"بتسأليني متّ ليه؟
كنت باجري عايز أوصل"
(الشاعر المصري الراحل ميدو زهير)
"لو الله بدّه نركض كان خلق العالم طريق"
(الكاتب الفلسطيني مجد كيّال)
لن تجد في بداية هذا المقال زمناً محدداً للقراءة يخبرك كم ستقضي من دقائق هنا.
لكن مواقع صحفية كثيرة باتت تعتمد هذه الصيغة، في السنوات الأخيرة، وتُعلِم القارئ مسبقاً كم من الوقت سيحتاج لإنهاء النص. هكذا، يعرف القارئ إن كان يستطيع إكماله أو حفظه والعودة إليه لاحقاً (وغالباً لن يعود إليه فعلاً، لكنه يقول ذلك لنفسه كي لا يشعر بالذنب).
كم من الروابط المحفوظة على حساباتنا في مواقع التواصل الاجتماعي تنتظر - منذ سنوات أحياناً - أن ننقر عليها؟
لكننا لا نعود إليها مطلقاً. ليس لأننا نفعل شيئاً أكثر أهمية، بل لأن علاقتنا بالوقت نفسه أصبحت مأزومة، أو على الأقل غير صحية.
منذ سنوات، لا سيما في العقد الأخير، يهيمن على الجميع إحساس متزايد بالفوات. نمضي أيامنا في الركض، لإنجاز المهام المختلفة، تمتص هواتفنا وقتنا - حتى الذي كان يسمى سابقاً بوقت الفراغ - ثم نخلد إلى النوم بصعوبة مع إحساس بالذنب لأننا لم ننهِ كل ما يجب علينا أنهاؤه، ولأننا ليومٍ آخر قد أهدرنا الوقت.
منذ الثورة الصناعية وحتى يومنا هذا، أصبح بإمكاننا الحديث عن "عبادة السرعة". ومع كل اختراع تكنولوجي جديد تتكثف هذه الحالة، حتى وصلنا إلى نماذج الذكاء الاصطناعي التي تفوقنا سرعة بأشواط والتي أصبحنا نعتقد أنه علينا أن نجاريها في السرعة كي لا تحل مكاننا.
وسط هذه الحياة المحمومة، برزت دعوات عالمية إلى الإبطاء. حركات سياسية ومفكرون يرون أن الخلاص، إن جاز القول، غير ممكن في هذا العالم ما لم تتعافَ علاقتنا بالوقت أو يتباطأ إيقاع حيواتنا عما هو عليه اليوم.
منذ عقود، يفرض التسارع منطقه على حياتنا اليومية، بشكل لم نختره بملء إرادتنا، حتى أصبح هناك ما يشبه الهوس بفكرة استثمار الوقت.
الوقت الذي لا "نستفيد" منه هو وقت ضائع بالضرورة ويستدعي مشاعر الذنب والقلق.
وتحت عنوان الكفاءة والجدوى، تتحول اليوميات إلى قائمة طويلة من المهام التي تتجدد باستمرار.
وفيما حملت التكنولوجيا في الماضي وعوداً بتخفيف الأعباء وتحرير الوقت، نجدها على العكس قد ضاعفت الضغوط وزادت المهام بدلاً من أن تنقصها: البريد الإلكتروني، الهاتف الذكي، تدفق المعلومات، كلها فتحت أبواباً لا تغلق، وتركتنا في حالة يقظة قسرية.
لفهم هذا الشعور المتزايد بالضغط، يرى عالم الاجتماع الألماني والفيلسوف هارتموت روزا أن "التسارع الاجتماعي"، هو المفهوم الذي يصف البنى الزمنية في مجتمعات الحداثة المتأخرة (هذه المرحلة بدأت بنظره بعد سقوط جدار برلين وانطلاق شبكة الويب).
العالم لا يتغير فقط، بل تتسارع وتيرة تغيره بطريقة تجعله يتجاوز قدرتنا على التكيف. فالتقنيات التي تنجز المهام بسرعة ترفع تلقائياً سقف التوقعات، وتحول كل إنجاز إلى بداية لمهام جديدة. وفي خلفية كل ذلك، تتغير البنى الاجتماعية نفسها على نحو متسارع: القيم، المهن، العلاقات، الهويات - كل شيء يصبح عرضة للتبدل المستمر. أما على مستوى الحياة اليومية، فتزداد وتيرة المهام وتتقلص مساحة الانتباه، ويعاش الوقت كسلعة نادرة لا تكفي أبداً.
هذا الإيقاع المحموم هو منطق النظام الرأسمالي الذي لا يحافظ على استقراره إلا إذا ظل في حركة دائمة. هذا ما يسميه روزا بـ"الاستقرار الديناميكي". فالنمو ليس خياراً بل شرط بقاء في هذا النظام: علينا أن ننتج ونستهلك ونبتكر وننافس حتى نتقدم، فيما ينظر لأي تباطؤ كتهديد.
هكذا يُدفع الفرد إلى الركض كي يبقى في مكانه على الأقل. وبين مطاردة الإنجاز ودوامة التشتت، يفقد الوقت معناه، ويخسر الإنسان صلته بإيقاعه الخاص، ليجد نفسه في حالة جري دائم خلف هدف لا يقترب.
يشرح روزا أن هذا التحول لم يكن دائماً بهذه الحدة. ففي المجتمعات ما قبل الحديثة، كان الزمن مرتبطاً بالدورات الطبيعية: الفصول، والمواسم، وضوء الشمس وإيقاع الأرض. كان الزمن نوعياً، تحدد قيمته بحسب ما يحدث فيه، لا بحسب سرعته.
حياة الفلاحين في العصور الوسطى على سبيل المثال، كانت منظمة حول الزمن الخطي للطبيعة، أي حول دورات الفصول وتناوب الليل والنهار. كان العمل والمهام اليومية يخضعان لهذه الإيقاعات الطبيعية، ولم تكن هناك أي توقعات لتغير سريع أو مفاجئ في نمط الحياة.
أما في الحياة الحديثة، فيحكم الزمن المجرد كل شيء، حيث أصبح الزمن يعرف وفق المهمة المطلوب إنجازها: ساعات العمل، المواعيد النهائية، والمعاملات المالية التي تنجز في أجزاء من الثانية.
يقول روزا إننا "بعد موت الإله، صرنا نبحث في كل لحظة عما يعوض الأبدية".
ويقصد بذلك أن الإنسان الحديث، بعدما تجاوز الأفق الميتافيزيقي الذي كان يمنحه معنىً يتجاوز الزمن، أصبح يعيش في عالم مادي خالص لا يعده سوى بلذات آنية. ومن هنا، تحول الزمن إلى مورد محدود يسعى الإنسان إلى استنفاده بالكامل عبر الاستهلاك، والإنجاز، واللهاث وراء المتعة.
هكذا يغدو الاستعجال سلوكاً وجودياً، ومحاولة يائسة لملء فراغ روحي خلفه غياب المطلق.
وفي نهاية اليوم، يخلد الناس إلى النوم وهم يشعرون بالذنب، لأنهم لا يتمكنون أبداً من إنهاء قائمة المهام التي وضعوها لأنفسهم.
في هذا السياق يقول روزا، "لقد ألقي اللوم سابقاً على الكنائس لأنها حملت المؤمنين شعوراً مفرطاً بالذنب، لكنها - على الأقل - كانت توفر للمذنبين سبيلاً إلى الغفران. أما مجتمع التسارع الذي نعيش فيه اليوم، فينتج مذنبين بلا خلاص، ولا غفران".
مع تفاقم هذا الضغط، بدأت أصوات كثيرة، فلسفية واجتماعية، تسأل: كيف يمكن مواجهة هذا الإيقاع؟ وهل يمكن استعادة شكل آخر للعلاقة بالزمن؟ من هنا ظهرت الدعوات التي ترى في التباطؤ فعل مقاومة، أو على الأقل محاولة استعادة علاقة صحية مع الوقت والوجود.
عام 2004، برز كتاب "في مديح البطء: حراك عالمي يتحدى عبادة السرعة" للكاتب الكندي كارل أونوريه، بوصفه أحد أهم النصوص التي نقدت شكل العلاقة بالوقت في العالم المعاصر.
يرى أونوريه أن عالماً مفتوحاً على مدار الساعة هو عالم يدعو حكماً إلى الاستعجال. يقول: "امنحنا فرصة لنفعل أي شيء في أي وقت وسنتخم جداول مواعيدنا إلى حد الانفجار".
ويضرب مثالاً على مقاومة هذا المنطق بصعود حركة "الطعام البطيء" (Slow Food) في الولايات المتحدة أيضاً، حيث أسست أليس ووترز مطعمها الشهير "شي بانيس" في بركلي - كاليفورنيا، لتصبح رمزاً لـ"حياة تعاد فيها العلاقة مع الغذاء والزمن على أساس جديد، بعيداً عن الإيقاع الصناعي".
وكانت حركة "الأكل البطيء" من بين أولى أشكال التمرد على منطق السرعة وقد في إيطاليا عام 1986، حين قاد الناشط كارلو بيتريني احتجاجاً على افتتاح أول مطعم لسلسلة "ماكدونالدز" في روما.
بالنسبة إليه، لم يكن الطعام السريع مجرد خيار ذوقي، بل تجسيداً لهيمنة العولمة النيوليبرالية التي تسلّع كل شيء، حتى اللذة والزمن. وبعد حوالي عقد، جاء احتجاج المزارع الفرنسي جوزيه بوفيه في ميلو في فرنسا، ليُعمق الفكرة ذاتها حين فكك مع رفاقه مطعماً لماكدونالدز اعتراضاً على الشركات الغذائية العملاقة التي دمرت الإنتاج المحلي.
وفي سياق متصل، شبه عالم الاجتماع الأميركي جورج ريتزر المنطق التسارعي بما سماه "الماكدونالدية" (McDonaldization) التي تحول قيم الكفاءة، والسرعة، والتكرار، والتنبؤ - وهي قيم مطاعم الوجبات السريعة - إلى نموذج عالمي يحكم التعليم، والثقافة، والاستهلاك، بل حتى العلاقات الإنسانية.
وهكذا بدأت مقاومة السرعة تأخذ طابعاً حياتياً متكاملاً: من الطبخ البطيء إلى المشي المتأني، من القراءة من دون إشعارات إلى الجنس البطيء، من أجل إعادة التواصل مع الزمن والجسد والحواس.
مع ذلك، يعترف أونوريه بأن بعض مظاهر "فلسفة البطء" هذه، قد تبدو رفاهية لا يستطيع الجميع تحملها، من الطعام العضوي إلى العطل الطويلة.
ولذلك يدعو إلى تبني البطء الذكي: "البدء بخطوات بسيطة ومتاحة للجميع، كأن تطهو وجبة من الصفر، أو تتمشى مع صديق، أو تقرأ الجريدة من دون ضوضاء التلفزيون" (والهاتف الذكي اليوم)، أو "تمنح نفسك دقائق للجلوس بهدوء في مكان ساكن".
ويقول: "كلما ضبطت نفسي مسرعاً من دون داعٍ، توقفت وأخذت نفساً عميقاً وقلت لنفسي: لا حاجة للاستعجال. خذ الأمور ببساطة. تمهل".
ويرى أونوريه بصيص أمل يتمثل في "الحركة العالمية من أجل البطء" التي بدأت بالطعام ثم امتدت إلى التربية، والعمل، والصحة، والعلاقات.
كما أظهرت تجارب خفض ساعات العمل في بلدان عدة أن تقليل الدوام يمكن أن يرفع جودة الحياة والإنتاجية معاً، بما يتيح للإنسان استعادة قدرته على العيش - لا الركض فقط.
غير أن هارتموت روزا لا يجد ضالته في حركة "البطء"، من الطعام البطيء إلى المدن البطيئة، إذ يعتبرها خطابات تسويقية تحاول "بيع الأصالة" أكثر مما تعالج جوهر المشكلة .
بعد عشرين سنة على صدور كتابه "التسارع: نقد اجتماعي للزمن"، يرى روزا اليوم أن الأزمة تتجاوز مسألة السرعة والبطء، هي "أزمة عميقة في العلاقات: علاقتنا بالطبيعة، وهو ما يظهر بوضوح في الأزمة البيئية، وعلاقتنا بأنفسنا، حيث انفجرت معدلات استهلاك المؤثرات النفسية في جميع البلدان المتقدمة، وكذلك علاقتنا بالآخرين".
لذلك، لا يكمن الحل في الإبطاء كغاية، بل في تجنب لحظة تتحول فيها السرعة إلى اغتراب، حين نفقد الصلة بالعالم وبذواتنا. هنا يقترح روزا مفهوم "الرنين" (resonance) وهو عبارة عن "علاقة حية ومتبادلة مع العالم، حيث يلمسنا شيء ما فنستجيب، فتقع حركة تأثر من الخارج، ورد من الداخل، ينتج عنها اتصال يغيرنا ويغير تجربتنا للعالم".
الرنين، بخلاف الاغتراب، يخلق صلة ذات معنى. بينما يجعل الاغتراب العالم صامتاً والإنسان "جافاً"، يمنح الرنين الفرد شعوراً بأن العالم يخاطبه. وهو ليس انسجاماً كاملاً ولا تنافراً كاملاً، بل يحتاج إلى اختلاف وتوتر.
لكن الرنين لا يحدث من دون شروط: انفتاح، وهشاشة، ووقت، واستقرار، وغياب الخوف. ويرى روزا أن شبكات التواصل الاجتماعي تحاكي الرنين من دون أن تحققه لأنها تعمل بمنطق السرعة والتراكم نفسه الذي يعمق الاغتراب.
إذاً "فلسفة الرنين" هي دعوة إلى استعادة العلاقة الحية والمتجاوبة مع العالم في وجه تسارع الحياة الحديثة.
من هنا يجدر النظر إلى دعوات التباطؤ اليوم ليس كمجرد رهاب من التكنولوجيا أو حنين إلى زمن سحيق، بل كمحاولة لاستعادة حضورنا في العالم، والرد على منطق الفعالية الذي يساوي بين السرعة والحياة، ليحول الوجود البشري إلى سباق بلا خط نهاية.
المصدر:
بي بي سي
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة