوره المهيمن الأوسع نطاقا أصبحا موضع شك إلى حد ما على الأقل".
وتقليديا، كان الدولار يرتفع مع انخفاض الطلب على المنتجات الأجنبية بسبب الرسوم الجمركية. لكن الدولار لم يفشل هذه المرة فحسب، بل انخفض، مما حير الاقتصاديين وأضر بالمستهلكين، وفقد الدولار أكثر من 5% مقابل اليورو والجنيه الإسترليني، و6% مقابل الين منذ أوائل أبريل/نيسان الجاري.
كما يعلم أي مسافر أميركي إلى الخارج، أنه يمكنه شراء المزيد مع ارتفاع الدولار، وشراء أقل مع انخفاضه. والآن ترتفع أسعار النبيذ الفرنسي والإلكترونيات الكورية الجنوبية ومجموعة من الواردات الأخرى، ليس فقط بسبب الرسوم الجمركية، بل أيضا بسبب ضعف العملة.
وأي فقدان لوضع الملاذ الآمن قد يؤثر على المستهلكين الأميركيين بطريقة أخرى، مثل ارتفاع أسعار الفائدة على الرهن العقاري وصفقات تمويل السيارات، حيث يطلب المقرضون مزيدا من الفائدة مقابل المخاطر الإضافية.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو احتمال ارتفاع أسعار الفائدة على الدين الفدرالي الأميركي المتضخم، الذي بلغت نسبته بالفعل 120% من الناتج الاقتصادي السنوي الأميركي، وهو أمر محفوف بالمخاطر.
يقول بن ستيل، الخبير الاقتصادي في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي إن "معظم الدول التي تعاني من هذا الدين مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي ستتسبب في أزمة كبيرة، والسبب الوحيد الذي يجعلنا ننجو من ذلك هو حاجة العالم إلى الدولار للتداول به".
ويضيف ستيل "في مرحلة ما، سيبحث الناس بجدية عن بدائل للدولار"، وقد فعلوا ذلك بالفعل، بمساعدة بسيطة من منافس اقتصادي أميركي.
ومنذ سنوات تبرم الصين صفقات تجارية باليوان مع البرازيل لشراء المنتجات الزراعية، ومع روسيا لشراء النفط، و مع كوريا الجنوبية لشراء سلع أخرى.
كما تقدم الصين أيضا قروضا باليوان للبنوك المركزية التي تحتاج بشدة إلى السيولة في الأرجنتين وباكستان ودول أخرى، لتحل محل الدولار كممول طوارئ وملاذ أخير.
وقال لاري فينك، رئيس مجلس إدارة شركة "بلاك روك" الأميركية، في رسالته السنوية للمساهمين حول هيمنة الدولار "إذا استمر العجز في التفاقم، فإن أميركا تخاطر بفقدان هذا المركز لصالح الأصول الرقمية مثل بيتكوين".
من جهته يرى ستيف ريتشيوتو، الخبير الاقتصادي في مجموعة الخدمات المالية "ميزوهو فايننشال"، أن "الجميع ليس مقتنعا بأن السبب الرئيسي لانخفاض قيمة الدولار هو فقدان الثقة بالولايات المتحدة".
ويعتقد أن ضعف الدولار يعكس توقعا لارتفاع التضخم بسبب الرسوم الجمركية، ولكن حتى لو لم يكن المستثمرون مرتاحين للاحتفاظ بالدولار، كما يقول، فإنهم في الواقع لا يملكون خيارات كثيرة. لا توجد عملة أو أصل آخر، مثل اليوان أو البيتكوين أو الذهب، ضخم بما يكفي للتعامل معه.
ويقول ريتشيوتو"ستفقد الولايات المتحدة عملتها الاحتياطية عندما يوجد من يسحبها منها. في الوقت الحالي، لا يوجد بديل".
السياسة المتقلبة تخيف المستثمرين، وربما يكون الأمر كذلك، لكن ترامب يختبر حدوده، و لا يقتصر الأمر على الرسوم الجمركية فحسب، بل على الطريقة المتقلبة التي طبقها بها فعدم القدرة على التنبؤ يجعل الولايات المتحدة تبدو أقل استقرارا وموثوقية، وأقل أمانا لأموالهم.
وهناك أيضا تساؤلات حول منطقه في تبرير هذه السياسة، ويقول ترامب إن الرسوم الجمركية الأميركية ستخفض العجز التجاري، وهو ما يستشهد به كدليل على أن الدول "تستغل" أميركا.
ولكن عند حساب الرسوم الجمركية، نظر إلى العجز التجاري في السلع فقط، وليس في الخدمات التي تتفوق فيها الولايات المتحدة. يعتقد معظم الاقتصاديين أن العجز التجاري ليس علامة ضعف وطني على أي حال، لأنه لا يعيق النمو الاقتصادي والازدهار.
كما هدد ترامب مرارا وتكرارا بتقليص استقلالية مجلس الاحتياطي الفدرالي، مما أثار مخاوف من أنه سيجبر على خفض أسعار الفائدة لتعزيز الاقتصاد حتى لو كان ذلك يُهدد بتفاقم التضخم الجامح.
هذه طريقة أكيدة لدفع الناس إلى التخلي عن الدولار. بعد أن صرح رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول الأربعاء الماضي بأنه سيتريث قبل اتخاذ أي إجراءات بشأن أسعار الفائدة، انتقده ترامب بشدة قائلا: "لا يمكن إقالة باول بالسرعة الكافية".
ويستذكر الاقتصاديون المنتقدون لإعلان ترامب عن الرسوم الجمركية في الثاني من أبريل/نيسان حدثا آخر، وهو أزمة السويس عام 1956، التي قصمت ظهر الجنيه الإسترليني.
كان الهجوم العسكري على مصر سيئ التخطيط والتنفيذ، وكشف عن عجز سياسي بريطاني أدى إلى تراجع الثقة في البلاد، وانخفض الجنيه الإسترليني بشكل حاد، وانهارت مكانته التي اكتسبها لقرون كعملة تجارية واحتياطية مهيمنة.
يقول آيكنغرين من شركة "بيركلي" البريطانية المتخصصة في الاستثمار والخدمات المالية "إن يوم التحرير، كما أسماه ترامب في الثاني من أبريل/نيسان، يمكن تذكره كنقطة تحول مماثلة إذا لم يكن الرئيس حذرا. وهذه هي الخطوة الأولى نحو منحدر زلق تفقد فيه الثقة الدولية بالدولار الأميركي".