في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في عالم الطبيعة الذي يعج بالمفاجآت، أزاح باحثون في ألمانيا الستار عن سلوك غريب ومذهل لنوع من الكائنات المجهرية التي تعيش بيننا بكثافة هائلة دون أن نلحظها.
تعرف هذه الكائنات باسم الديدان الأسطوانية أو "النيماتودا"، وتعد من أكثر الحيوانات وفرة على سطح الأرض. لكن المفاجأة لا تكمن في عددها، بل في سلوك جماعي أشبه بالخيال العلمي، عندما يشتد الجوع ويشتعل الصراع على الموارد، تصعد الديدان بعضها فوق بعض لتبني "برجا حيا" يرتفع من الأرض، بهدف التشبث بأي حشرة عابرة تنقلها إلى بيئة جديدة وأكثر خصوبة.
لعدة عقود، اعتقد العلماء أن هذه الأبراج ليست سوى خيال تجريبي، شوهدت فقط داخل مختبرات مغلقة أو غرف نمو صناعية. لكن فريقا من معهد ماكس بلانك لسلوك الحيوان وجامعة كونستانز، تمكن أخيرا من تسجيل فيديوهات حقيقية لأبراج دودية تتشكل داخل ثمار التفاح والكمثرى المتحللة في بساتين قريبة من الجامعة، بحسب دراسة جديدة نشرت يوم 5 يونيو/حزيران في مجلة "كارنت بيولوجي".
تقول المؤلفة الرئيسية للدراسة سيرينا دينج، قائدة مجموعة أبحاث سلوك الديدان في معهد ماكس بلانك، في تصريحات للجزيرة نت: "كنت في قمة السعادة عندما رأيت الأبراج في الطبيعة لأول مرة. لقد تخيلنا وجودها لسنوات، لكنها كانت تختبئ أمام أعيننا طوال الوقت".
اعتمدت الدراسة على مزيج من العمل الميداني والتجارب المعملية لفهم هذا السلوك الفريد، الذي لا يشاهد إلا في حفنة من الكائنات، مثل قوالب الوحل والنمل الناري والعناكب الحمراء. قضى الباحثون أشهرا يتفحصون الفواكه المتحللة باستخدام مجهر رقمي في البساتين، ليكتشفوا الأبراج ويجلبوها إلى المختبر لمزيد من الدراسة.
وكان من المفاجئ أن جميع أبراج الديدان الطبيعية التي تم رصدها تتكون من نوع واحد فقط من النيماتودا، وفي مرحلة صلبة تعرف بـ"طور الدوفر" الذي تتخذه الديدان في أوقات القحط، بحسب "دينج". وتوضح الباحثة أن برج الديدان ليس مجرد كومة من الكائنات، بل هو بنية منسقة، كأنها كائن فائق موحد يتحرك.
راقب الفريق البحثي هذه الأبراج وهي تهتز وتتلوى في انسجام، تماما كما تفعل الديدان المنفردة حين تقف على ذيولها في محاولة للتمسك بأي حشرة مارّة. لكن الجديد أن هذه الأبراج الجماعية كانت قادرة على الانفصال عن السطح والالتصاق بجسم حشرات مثل ذباب الفاكهة، لتنتقل معها إلى مواقع جديدة وغنية بالغذاء.
وللتأكد من وظيفة هذه الأبراج، أنشأ الفريق نماذج مصغرة في المختبر باستخدام ديدان "الربداء الرشيقة"، ووضعوها على سطح خال من الطعام مع عمود صغير، مثل شعيرات فرشاة أسنان. خلال ساعتين فقط، تشكلت الأبراج الحية، وبقيت ثابتة لأكثر من 12 ساعة، وكانت ترسل أذرعا استكشافية نحو الفضاء المحيط، وأحيانا تبني جسورا لتصل إلى أسطح جديدة.
وتعلق الباحثة قائلة: "الأبراج ليست ساكنة، بل تنمو وتتفاعل. عندما لمسناها، استجابت فورا واتجهت نحو المنبه وعلقت عليه". وتلفت إلى أنه من أغرب النتائج أن هذه السلوكيات لم تقتصر على المرحلة الأولى فقط، بل ظهرت أيضا لدى الديدان البالغة وبقية مراحل النمو، ما يشير إلى أن هذا السلوك الجماعي قد يكون أوسع انتشارا مما ظن العلماء.
ورغم تعقيد هذه البنية الحية، فإن أفراد البرج أظهروا خصائص متشابهة في الحركة والخصوبة والقوة، دون تمايز في الأدوار، على الأقل في ظروف المختبر. ويطرح الباحثون احتمال وجود تمايز في الأدوار داخل الأبراج الطبيعية متعددة الأنواع الجينية، وهو ما يفتح الباب أمام تساؤلات مثيرة حول من يتعاون ومن يخدع في مجتمعات هذه الكائنات المجهرية.