شفق نيوز- بغداد
منذ أكثر من عقد ونصف، تحوّلت "اعتزالات" زعيم التيار الصدري الشيعي مقتدى الصدر، المفاجئة وصراعاته السياسية المتكرّرة إلى العنوان الأبرز في المشهد العراقي، لتشكّل كل خطوة يعلنها "زلزالاً سياسياً" يهزّ موازين القوى داخل البيت الشيعي وفي الساحة الوطنية ككل.
فمن حليف "مضطر" لنوري المالكي في العام 2010، إلى خصم شرس يطالب بإسقاط الحكومات، ومن قائد تظاهرات يهتف بـ"شلع قلع" إلى سياسي يعلن انسحابه وعودته مراراً، ظلّ الصدر لاعباً غامضاً ومثيراً في الساحة السياسية، اذ يلوّح باعتزال السياسة كلما بلغ الصراع ذروته، ثم يعود ليعيد رسم قواعد اللعبة بطرق غير متوقعة.
بداية الأزمات
بداية، صراع زعيم التيار الصدري الشيعي، مقتدى الصدر، على الصعيد السياسي بدأ قديماً وتحديداً من العام 2010، بعد الموافقة على ترشيح رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، لولاية جديدة "ثانية"، رغم كونه كان يرفض هذا الترشيح نتيجة الخلافات الحادة التي نشبت بين الطرفين خلال فترة حكمه الأولى، والتي بلغت ذروتها في العام 2008 عندما أمر المالكي الجيش العراقي بمواجهة "جيش المهدي" التابع لمقتدى الصدر.
لكن، وبعد انتخابات عام 2010 التي أسفرت عن أزمة سياسية استمرت أشهراً عدة عطّلت تشكيل الحكومة، توصّل "التحالف الوطني" الشيعي يوم الجمعة 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2010 إلى اتفاق يقضي بترشيح المالكي مجدداً لرئاسة الوزراء، حيث جاء هذا الاتفاق بين ائتلاف "دولة القانون" بزعامة المالكي الحاصل على 89 مقعداً في البرلمان، والكتلة الصدرية التي يتزعمها مقتدى الصدر، والحاصلة على 39 مقعداً.
وكان انضمام الصدريين، خطوة حاسمة في تثبيت ترشيح المالكي، إذ شكّل دعمهم ركيزة أساسية في إعادة انتخابه لولاية ثانية، رغم أن الصدر كان قد تعهد لجمهوره في حملته الانتخابية بعدم التحالف مع المالكي والعمل على إسقاطه.
لاحقاً، أعلن الصدر انضمامه إلى تكتل يهدف إلى سحب الثقة من المالكي، وهو ما أضفى زخماً كبيراً على هذا التوجه السياسي وأثار قلقاً داخل أوساط الحكومة وانفجرت الأزمة في وقتها، وقد اعتبر العديد من المراقبين ذلك الموقف بمثابة انشقاق عن التحالف الوطني الشيعي الذي كان يضم مختلف القوى السياسية الشيعية.
التحول المفاجئ أثار جدلاً واسعاً، إذ أن الصدر كان قبل أشهر قليلة قد ساهم بشكل حاسم في إعادة المالكي إلى رئاسة الوزراء، لكنه سرعان ما تحوّل إلى خصم سياسي بارز له، ما جعل العلاقة بين الطرفين عنواناً رئيسياً للتجاذبات داخل البيت السياسي الشيعي في تلك المرحلة.
ملامح أول اعتزال
وبدأت ملامح أول إعلان اعتزال سياسي للصدر في آذار/ مارس 2013، عندما لوّح بالانسحاب من الحكومة والبرلمان، واصفاً مجلس النواب في حينها بـ"الهزيل"، وبعد خمسة أشهر فقط، وتحديداً في الرابع من آب/ أغسطس من العام نفسه، أعلن الصدر اعتزاله الرسمي العمل السياسي.
غير أن هذا القرار لم يكن الأخير، فبعد نحو عام عاد الصدر في شباط/ فبراير 2014 ليعلن انسحابه مجدداً من الحياة السياسية، مقرراً حل التيار وإغلاق مكاتبه السياسية كافة، مع استثناء بعض المؤسسات ذات الطابع التطوعي والإعلامي، فيما حصل تياره على 36 مقعداً في مجلس النواب.
وبعد عام على حكومة رئيس مجلس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، وتحديداً في أيار/ مايو 2015 شهدت العاصمة العراقية بغداد سلسلة من التظاهرات الشعبية دعا إليها الصدر، حيث خرج الآلاف من أنصاره للمطالبة بإصلاح العملية السياسية ومحاسبة الفاسدين وإنهاء نظام المحاصصة الطائفية والحزبية.
وانطلقت أولى تلك الاحتجاجات في 31 أيار/ مايو 2015 بساحة التحرير وسط العاصمة، ببادرة من التيار المدني، لتتحول لاحقاً إلى حراك أسبوعي يتجدد كل يوم جمعة، ومع دخول التيار الصدري على خط التظاهرات، اكتسبت زخماً متصاعداً وغطاءً جماهيرياً واسعاً، خصوصاً بعد أن دعا الصدر أتباعه للانضمام إلى المتظاهرين والتوحد خلف مطلب الإصلاح بعيداً عن أي شعارات أخرى.
وشهد شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه، احتشاد الآلاف لمطالبة الحكومة بتنفيذ إصلاحات جادة ومحاربة الفساد، لتدخل التظاهرات مرحلة جديدة في شباط/ فبراير 2016 عندما اقتربت من أسوار المنطقة الخضراء شديدة التحصين، وسط تهديدات واضحة من الصدر بسحب الثقة من حكومة العبادي إذا فشلت في تشكيل حكومة تكنوقراط.
بينما المشهد تصاعد أكثر في آذار/ مارس 2016، حين انضم الصدر بنفسه إلى المتظاهرين في ساحة التحرير، ورفع شعار "شلع قلع" في إشارة إلى إسقاط الحكومة وتشكيل أخرى جديدة بعيدة عن المحاصصة، وبعدها بيوم واحد دعا أنصاره إلى تحويل تظاهراتهم إلى اعتصام مفتوح عند بوابات المنطقة الخضراء، وفي 27 آذار/ مارس، دخل الصدر بنفسه إلى المنطقة الخضراء وأقام خيمة اعتصام داخلها، فيما استمر أتباعه بالاعتصام خارج الأسوار، قبل أن يعلن في 31 من الشهر نفسه إنهاء الاعتصام بعد تلقيه وعوداً من العبادي بتشكيل حكومة جديدة مستقلة.
لكن تلك الوعود لم تتحقق كما كان متوقعاً، ليتجدد الغضب الشعبي في 30 نيسان/ أبريل 2016، حين اقتحم الآلاف من أتباع الصدر المنطقة الخضراء احتجاجاً على رفض البرلمان تمرير التشكيلة الحكومية التي قدمها رئيس الوزراء، حيث استمر الاعتصام داخل المنطقة ليوم واحد فقط، قبل أن يعلن الصدريون في الأول من أيار انسحابهم من ساحة الاحتفالات الكبرى وإنهاء وجودهم داخل المنطقة الخضراء.
مطالبات وتحشيدات
وفي الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2018 أعلن الصدر عزمه الانسحاب من الحياة السياسية، مؤكداً التزام تحالف "سائرون" بعدم تقديم أي مرشح للحكومة.
الصدر دعا في وقتها إلى تشكيل كابينة وزارية بعيدة عن الضغوط الحزبية والمحاصصة الطائفية والعرقية، وفي كانون الأول/ ديسمبر 2019 أصدر مكتبه الخاص قراراً يقضي بإغلاق جميع المؤسسات التابعة للتيار الصدري لمدة عام كامل باستثناء مرقد والده وشقيقيه ومكتبه الخاص، كما شمل القرار إغلاق حسابات محمد صالح العراقي المعروف بـ"وزير الصدر" على منصات التواصل.
وفي الخامس عشر من تموز/ يوليو 2021 أعلن الصدر، انسحابه للمرة السابعة من العملية السياسية مبرراً ذلك بانتشار الفساد، مشيراً إلى أنه لن يشارك في الانتخابات وأنه يسحب الغطاء عن جميع المشاركين في الحكومتين الحالية واللاحقة، لكنه عاد بعد ثلاثة أشهر وسمح للتيار بخوض الانتخابات البرلمانية ليحقق نتائج متقدمة.
وكان العراق قد أجرى في العاشر من شهر تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2021 انتخابات تشريعية مبكرة للخروج من أزمة سياسية عصفت بالبلاد بعد تظاهرات كبيرة شهدتها مناطق الوسط والجنوب في العام 2019 احتجاجاً على استشراء البطالة في المجتمع، وتفشي الفساد المالي والإداري في الدوائر والمؤسسات الحكومية، وتردي الواقع الخدمي والمعيشي ما دفع رئيس الحكومة السابقة عادل عبد المهدي، إلى الاستقالة بضغط شعبي.
انسحاب ومقاطعة
وفي الخامس عشر من حزيران/ يونيو 2022 جدد اعتزاله السياسة للمرة الثامنة وأوعز لنواب كتلته البالغ عددهم 73 نائباً بالاستقالة من البرلمان بعد فشل محاولاتهم في تشكيل الحكومة، واعتبر قراره تضحية من أجل الوطن والشعب، على حد قوله.
وجدد الصدر، في وقتها، القول إنه لن يشارك في أي انتخابات مقبلة بوجود الفاسدين، وفي التاسع والعشرين من آب/ أغسطس 2022 أعلن اعتزاله النهائي للعمل السياسي وإغلاق جميع مؤسسات التيار باستثناء مرقد والده والمتحف وهيئة تراث آل الصدر، مؤكداً أنه في حل من الجميع وأنه لن يتدخل في الشأن السياسي مستقبلاً.
وأعاد الصدر، التأكيد على موقفه الرافض للمشاركة في الانتخابات البرلمانية المقررة في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، حيث جاء رد الصدر بعد رسالة من الرئيس العراقي عبد اللطيف جمال رشيد دعاه فيها إلى التراجع عن قرار المقاطعة، قائلاً فيها: "لن أكون شريكاً للفاسدين وأعداء الشعب، وسأظل جندياً في خدمة العراق أواجه ما يحيط به من أزمات ومصاعب".
وأشار الصدر، إلى استعداده للتصدي للتحديات التي تهدد البلاد من الداخل والخارج، مؤكداً أن هدفه هو عراق خالٍ من الفساد والتبعية والطائفية وأن دعوته لمقاطعة الانتخابات لم تكن سعياً لتأجيلها أو إلغائها، بل جاءت احتجاجاً على تفشي الفساد.
بينما شهدت الأيام القليلة الماضية، عودة التصعيد السياسي بين الصدر والإطار بعد ما كشفه الناشط المعارض علي فاضل، في أحد برامجه على مواقع التواصل، حيث تحدث عن امتلاكه معلومات تفيد بوجود مخطط لاغتيال الصدر خلال زيارته لمرقد والده في النجف، عبر طائرة مسيّرة يُزعم أن النائب عن ائتلاف دولة القانون ياسر صخيل يقف وراءه.
هذه التصريحات أشعلت أجواء التوتر في العديد من المحافظات العراقية، إذ انتشرت عناصر سرايا السلام، الجناح المسلح التابع للتيار الصدري، تحسباً لأي تطور أمني، وفي المقابل، أصدر النائب ياسر المالكي بياناً نفى فيه الاتهامات واعتبرها "افتراءات تهدف لإشاعة الفتنة"، معلناً عزمه مقاضاة من يقف وراءها.
من جانبه، علّق مقتدى الصدر على ما أثير بشأن تهديدات باغتياله مؤكداً أن مثل هذه التسريبات لن تكون سبباً للفتنة، مشدداً على أن التيار الصدري "لن ينجر وراء محاولات إثارة الفوضى"، وأن رهانهم الدائم يبقى على وعي أنصاره وحبهم للوطن.
ثلاثة رهانات سياسية للصدر
في غضون ذلك، يقول مصدر مقرب من زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، إن الأخير بات أكثر عزلة وتفرداً بالقرار خلال المرحلة الراهنة، إذ لم يعد يشرك في مداولاته السياسية سوى دائرة ضيقة جداً من المقربين، لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، حيث تُظهر تغريداته وبياناته الأخيرة قراءة أكثر حذراً ووضوحاً للمشهد السياسي العراقي.
وفي حديث لوكالة شفق نيوز، يضيف المصدر، أن "الصدر يضع أمامه ثلاثة سيناريوهات رئيسة للفترة المقبلة أولها النزول إلى الشارع وإعادة نصب خيام الاعتصام والتصعيد الشعبي، وهو خيار من شأنه تهديد إجراء الانتخابات في موعدها المحدد".
أما الرهان الثاني، فيذهب نحو الموافقة المشروطة على الانتخابات، الكلام لنفس المصدر، والقبول بإجراء الانتخابات في موعدها، مع دفع جمهوره إلى المقاطعة، ما سيؤدي إلى نسبة مشاركة متدنية.
ويشير إلى أن "الصدر، بحسب هذه القراءة، يراهن على ضمانات دولية غير مباشرة بعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات في حال كانت ضعيفة، لاسيما مع مشاركة فصائل مسلحة محظورة قانونياً ودولياً، وهو ما قد يفتح الباب أمام تشكيل حكومة طوارئ بعيدة عن حكومة محمد شياع السوداني، الذي يفتقر لدعم أمريكي وإيراني خلال الفترة الحالية، مع احتمال ظهور شخصية بديلة على غرار مصطفى الكاظمي، بل وحتى عودة الأخير لقيادة المرحلة الانتقالية".
بينما ذهب الخيار الثالث نحو تأجيل الانتخابات، وهو المراهنة على تطورات مفاجئة وكبيرة في المنطقة قد تُجبر الحكومة والإطار التنسيقي على تأجيل الانتخابات.
وفي المقابل، ووفقاً للمصدر فإن الإطار التنسيقي أرسل قبل أيام مبعوثاً شخصياً إلى الصدر، حاملاً عرضاً يتضمن موافقة الإطار على أن يُسمّي الصدر شخصية رئيس مجلس الوزراء المقبل كما حدث مع مصطفى الكاظمي، مقابل عدم التدخل في مسار الانتخابات، لكن الصدر رفض العرض بشكل قاطع، متمسكاً بخياراته المطروحة.