في عالم يعاد فيه تشكيل موازين القوة، مع صعود أطراف جديدة وتراجع القوى التقليدية، تبرز أفريقيا كتكتل قاري واعد، بما تمتلكه من ثروات طبيعية هائلة، وطاقات بشرية شابة، وموقع جغرافي إستراتيجي، ورغم عقود من الاستعمار والحروب والتقلبات السياسية، لم تفقد القارة زخمها ولا إمكاناتها، بل تحوّلت اليوم إلى ساحة تزاحم دولي متسارع، إذ تتنافس القوى الكبرى من الصين إلى الولايات المتحدة وأوروبا على ترسيخ حضورها وبناء شراكات طويلة الأمد.
لا يأتي هذا التنافس من فراغ، فالمؤشرات المتزايدة على تحوّل في النظام العالمي تضع أفريقيا في موقع مختلف، حيث لم تعد مجرد مجال نفوذ للآخرين، بل تكتلا يتحرك نحو دور فاعل في معادلة المستقبل.
في هذا المقال، نستعرض أبرز ثروات القارة، ونحلل خريطة القوى المتنافسة على النفوذ، مع التوقف عند التجربة الصينية ومستقبل هذا التكتل الصاعد.
تمتلك أفريقيا موارد طبيعية ضخمة تجعلها من أغنى قارات العالم، لكنها في الوقت نفسه من أقلها استغلالا وتنمية، وهذا التباين يعكس الواقع المركّب للقارة، ويُمهّد لفهم أعمق لطبيعة ثرواتها وأسباب التنافس الدولي عليها.
1- المعادن الحيوية
تمتلك القارة 30% من احتياطيات العالم من المعادن الأساسية للتحول الطاقي مثل الكوبالت والليثيوم والنيكل، فالكونغو الديمقراطية وحدها تنتج أكثر من 70% من الكوبالت عالميا، وتضم نصف الاحتياطيات المؤكدة.
وتبرز زمبابوي ومالي في الليثيوم، بينما تسيطر جنوب أفريقيا والغابون وغانا على 60% من إنتاج المنغنيز، كما تضم أفريقيا 90% من احتياطي البلاتين، وتُنتج جنوب أفريقيا 70% منه و80% من الإيريديوم، وهما عنصران حيويان للهيدروجين الأخضر.
2- الطاقة والغاز
تضم نيجيريا 37 مليار برميل نفط و206 تريليونات قدم مكعبة من الغاز، وتنتج 1.2 مليون برميل يوميا، أما في الطاقة المتجددة، فبلغت القدرة المركبة 67 غيغاوات عام 2024، تشمل 9.2 غيغاوات من الرياح و15.4 غيغاوات من الشمس، ومع ذلك، لا تمثل هذه الطاقات سوى 3.3% من إنتاج الكهرباء.
3- الزراعة والمياه
لدى أفريقيا 65% من الأراضي الزراعية الخصبة غير المستغلة عالميا، وتشكل الكونغو الديمقراطية وحدها 52% من المياه السطحية في القارة و23% من المياه العذبة المتجددة، ونحو 85% من مياه الري تُستخدم في الزراعة، الأمر الذي يمنحها ورقة رابحة في قضية الأمن الغذائي العالمي.
4- الطاقة البشرية
تجاوز عدد سكان أفريقيا 1.4 مليار نسمة عام 2024، ويتوقع وصوله إلى 2.5 مليار في 2050، وبحلول منتصف القرن، سيصل عدد القادرين على العمل إلى 1.6 مليار نسمة، بينما تمثل الفئة العمرية (15-24) نحو ثلث السكان البالغين
5- الاقتصاد الرقمي والبنية التحتية المعلوماتية
من المتوقع أن يسهم الاقتصاد الرقمي بـ 5.2% من الناتج المحلي في 2025، و8.5% في 2050، وقد ارتفع عدد مستخدمي الإنترنت فائق السرعة بـ 160 مليونا بين 2019 و2022، وسرعة التحميل من 2.7 إلى 8.2 ميغابت/ثانية.
وتمثل نيجيريا 82% من مشتركي الاتصالات بالقارة، و10% من الناتج المحلي لديها يأتي من قطاع الاتصالات.
6- الثروة الحيوانية
تختلف مساهمة الثروة الحيوانية في الناتج الزراعي من دولة لأخرى، وتتراوح بين 30% و80% وفق طبيعة الاقتصاد الزراعي المحلي، حسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة .
تُعد أفريقيا من أكبر الأسواق الحيوانية عالميا، ففي نيجيريا وحدها، يوجد أكثر من 18 مليون رأس ماشية و80 مليون طائر داجن، وتسهم الثروة الحيوانية بنسبة تصل إلى 17% من الناتج الزراعي و5% من الناتج القومي.
وبحلول عام 2050، يُتوقع أن يرتفع الطلب المحلي على المنتجات الحيوانية بنحو 50 مليون طن من الحليب و8.9 ملايين طن من اللحوم الحمراء، مما يحوّل القارة إلى سوق ضخمة لتلبية احتياجات الأمن الغذائي المتزايد.
7-البنية التحتية والممرات التجارية
تُقدّر فجوة تمويل البنية التحتية في أفريقيا بين 90 و170 مليار دولار سنويا، وسط تحديات أبرزها أن 40% من الطرق غير معبّدة و60% دون كهرباء، لكن هذه الفجوة تمثل فرصة ضخمة، ومن المشاريع البارزة "ممر لوبيتو" (10 مليارات دولار) لربط الكونغو بأنغولا والمحيط الأطلسي كنموذج للتكامل الإقليمي.
تأسس الاتحاد الأفريقي عام 2002 خلفا لمنظمة الوحدة الأفريقية ، ليجسد تطلعات القارة نحو وحدة سياسية واقتصادية. ويضم 55 دولة، مما يجعله من أكبر التكتلات من حيث عدد الأعضاء.
من أبرز خطواته تأسيس منطقة التجارة الحرة القارية عام 2018، التي تضم 54 دولة (باستثناء إريتريا)، وقد صادقت عليها 47 دولة حتى منتصف 2025.
تهدف الاتفاقية لإنشاء سوق موحدة وزيادة التجارة البينية التي ما زالت محدودة، لكن التنفيذ يواجه تحديات مثل ضعف البنية التحتية وتفاوت مستويات التصنيع.
يوفّر الاتحاد إطارا للتشاور وتنسيق المواقف، لكن صلاحياته التنفيذية لا تزال محدودة، ورغم ذلك، تتنامى أدواته بشكل تدريجي، مدفوعة بالحاجة لمواجهة تحديات الأمن الغذائي، والتحول الرقمي، والطاقة، مما يمنحه فرصة حقيقية لتعزيز دوره في عالم متعدد الأقطاب.
منذ الحقبة الاستعمارية، فرضت أوروبا هيمنتها السياسية والاقتصادية على أفريقيا، واستمر هذا النفوذ بعد الاستقلالات عبر اتفاقيات طويلة الأجل وشراكات غير متوازنة، فقد بقي "الإرث الاستعماري الاقتصادي" نشطا لعقود، من خلال المصارف والشركات والتجارة.
على مدى 4 إلى 5 عقود، راكمت أوروبا أكبر رصيد تراكمي (أي مجموع الاستثمارات المتراكمة عبر الزمن) في أفريقيا، متجاوزا 200 مليار دولار، تتصدّره بريطانيا بـ 60 مليارا، تليها فرنسا وهولندا بـ 54 مليارا لكل منهما.
في عام 2024، بلغ حجم التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي وأفريقيا نحو 354.6 مليار يورو (ما يعادل 380-400 مليار دولار)، شمل 188.5 مليار يورو واردات أفريقية إلى أوروبا، و166.1 مليار يورو (194.52 مليار دولار) صادرات أوروبية إلى أفريقيا
ورغم هذا الحجم الكبير، فإن وتيرة النمو خلال العقدين الماضيين كانت بطيئة نسبيا، فقد ارتفع التبادل التجاري الأوروبي الأفريقي بنحو 12 إلى 14 ضعفا فقط. وفي المقابل، حققت الصين، التي بدأت من مستوى شبه صفري، نموا تجاوز 25 ضعفا خلال الفترة ذاتها، عبر نموذج أكثر مرونة وتأثيرا في بنية الاقتصادات الأفريقية
رغم كونها القوة الاقتصادية الأولى عالميا، ظلّ الاستثمار الأميركي في أفريقيا متواضعا مقارنة بالصين وأوروبا، فحتى عام 2023، بلغ إجمالي الاستثمارات المتراكمة نحو 44 إلى 50 مليار دولار، وفق بيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، ومكتب التحليل الاقتصادي الأميركي وقد تركز في قطاعات تقليدية كالأمن والطاقة والخدمات.
يُعزى هذا التأخر إلى انشغال واشنطن ، منذ التسعينيات، بحروب خارجية جعلت القارة خارج أولوياتها، وفتحت المجال أمام تمدد صيني واسع، ولاحقا، أعلنت إدارة بايدن خططا لضخ 50 مليار دولار خلال 5 سنوات، منها 553 مليونا لمشروع سكك حديدية في أنغولا، لكن أغلب هذه المشروعات لا تزال على الورق.
تحت إدارة ترامب، تراجع الزخم مجددا، مع التركيز على الداخل وضعف الالتزام بالشراكات الأفريقية، وفي عام 2024، بلغ التبادل التجاري الأميركي الأفريقي 71.6 مليار دولار، منها 32.1 مليار صادرات و39.5 مليار واردات، مسجّلا عجزا نادرا لصالح أفريقيا بقيمة 7.4 مليارات دولار. هكذا، تبقى واشنطن متأخرة عن الصين التي توسّع نفوذها بثبات وشراكات مرنة.
في أقل من عقدين، أصبحت الصين الشريك الأهم والأكثر نفوذا في أفريقيا، ليس فقط كمستثمر، بل كمموّل تنموي وشريك إستراتيجي، ووفق تقديرات البنك الدولي ومنظمات دولية، يُقدّر إجمالي النشاط المالي الصيني في القارة بين 200 و220 مليار دولار، يشمل الاستثمارات المباشرة، التمويلات، القروض، ومشاريع البنية التحتية، هذا الرقم تجاوز ما راكمته أوروبا من استثمارات في أفريقيا على مدى قرن، مما يعكس تسارع النفوذ الصيني وتنوع أدواته الاقتصادية والتنموية، ويمكن إجمال النفوذ الصيني في القارة السمراء في هذه النقاط:
1- قفزة 2400% في 20 عاما
ارتفع التبادل التجاري بين الصين وأفريقيا من 11.7 مليار دولار عام 2000 إلى 295 مليار دولار في عام 2024، بنمو يفوق 2400%، وخلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025، بلغ 134 مليار دولار، مما يُرجّح أن يتجاوز التبادل السنوي 300 مليار دولار بنهاية العام، أي بمعدل نمو يقارب 25 ضعفا خلال عقدين.
ولا يقتصر هذا النمو على تبادل السلع، بل يعكس اندماجا بنيويا، إذ تشمل صادرات الصين قطاعات التصنيع والبنية التحتية، مقابل واردات من المواد الخام والمعادن الإستراتيجية، بذلك، تدمج بكين القارة في شبكاتها العالمية.
2- تفوق تجاري على واشنطن
في المقابل، بلغ حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة وأفريقيا 71.6 مليار دولار فقط في عام 2024، أي أن الصين تتفوّق تجاريا بأكثر من 4 أضعاف، في مؤشر واضح على تغيّر موازين النفوذ الاقتصادي داخل القارة.
الاستثمار المباشر الصيني في أفريقيا: قفزة بنسبة 58000% خلال عقدين
ارتفعت الاستثمارات المباشرة الصينية في أفريقيا من نحو 75 مليون دولار عام 2003 إلى أكثر من 44 مليار دولار بحلول 2022، أي بزيادة تفوق 58000%، أو ما يعادل 586 ضعفا خلال أقل من 20 عاما.
وتركزت هذه الاستثمارات في قطاعات حيوية مثل الصناعة والطاقة والزراعة والبنية التحتية، خصوصا في دول شرق وغرب أفريقيا، مما يعكس توسعا مدروسا وسريع الوتيرة للنفوذ الصيني في المناطق الإستراتيجية من القارة.
3- التمويلات التنموية
بين عامي 2000 و2022، موّلت الصين 1188 مشروعا في أفريقيا عبر قروض ميسّرة تجاوزت 160 مليار دولار، شملت مجالات الطاقة والنقل والمياه والاتصالات، وفي قمة بكين (2024-2027)، تعهّدت بضخ 51 مليار دولار إضافية لتنفيذ 30 مشروعا وخلق مليون فرصة عمل.
تعتمد بكين نموذج "القرض مقابل المشروع"، حيث تُنفَّذ المشروعات بواسطة شركات ومعدات صينية، مما يعزّز نفوذها الاقتصادي والسياسي في القارة.
4- البنية التحتية
نفّذت الصين خلال العقدين الماضيين مشاريع بنية تحتية ضخمة غيّرت وجه القارة، وتفوقت من حيث الحجم والسرعة على ما أنجزته أوروبا منذ الاستقلال الأفريقي، من أبرزها خط السكك الحديدية أديس أبابا-جيبوتي (3 مليارات دولار)، وخط مومباسا نيروبي في كينيا (3.2 مليارات)، وميناء بوجامويو في تنزانيا (10 مليارات)، ومطار زنجبار (70 مليونا)، إلى جانب سدود ومحطات طاقة في أنغولا وإثيوبيا .
5- شركات القطاع الخاص
تنشط أكثر من 10 آلاف شركة صينية في أفريقيا، متفوقة بوضوح على نظيراتها الأميركية والأوروبية، في مؤشر على تغلغل اقتصادي واسع، وتعمل هذه الشركات في الزراعة والصحة والتعليم والتعدين والخدمات، إضافة إلى الابتكار، فشركة هواوي مثلا تُدرّب 6 آلاف طالب كيني سنويا على المهارات التقنية، وأسست أكثر من 90 مدرسة رقمية في دول متعددة.
6- التكنولوجيا والتعليم
توسّع الحضور الرقمي الصيني في أفريقيا عبر أكثر من 266 مشروعا، شملت شبكات الاتصال، مراكز البيانات، المدن الذكية، وأنظمة المراقبة، بينها مركز بيانات وطني في السنغال بكلفة 79 مليون دولار، ومشاريع مماثلة في أوغندا وإثيوبيا.
7- التعدين
تعمل شركات صينية عديدة على تطوير سلاسل تصنيع للمعادن الحيوية في أفريقيا، خصوصا النيكل والنحاس والكوبالت المستخدم في الطاقة والتكنولوجيا، فقد استحوذت شركة صينية خاصة على منجم لوبامبي للنحاس في زامبيا بقيمة 300 مليون دولار، بينما موّلت شركة حكومية منجم ديزوا في الكونغو بكلفة 880 مليون دولار.
وهذا الحضور لا يقوم على التمويل فقط، بل على نموذج صيني شامل، يعتمد تنفيذ المشاريع بشروط صينية كاملة، وشركات شبه حكومية، وبنية تحتية كثيفة التشغيل.
يتحرك هذا التكتل الإقليمي بثبات ليأخذ مكانه كفاعل مؤثر في النظام العالمي المقبل، مدفوعا بثرواته وطاقاته ورؤية سياسية تتبلور لدى عدد من متخذي القرار، تقوم على التحالف والمصلحة المشتركة، وإذا استمر هذا المسار، فإن أفريقيا تؤسس لقوة نابعة من الداخل، لا مفروضة من الخارج.
وبينما يتزايد التنافس على القارة، تبرز تجربة الصين كنموذج لافت، فعبر أدوات ناعمة وشراكات طويلة الأمد، رسّخت بكين حضورها في أفريقيا، وأحكمت قبضتها على الموارد الحيوية، لا سيما المعادن النادرة ، متفوقة على عقود من الوجود الغربي التقليدي.
في المقابل، تراجع تأثير الولايات المتحدة وأوروبا بسبب سياسات قصيرة الأجل ومقاربات مشروطة. وهذا يكشف درسا واضحا: النفوذ يُبنى بالصبر والانخراط الحقيقي.
من هنا، تبرز فرصة حقيقية أمام دول الشرق الأوسط لاعتماد نهج فاعل في العمق الأفريقي، مستفيدة من التجربة الصينية، وللبحث عن شراكات ذكية تعزز الدور الإقليمي في عالم جديد.