لا يزال المثقفون العرب مشغولي البال بما يعانيه العالم العربي والإسلامي من أعطاب في مجالات الحياة عامة، وفي مسار الدولة خاصة، فيسعى بعضهم إلى طرح "الأسئلة الحقيقية" التي يجب أن نسألها من أجل إيجاد أجوبة عنها، في حين اختار الدكتور كمال القصير أن يفكر "خارج المنطق والعقل" لمشهد مركب يجمع بين تناقضات الوعي العربي وتحولاته.
ففي كتابه الجديد "عن العطر والدولة.. مستقبل الوعي العربي" الذي يقع في 320 صفحة وصدر مؤخرا عن مركز مدارات للأبحاث والنشر في القاهرة، يطرح المفكر المغربي رؤى جديدة "من ملاحظاتي ومشاهداتي للتحوّلات الجارية، وكذلك ما اطّلعت عليه من أعمال علماء الاجتماع والتاريخ والدين والأدب.. والأهم مما تقدّم هو أنّني أعتبر نفسي معنيًّا جدا بتجليات أزمة الوعي العربي والإسلامي، وضحية مثل غيري لكثير من مظاهرها".
ويضيف القصير "إن لحظات اللّاعقلانية في التاريخ خزان كبير للتحوّلات، وهذا ما دعاني إلى أن أترك العقلانية مؤقتا، وأبحث في تحولات الوعي وأختار عنوان (العِطر والدّولة) الذي قد يبدو بالغ التناقض. خاصة أنّ العلاقة بين قنّينة عطر المسك وإقامة دولة إسلامية، تكاد تكون مستحيلة في المنطق والعقل. لكن هل هذه العلاقة مستحيلة كذلك في الوعي؟
فالعطر رمز للسمو والجمال والنقاء، والدولة إطار السلطة والممارسة العملية والمصالح والموازنات. وبينهما تتكشف أسرار الحياة وقوانين الوعي؛ حيث يبلغ الإنسان قمة الإنجاز حين ينجح في إدارة التناقضات بين رغباته وقدرته على النزوع عنها أو تجاوزها. هنا، تتشكل لحظة الاتزان الذهني التي يُحتفى بها في التجربة البشرية.
قد تبدو المسافة طويلة للوهلة الأولى بين العطر والدولة، وتحتاج عقولنا أن تقطعها من أجل إدراك معنى هذه العلاقة. وقبل أن يخوض القصير في رسم مشهد التحوّلات الكثيرة التي مسّت الوعي العربي والإسلامي خلال السنوات الماضية حتى اليوم، سيشرح "كيف يجتمع في الوعي ما يتفرّق لدى المنطق والعقل".
فـ"كيف يصبح ممكنًا ما نرى أنّه غير ممكن، مثل أن يمتزج في وعي إنسان جيل من الأجيال معنى عطر المسك ومعنى إقامة دولة إسلامية، ويتساويان في تأثيرهما ورمزيتهما لديه. إنّنا نتحدث هنا عن ضرورة الوعي بالعلاقات بين الأشياء، ومعرفة المسافات الموجودة بينها، وإن اختفت عن أنظارنا. فعندما تتوارى الكلمات لا تسقط المعاني والعلاقات بالضرورة".
ويوضح المؤلف أن "قنّينة عطر مسك صغيرة كانت ذات دلالة رمزيّة كثيفة بالنّسبة للشكل الخارجي للتديّن، وكذلك أشياء أخرى مثل طريقة اللّباس" وكذلك "مثّل الحديث النبوي حول حامل المسك ونافخ الكير" الذي قد يُحرق ثياب الإنسان، وحامل المسك الذي يصيبك برائحته الطّيبة، منهجًا وعنصرا أساسيا في فاعلية الدعوة، والاستقطاب لدى المجموعات الإسلامية في مراحلها المبكرة.
ويقول إنّ "رائحة المسك واسمه، كان يُذكّرهم بما ينبغي أن يكون عليه واقع المسلمين المتردّي. ولم يفترق في ذلك المكان عطر المسك أو تفسير في ظلال القرآن أو ثوب أبيض، عن حلم إقامة دولة عادلة، ينشدها الوعي الجنيني لذلك الجيل. فقد امتزجت عناصر وعي واحد، فأصبح للدين والتاريخ والسياسة عطر مميّز".
ومن طبيعة الإنسان أنه لا يستطيع العيش والتطوّر وفق مقتضيات المنطق والعقل والبرهان فقط "فالخيال الواسع وقدرة الوعي على الجمع بين التناقضات، أسباب رئيسية وراء التحوّلات الكبرى التي نمرّ بها. ولطالما كان نشوء الكثير من الدّول والحضارات والثّورات مبنيًّا على خيال جامح لفرد أو مجموعة اختارت أن تتعالى على مقتضيات الواقع وإكراهاته".
في مشهد التحولات النفسية والاجتماعية، يرى الدكتور القصير أن الدولة بدورها تبدو كائنا يتأرجح بين قهر دينامية الانفتاح على العالم وبين المحافظة على الحد الأدنى من الهوية، فيُصدم المواطن العربي أحيانا أمام تناقضات الدولة: افتتاح صالة قمار جنبا إلى جنب مع تدشين مجمع ديني.
ويشير إلى أننا "نعيش في ظل التاريخ، لكننا نواجه صعوبات في تحويل أحداثه إلى قوانين عمل". وعلى رأس هذه القوانين أنه يجب علينا "الافتخار بماض لا كمال فيه". والفخر سيف ذو حدين، لكنه متى ما افتُقد "كان ذلك سببا في ضياع آمال الجيل".
ويرى المؤلف أنه "بعد اختفاء النموذج العثماني الجامع للمكونات الإسلامية قبل أكثر من قرن، بادر الكثيرون إلى البحث عن الحلول في التاريخ، غافلين عن أن الحلول الحقيقية والمشكلات الأساسية توجد في الجغرافيا الإسلامية، وما آلت إليه من تقسيم مدروس".
ويقول "سوف نجد شكلنا السياسي في الجغرافيا أكثر مما سنعثر عليه في التاريخ، فالعودة إلى الجغرافيا تمهد لنا الطريق أكثر من رجوعنا إلى التاريخ"، إذ "تشرح لنا الجغرافيا بدقة حدودنا السابقة وأوضاعنا الجيوإستراتيجية في العالم، وأين كنا كأمة، مثلما تنير الطريق للوجهة التي ينبغي أن نتجه نحوها. الخرائط عنوان وشواهد على حقيقة وجود الأمة، الخرائط أصدق وأهم من كثير من النظريات التي تحاول أن تفسر الواقع".
ويوضح أن أصحاب "القراءة الطهرانية" لتاريخ الدولة الإسلامية سوف يواجهون مشكلة كبيرة في التعامل مع التناقضات المصاحبة لولادتها وتطورها وسلوكها العام "وهي تناقضات طبيعية ومتكررة. إنها قراءة تتحدث عن تاريخ دولة غير الذي حدث، وترى أن التاريخ الصحيح، بكل بساطة أو سذاجة، كان سيتحقق بإزالة أسرة وإحلال أخرى أفضل منها".
ويوضح أن الدولة ذاتها تتغذى من مشروعٍ أكثر من تغذيها من الشرعية وحدها، إذ ما إن تغيب المشاريع حتى تذوي الشرعية، ويصبح الاحتجاج الشعبي على غياب المشروع أقوى وأشد وقعاً من الاحتجاج على فقدان الشرعية.
وكذا فعلت الدول التاريخية الكبرى حينما بنت مشاريعها الكفيلة بتجاوز الجدل السطحي حول "حق" أو "باطل" ووجهت طاقة المجتمعات نحو الفعل والعمل والإنجاز.
ويشير الدكتور القصير إلى أن الكثيرين يتيهون في فهم أحوال الدول والتاريخ بسبب اعتقادهم بأن الشرعية وحدها كافية، لكي تتجاهل الشعوب ضرورة وجود المشروع. إن المشروع هو عقل الدولة وروحها، فهو يعيد بناء الشرعية نفسها ويرممها حين تضعف.
والغالب أن امتلاك المشروع يتفوق على ما سواه من العناصر، من حيث التأثير في مجرى التاريخ. بل يتحول المشروع ذاته إلى شرعية في حال نجاحه. وكذلك كان المماليك والأيوبيون والزنكيون والسلاجقة والعثمانيون والمرابطون والموحدون، كل أولئك كانوا أصحاب مشاريع كبرى.
ويقول المؤلف إن "امتلاك المشروع يُنسي الشعوب تركيزها على مسألة الشرعية، أما الثورات فهي تؤسس لمبدأ الشرعية، في بداياتها الأولى فقط. ثم تبدأ الشعوب سريعا في السؤال عن المشروع وتفاصيله المتصلة بمعاشها وحياتها ومستقبلها".
وعلى مر التاريخ "كان احتجاج الشعوب على غياب المشروع أكبر أثرا وأكثر تكرارا من احتجاجها على غياب الشرعية".
ويوضح القصير أن مقصود الوحي وتركيزه الأكبر ليس منصبا على الدولة وشكل إدارة الحكم، بل على حركة الأمة باعتبارها "وعاء" للمسلمين، وكتلة وكيانا يتحرك في العالم. فـ"الأمة ليست نظرية أو مجموعة مبادئ، لكنها وعي مشترك يتحول إلى حركة أو شكل سياسي منظم، عندما يقوده إصلاحيون في لحظة زمنية كثيفة لمواجهة التحديات".
لكنه يقر بأن "تشكل الأمة يرتبط بدرجة رغبة المكونات الصغرى واستعدادها للتنازل للهياكل السياسية الكبرى لكي تقودها، رغم الاختلاف في الجنس واللغة والثقافة والمصالح الخاصة.
غير أن المشهد لا يستقيم دون الاعتراف بأثر خيال الوعي وقدرته على الجمع بين المتناقضات "فما قد يبدو بعيد المنال من حيث المنطق، يصبح ممكنا ومحرّكا للتاريخ عبر قوة الشعور والإيمان بفكرة. إن تجربة الصين في تحويل الإهانة التاريخية إلى محفز لنهضتها مثالٌ على ذلك، حيث أذلّتها القوى الغربية بالأفيون، فانبعثت إرادة التغيير من رحم الشعور بالمهانة".
أما تاريخنا السياسي، فالأولى أن يكون حديثنا عنه منصبا حول ما عرفه من الحلول والممكنات والصعوبات والمشكلات، عوض أن يكون جدلا بين الحق والباطل. فما علينا سوى تجنب وهم الاعتقاد بحتمية أن كل شيء لابد أن يمضي إلى خير وصلاح على الدوام.
وأي مصيبة أكبر من أن يكون ماضيك حيا، وتكون أنت ميتا؟ "إن المرحلة التي تسبق انبثاق نمط حكم جديد لابد أن تعرف تحولات قوية، نصفها نحن بالتناقض في المواقف وتبديل ساحات الانتماء لدى النخب".
ويتوقف مستقبل الوعي العربي إلى حد كبير على الاعتراف بعمق التناقضات التي تشكل التجربة الإنسانية والاجتماعية والسياسية، والقدرة على تحويلها إلى طاقة للتجديد والابتكار.
وقال المؤلف إنه لا يجب البحث عن الدولة فقط في بطون كتب التاريخ، بل في خرائط الجغرافيا، في الديناميات الذاتية للمجتمعات، وفي قدرة الجيل على ترميم ماضيه دون الطموح لخلق مثالية زائفة لم توجد إلا في الخيال.
وهنا تبدو الحاجة ملحّة لإحياء "قلق الوعي" أي للبحث المستمر عن إجابات جديدة واستثمار طاقة الشك والأسئلة في دفع المجتمع نحو الأمام. فإنما تأتي النهضات من لحظات اللاعقلانية والخيال الجامح، لا من العقلانية وحدها.
وفي عمق هذه الجدلية، يبرز سؤال العطر والدولة، سؤالٌ عن القدرة على صناعة وعيٍ جديدٍ يزاوج بين الرمز والواقع، بين الخيال السياسي والطموح الأخلاقي "لينحت مستقبل الوعي العربي على صورة أكثر واقعية وثراءً".
ونهاية المطاف، سرّ قوة الأمم في مشروعها لا شرعيتها وحدها، وسرّ عافية الوعي في قدرته على الانسجام مع ذاته، وعلى تحويل تناقضاته إلى قوة للفعل، تماماً كما يمتزج عبير العطر وسلطة الدولة في شعور أمة تطمح إلى حياة أجمل وأعدل.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة