آخر الأخبار

جائزة الغونكور الفرنسية: كيف تصنع عشرة يوروهات مجدا أدبيا وملايين المبيعات؟

شارك

من بين الجوائز الأدبية في العالم، قلّما نجد من يثير هذا القدر من الشغف والجدل والانتظار مثل جائزة الغونكور الفرنسية، وليست قيمتها المالية سبب الشهرة، فهي لا تتجاوز عشرة يوروهات رمزية، بل قدرتها الفريدة على تحويل هذا الرقم الزهيد إلى مجد أدبي يتجاوز الملايين.

ومنذ تأسيسها عام 1903، بقيت الغونكور مرآة للأدب الفرنسي والفرانكفوني في أبهى تجلياته، ورمزا لهيبة الكلمة حين تتجاوز حدود السوق، لتصبح حدثا وطنيا يترقبه الجميع بشغف مماثل لحفل الأوسكار السينمائي.

في مطعم "دروان" الباريسي العريق، يجتمع عشرة من كبار الكتاب، أعضاء أكاديمية الغونكور، ليصوّتوا على رواية العام، ذلك الحدث الذي لا يُعلن فيه مجرد اسم، بل ولادة فصل جديد في تاريخ الأدب الفرنسي.

ومن الكاتب جون أنطوان ناو، أول فائز بالجائزة عن روايته "قوات العدو" عام 1903، إلى لوران موفينييه الفائز الأخير عن روايته "البيت الفارغ" (La Maison Vide)، تمتد خيوط هذه الجائزة كحكاية مستمرة لأكثر من قرن، تجمع بين المجد الأدبي، والدهشة، والتشويق، وأحيانا الجدل.

ورغم أن قيمتها المالية لا تتجاوز عشرة يوروهات، فإن بريقها المعنوي لا يُقدّر بثمن، فكل عام تتحوّل الجائزة إلى حدث ثقافي يهز أركان الأدب الفرنسي والعالمي، ويصنع من الرواية الفائزة موجة قراءة وجدلا نقديا واحتفاء إعلاميا لا يقل عن ضجيج الجوائز الكبرى.

تلك هي جائزة الغونكور الفرنسية (Le Prix Goncourt)، أقدم وأرفع الجوائز الأدبية في فرنسا، التي نجحت منذ عام 1903 في أن تبرهن أن الأدب لا يُقاس بقيمة شيك، بل بمدى عمقه في الذاكرة وتأثيره في الوجدان.

إنها الجائزة التي تحمل في ظاهرها تواضع العشرة يوروهات، لكنها في جوهرها تصوغ مجدا أدبيا لا يُشترى بالمال، وتؤكد أن الكلمة الإبداعية الصادقة لا تزال قادرة على تحريك الأسواق والضمائر معا.

مصدر الصورة الكاتب الفرنسي لوران موفينييه بعد حصوله على جائزة غونكور الأدبية عن روايته "البيت الفارغ" في مطعم دروانت بباريس في 4 نوفمبر 2025 (الفرنسية)

من الأخوين غونكور إلى المجد الرمزي للأدب

تعود الجائزة إلى إرادة الشقيقين إدمون وجول دو غونكور، اللذين كرّسا حياتهما للكتابة الواقعية الدقيقة التي تهتم بتفاصيل الحياة والفن والمجتمع.

إعلان

وبعد وفاة جول عام 1870، قرر إدمون أن يخلّد ذكرى أخيه بإنشاء أكاديمية الغونكور، وتخصيص ثروته بالكامل لتأسيس جائزة سنوية "لأفضل عمل نثري خيالي في العام". منذ تلك الوصية النبيلة، أصبحت الجائزة أشبه بميثاق أدبي مقدس: لا تُمنح إلا لمن يضيف لبنة جديدة إلى الأدب الفرنسي.

وقد مرّ على قوائم الفائزين أسماء أصبحت رموزا للثقافة العالمية مثل مارسيل بروست عن روايته "في ظل الفتيات الصغيرات بالزهور"، وأندريه مالرو عن عمله "الظرف الإنساني"، وسيمون دي بوفوار عن روايتها "الماندارينز"، ومارغريت دوراس عن "العاشق"، وصولا إلى لوران موفينييه الفائز منذ أيام في أحدث دورة للجائزة، والذي أعاد للأدب الفرنسي نبرته الإنسانية العميقة.

ورغم مرور أكثر من قرن، لم تفقد الغونكور بريقها بل على العكس، صارت كما كتبت الناقدة كلير دوبوا في مقال سابق لها في صحيفة "لوموند"، "الغونكور ليست جائزة، إنها زلزال أدبي يضرب سوق الكتاب والخيال معا".

مصدر الصورة الشقيقان إدمون وجول دو غونكور (مواقع التواصل)

عشرة يوروهات تصنع ملايين

في عالم يقيس النجاح بالأرقام، تأتي الغونكور لتقلب المعادلة، قيمة مالية ضئيلة مقابل أثر أدبي واقتصادي هائل. ووفقا لتقارير مؤسسة "جي إف كا فرونس" "GfK France" المتخصصة في تحليل أسواق الكتاب، فإن الفائز بالغونكور يبيع في المتوسط نحو نصف مليون نسخة خلال السنة الأولى، محققا أرباحا قد تتجاوز المليون يورو من المبيعات وحدها.

وهو ما جعل هذه الجائزة تتحول إلى ماكينة ثقافية، ما إن يُعلن الاسم حتى تنفجر المبيعات، وتتصدر الرواية الفائزة الرفوف في أكثر من ألف وخمسمائة مكتبة فرنسية، وقد زيّنتها شارة حمراء كتب عليها "بري غونكور" "Prix Goncourt".

وفي هذا السياق يقول الكاتب هيرفي لو تلييه، الفائز بالجائزة عام 2020 عن روايته "لانومالي" L’Anomalie، التي باعت أكثر من مليون نسخة وحققت أرباحا تفوق مليوني يورو "كنت أعتقد أن عشرة يوروهات هي كل ما سأحصل عليه، لكن الحقيقة أن كلمة لجنة الغونكور تعادل ملايين القراء".

وفي حين بلغت مبيعات رواية "كل الرجال لا يسكنون العالم بالطريقة نفسها" للكاتب جان بول دوبوا الفائز بجائزة غونكور عام 2019، أكثر من 450 ألف نسخة، تجاوزت مبيعات رواية "العاشق" لمارغريت دوراس 1.6 مليون نسخة منذ عام 1984، دائما وفق تقارير مؤسسة "جي إف كا فرونس" "GfK France" المتخصصة في تحليل أسواق الكتاب، وكل ذلك مقابل جائزة لا تتجاوز عشرة يوروهات، وكأن الأدب هنا يقول للعالم: الثروة في الكلمة لا في الرقم. عشرة يوروهات فقط، لكنها تفتح بوابة الملايين.

مصدر الصورة كتاب "الاسم على الجدار" للكاتب هيرفي لو تيلييه والفائز بجائزة غونكور 2020 (شترستوك)

رمزية تتحدى المال

رغم أن فرنسا تعد موطنا لجوائز أدبية عديدة مثل "رينودو" و"فيمينا" و"ميديسيس"، لكن جائزة الغونكور تتربع على القمة من حيث النفوذ والشهرة، فجائزة رينودو نادرا ما تتجاوز مبيعات فائزها 200 ألف نسخة، وأما فيمينا فرغم قوتها النقدية لكنها محدودة جماهيريا، في حين تحتفي جائزة ميديسيس بالتجريب لكنها تبقى نخبوية.

وأما الغونكور، فتمزج بين العمق الفني والجاذبية الجماهيرية، وتحافظ على مكانتها كحدث وطني ثقافي لا كمجرّد جائزة، وهو ما ترجمه الناقد الفرنسي لويس بونتي في قوله "الغونكور ليست فقط جائزة، إنها اقتصاد أدبي ومهرجان ثقافي في آن واحد".

إعلان

وعلى المستوى العالمي، تصبح الصورة أكثر فرادة، حيث تمنح جائزة بوكر البريطانية نحو 50 ألف جنيه إسترليني (حوالي 65 ألف دولار)، للفائز، بينما تتجاوز قيمة جائزة نوبل للأدب 11 مليون كرونة سويدية (قرابة مليون يورو)، وجائزة أستورياس الإسبانية تمنح 50 ألف يورو، ومع ذلك تبقى الغونكور الأكثر تأثيرا في سوق الكتاب الأوروبي. وبينما تُغيّر نوبل مصير كاتب عالمي، تُغيّر الغونكور وجه الأدب الفرنسي نفسه.

وبمرور السنوات تحولت جائزة الغونكور من مكافأة إلى مؤسسة ثقافية، ومن احتفال أدبي إلى قوة اقتصادية ناعمة. ففي كل نوفمبر/تشرين الثاني، ومع إعلان النتيجة يتحول الأدب إلى "خبر عاجل"، وتصبح الرواية الفائزة مرآة لذائقة مجتمع كامل.

مصدر الصورة الغونكور تجاوزت حدود فرنسا إلى العالم العربي حيث تُرجمت أعمالها الفائزة إلى العربية ولاقت إقبالا واسعا (الجزيرة)

الجائزة ككائن حي

لا تخلو جائزة الغونكور من الجدل، وربما هذا هو سر حيويتها، فقد رفضها الكاتب جوليان غراك عام 1951 احتجاجا على ما اعتبره "تسليعا للأدب"، واتُّهمت اللجنة أحيانا بالتحيّز لدور النشر الكبرى مثل "غاليمار" و"سويي". ومع ذلك، يظل هذا الجدل جزءا من صورتها الحية، كما كتب الصحفي ميشيل لافيت "حتى الجدل دليل على أن الجائزة حية، وأن الأدب الفرنسي لا يمر مرور الكرام".

وقد تجاوزت الغونكور حدود فرنسا إلى العالم العربي، حيث تُرجمت أعمالها الفائزة إلى العربية، ولاقت إقبالا واسعا، كما حدث مع رواية "العاشق" لمارغريت دوراس، و"الخلل" لهيرفي لو تلييه، و"لا يسكن الناس جميعهم العالم بالطريقة ذاتها" لجان بول دوبوا، فقد نالت كل هذه الأعمال قراءات عربية كثيفة، وأصبحت جسرا يربط بين الأدب الفرنسي الحديث والحساسية الإنسانية العربية.

وفي نهاية المطاف، تُذكّرنا جائزة الغونكور بحقيقة جميلة: أن الأدب لا يُقاس بما يُدفع له بل بما يُلهمه. إنها تقول إن الكلمة قادرة على بناء اقتصاد، وإن الاعتراف الثقافي يمكن أن يتحوّل إلى طاقة تسويقية جبارة دون أن يفقد جوهره. وعشرة يوروهات فقط، لكنها تصنع مجدا لا يُشترى، مجدا من الورق والحبر والخيال ومن الإيمان بأن الأدب ما زال قادرا على تحريك العالم.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار