في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
أمستردام- في ليلة باردة من ليالي أمستردام، امتلأ مسرح كاريه الملكي الفخم بصناع الأفلام والنقاد وعشاق السينما الوثائقية من 76 دولة، جاؤوا ليشهدوا لحظة استثنائية: افتتاح الدورة الـ38 لمهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية "إدفا" (IDFA)، أكبر تظاهرة وثائقية في العالم.
لكن هذا العام، الأمر مختلف، فبينما يشتعل العالم بالحروب والإبادات، اختار المهرجان ألا يصمت، بل أن يفتتح بثلاثة أفلام قصيرة عن الاحتجاج والثورة.
ويقدم هذا المهرجان الحيوي بنقاشاته الثرية، التي لا تتجنب السياسة ولا المحظورات، أكثر من 250 فيلماً ومشروعاً إعلامياً جديداً، في 19 موقعاً نركض بينها عبر المدينة، وبدأ فعالياته ليلة الـ13 من نوفمبر/تشرين الثاني، ويستمر 23 من الشهر نفسه.
وسنقدم لقراء الجزيرة نت تغطية مواكبة للمهرجان الوثائقي، وتشمل أهم الأفلام التي تعرض فيه.
اختار المهرجان أن يفتتح بـ3 أفلام قصيرة استثنائية، تشكّل في مجموعها ما وصفته المديرة الفنية إيزابيل أراتي فيرنانديز بـ"تشريح للاحتجاج".
الأفلام الثلاثة هي: "As I Lay Dying" (بينما كنت أحتضر) للمخرجَين الإيرانيَين محمد رضا فرزاد وبيغا أهانغاراني، و"Intersecting Memory" (ذاكرة متقاطعة) للمخرجة الفلسطينية شيماء عواودة، و"happiness" (سعادة) للمخرج التركي فرات يوجيل الذي قال للجزيرة نت إنه لم يستطع إلا أن يكون فيلمه عن الإبادة الجماعية في غزة، "حيث لا يمكن أن نشيح بوجوهنا عنها، ولا أن نتجاهلها أو حتى نكتفي بالاحتجاج".
"أفلام هذه الليلة الثلاثة هي تشريح للاحتجاج، وكيف يصبح جزءاً من هويتك تقريباً؟ ما الذي يشعل لحظة الانتفاضة التي تؤدي إلى الثورة؟ وأخيراً، كيف يمكننا أن نفهم ونشعر بتأثيرها، وتبعاتها، وخفوت النار؟ هكذا أرى هذه الأمسية رحلة عبر ثورة في 3 أشكال مختلفة تماماً"
وفي كلمتها الافتتاحية، قالت فيرنانديز "أفلام هذه الليلة الثلاثة هي تشريح للاحتجاج، وكيف يصبح جزءاً من هويتك تقريباً؟ ما الذي يشعل لحظة الانتفاضة التي تؤدي إلى الثورة؟ وأخيراً، كيف يمكننا أن نفهم ونشعر بتأثيرها، وتبعاتها، وخفوت النار؟ هكذا أرى هذه الأمسية رحلة عبر ثورة في 3 أشكال مختلفة تماماً".
وقد كان الاختيار دالّاً على توجّه المهرجان هذا العام نحو أصوات الجنوب العالمي المهمشة وأصوات المقاومة للهيمنة والاستعمار، وتلك التي ترفض الصمت في وجه القمع والاستبداد.
وتنتمي هذه الأفلام الافتتاحية إلى "صناعة التاريخ" أحد المسارات الموضوعاتية الرئيسية بالمهرجان الذي يُظهر التاريخ أثناء تشكله، مركّزاً على أحداث وتطورات وقعت في الماضي القريب لكنها أنذرت بمستقبل نعيشه اليوم.
ويشهد المهرجان هذا العام مشاركة عربية لافتة، تتصدرها الجزيرة الوثائقية بـ3 أفلام من إنتاج مشترك بالمسابقات الرسمية، في خطوة تعكس إستراتيجية القناة لتعزيز الحضور العربي بأهم المهرجانات السينمائية الدولية.
وفي قاعتي العرض المختلفتين اللتين عرضتا الفيلم، امتلأت المقاعد بجمهور جاء ليشهد "توأم غزة.. عودا إليّ" الذي أنتجته الجزيرة الإنجليزية، ووقف الجمهور مصفقاً بحرارة في المرتين، ويروي الفيلم رحلة الأم الغزية رانيا التي امتدت 16 شهراً، بعد أن اضطرتها حرب الإبادة لترك طفليها التوأم حمود وجوان في حضانة مستشفى كمال عدوان، ورحلة نزوح التوأم الرضيع أكثر من مرة بعيدا عن أبويهما قبل اللقاء المؤثر لاحقا عقب وقف إطلاق النار.
وقد تكرر الاحتفاء نفسه مع "32 متراً" التركي الذي شاركت الجزيرة في إنتاجه، وشهد إقبالاً مبهراً حتى امتلأت المقاعد كلها، ويروي الفيلم قصة حليمة، امرأة في قرية ريفية محافظة لكنها لا تمثل الصورة النمطية لربة المنزل الصامتة، فقررت تنظيم مسابقة رماية للنساء رغم رفض رجال القرية الذين اعتبروا أن الرماية حكر على الرجال.
ويتتبع الفيلم – الذي أضحك الجمهور مرارا وتكرارا- النساء بدفء ودعابة رقيقة وهنّ يدافعن عن رغبتهن بتنظيم المسابقة، ويحظين كذلك بدعم أنفسهن ودعم رجالهن في النهاية.
أما "بين ضفّتين" فتلخصه سمية بقولها "المنفى لا يختبئ في البُعد الجغرافي، بل يسكن في تفاصيلنا" فهذه الشابة الجزائرية التي نشأت في برشلونة تشعر بمسافة عاطفية تفصلها عن أمها، فتقرر العودة لإعادة اكتشاف جذورها وفهم معنى الانتماء.
وحتى بخلاف تلك الأفلام ظهر اسم شبكة الجزيرة وقنواتها التلفزيونية كمصدر إعداد رئيسي للعديد من الأفلام خاصة الأفلام العربية والفلسطينية، كما يلاحظ من يبقى ليقرأ شارات النهاية.
وفي حوار مع موقع الجزيرة الوثائقية، كشف المخرج السينمائي ومدير القناة أحمد محفوظ عن أهداف الحضور القوي في المهرجان، مؤكداً أن "إدفا بالنسبة لنا هو أهم سوق ومهرجان للأفلام الوثائقية في العالم".
وأضاف "الإنجاز الأبرز هو مشاركة 3 أفلام (إنتاج مشترك) للجزيرة الوثائقية في المسابقات الرسمية، وهو ما يكرس حضور السردية العربية على خريطة الوثائقي العالمي".
"الإنجاز الأبرز هو مشاركة 3 أفلام (إنتاج مشترك) للجزيرة الوثائقية في المسابقات الرسمية، وهو ما يكرس حضور السردية العربية على خريطة الوثائقي العالمي"
وتعرض الأفلام الثلاثة المشاركة ضمن أقسام "العرض العالمي الأول" و"الضوء الساطع" و"مختارات المهرجان" التي تحتفي بالحس الإنساني والابتكار البصري في السرد الوثائقي.
إيزابيل أراتي فيرنانديز ، التي تولّت منصب المديرة الفنية في يوليو/تموز الماضي، تحدثت في مؤتمر صحفي قبل الافتتاح عن تجربة برمجة المهرجان هذا العام، وقالت "بدأت كمديرة فنية. وصناعة هذا البرنامج مع المبرمجين كانت تجربة مثيرة للاهتمام وذات معنى عميق. مشاهدة أعمال من جميع أنحاء العالم كانت مُثرية بشكل لا يُصدق".
وأضافت بنبرة تأملية "هذه المشاريع والأفلام حرّكتنا، علّمتنا رؤى لم نكن نعرفها، تحدّتنا، وأحياناً حتى أقلقتنا بطرق تبقى معك لأيام. وهذه الأفلام والأعمال تدفعك لأن تنظر عن قرب، وأن تستمر في طرح الأسئلة".
ولكن فيرنانديز لم تتجنب الحديث عن السياق العالمي المأساوي الذي يُعقد فيه المهرجان، وأضافت قائلة "بينما كنا نقوم بذلك، كل يوم نقرأ ونرى عن الحرب والعنف والإبادة الجماعية، عن اللعبة السياسية للقوة التي يبدو أنها تشكّل عالمنا أكثر فأكثر. وهذا يجعلك تتوقف وتفكر في الإنسانية، أو أين تقف الإنسانية.. في القدرة البشرية على الاهتمام بالآخرين، في عدم القدرة على التعلم من الماضي، على النظر إلى التاريخ للدروس التي يمكن أن يعلّمها".
وأكدت فيرنانديز في حديثها على الدور الأساسي للفن و"عندما يبدو العالم غير متناغم، يصبح الفن والسينما ضروريَّين، ليس بسبب الإجابات السهلة، ولكن لأنهما يساعداننا على الاستماع والرؤية والتخيّل، والبقاء متصلين أيضاً بالتعاطف والتعقيدات".
ويحتفي المهرجان هذا العام بالمخرجة والأمينة الفنية والأكاديمية البرتغالية سوزانا دي سوزا دياس كضيفة شرف، بعرض استعادي شامل لأعمالها واختيارها الشخصي لأفضل 10 أفلام وثائقية، وتمثل دياس توجه المهرجان نحو السينما التي تفكك السرديات الاستعمارية وتعطي صوتاً لمن أُسكتوا.
وسنقدم لاحقا قراءة تفصيلية في فيلمها الوثائقي الدرامي الجميل والممتع "فوردلانديا باناسيا".
نظّم المهرجان برنامجه حول عدة مسارات موضوعاتية تعكس القضايا الملحّة في عصرنا، من أبرزها:
"صناعة التاريخ" الذي يضم أفلاماً تُظهر التاريخ يُصنع، مركّزة على أحداث وتطورات وقعت في الماضي القريب لكنها أنذرت بمستقبل نعيشه اليوم. ومن بينها الأفلام الافتتاحية الثلاثة، وفيلم "With Hasan in Gaza" (مع حسن في غزة) للمخرج كمال الجعفري الذي يوثّق الإبادة الجارية في قطاع غزة.
وهناك مسار "الديمقراطية" الذي يقدم أفلاماً عن أفراد في الخطوط الأمامية للنضال من أجل حرية التعبير وحقوق الإنسان والمشاركة المدنية والحفاظ على المؤسسات الديمقراطية. وتكشف قصصهم الأشكال القوية المتعددة التي يمكن أن تتخذها المقاومة والنشاط السياسي. من بينها "When I Get Jailed" (حين أُسجن) للمخرجة الأوكرانية أناستاسيا فيدينسكايا، و"My Undesirable Friends: Part I – Last Air in Moscow" (أصدقائي غير المرغوبين في موسكو) للمخرجة جوليا لوكتيف، و"The Woman Who Poked the Leopard" (المرأة التي نخست الفهد) للمخرجة الأوغندية باشينس نيتومويسيغا.
وأخيرا مسار "إنهاء الاستعمار" الذي يفحص الصراعات المستمرة التي يواجهها الأفراد والمجتمعات وهم يبحثون عن الهوية، ويستعيدون الكرامة، ويؤكدون على حقوق طالما أُنكرت عليهم تحت الحكم الإمبريالي. ومن بينها "Fordlândia Panacea" (أرض فورد) لضيفة الشرف دياس، و"BLKNWS: Terms & Conditions" للمخرج كاليل جوزيف، و"We Want the Funk!" لستانلي نيلسون ونيكول لندن.
خلال حفل الافتتاح، مُنحت جائزة "منحة الصندوق الثقافي للأفلام الوثائقية" البالغة 50 ألف يورو للمخرجة ليديا زيلوفيتش صانعة الأفلام البوسنية الهولندية التي برز فيلمها "Home Game" (مباراة منزلية) بالمسابقة الدولية لمهرجان إدفا 2024.
وفي هذا الفيلم، رسمت زيلوفيتش توازياً صارخاً بين السياسات الشعبوية في يوغسلافيا السابقة والتوترات الحالية في هولندا.
وتمنح الجائزة، المدعومة من متبرع مجهول، صناع الأفلام الوثائقية فرصة لإنجاز أعمال جديدة.
وفي خطوة تاريخية لافتة، أعلن المهرجان قبل أسابيع من الافتتاح رفضه منح اعتماد لممثلي 3 مؤسسات إسرائيلية كبرى: مهرجان "دوكافيف" للأفلام الوثائقية في تل أبيب، وسوق الإنتاج المشترك "كوبرو"، وهيئة البث العامة الإسرائيلية "كان".
وجاء القرار انسجاماً مع مبادئ المهرجان التي تمنع اعتماد مؤسسات تتلقى تمويلاً مباشراً من حكومات متورطة في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
وأوضحت فيرنانديز في تصريح سابق "في هذا العام، لم تُمنح المنظمات الإسرائيلية التي تتلقى دعماً حكومياً اعتماداً" مضيفة أن المهرجان "يقيّم الأفلام المستقلة وصانعيها بشكل فردي" وأن المبدأ التوجيهي ذاته أدى السنوات الماضية إلى رفض مشاركة أفلام من دول أخرى مثل إيران وروسيا.
وجاء القرار في وقت تتصاعد فيه الدعوات الدولية لمقاطعة المؤسسات الثقافية الإسرائيلية المتورطة في دعم حرب الإبادة في قطاع غزة، ضمن حملة أطلقها تحالف "عاملون في السينما من أجل فلسطين" بمشاركة نجوم عالميين من هوليود بينهم إيما ستون، وخواكين فينيكس، وأوليفيا كولمان، ومارك روفالو، وتيلدا سوينتون. وقد وقّع على التعهد أكثر من 4 آلاف فنان ومخرج ومنتج من مختلف أنحاء العالم.
إلى جانب البرنامج السينمائي، يستضيف المهرجان أكثر من 2500 محترف من صناع السينما في البرنامج الصناعي (Industry Program) من 15 إلى 19 نوفمبر/تشرين الثاني، ويشمل جلسات نقاشية، وورش عمل، وفرص تمويل، ولقاءات للتشبيك بين صناع الأفلام والمنتجين والموزعين من مختلف أنحاء العالم.
ويحاول مهرجان إدفا أن يعتبر السينما الوثائقية أكثر من مجرد فن، إذ يعقد في لحظة تاريخية حرجة، وسط حروب وإبادات وقمع في أماكن كثيرة من العالم. لكنه، بدلاً من أن ينسحب إلى الحياد أو اللامبالاة، اختار أن يكون منصة للأصوات المقاومة، للقصص المزعجة، والحقائق التي لا يريد أحد سماعها.
كما قالت المديرة الفنية "من المهم أن نستمر في إجراء هذه المحادثات، أيضاً كمجتمع سينمائي في نوفمبر/تشرين الثاني في أمستردام. برنامج إدفا مع اختيار الأفلام وأعمال الوسائط الجديدة دعوة مفتوحة للتبادل، والاختلاف، والاتفاق، وقبل كل شيء للشعور والإحساس".
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة