شفق نيوز/ كركوك، المدينة التي تجمع بين العراقة والتنوع، لم تكن يوماً مجرد ملتقى للأعراق والديانات، بل كانت موطناً لحياة اجتماعية نابضة تجسّدت في تفاصيلها اليومية، ولعلّ من أبرز تلك التفاصيل الحمّامات الشعبية التي شكّلت جزءًا أصيلًا من النسيج المعماري والثقافي للمدينة.
وخلال القرن الماضي، كانت الحمّامات في كركوك أكثر من مجرد أماكن للاستحمام؛ إذ وجدت كفضاءات للراحة والنقاش والمصالحة والطقوس الاجتماعية، ومن النادر أن تجد حيًا خاليًا من حمّام شعبي يلجأ إليه الناس صيفًا وشتاءً، نساءً ورجالًا، كبارًا وصغارًا.
حمّام ده ده حمدي.. رمز الزمن الجميل
ومن أشهر هذه الحمّامات "حمّام ده ده حمدي"، الذي يعود لعائلة آل كتانة، وقد تناقل أولاده عبيد ونجاة وجزمي ولمعي ونهاد إدارته بعد وفاة والدهم الشيخ قدرت كتانة.
هذا الحمّام كان من معالم السوق الكبير، وارتبط اسمه بالوجاهة والنظافة والضيافة، واليوم، وبعد أن أُغلق لسنوات، بات متروكًا، ومهددًا بالتدهور الكامل في ظل غياب الدعم الحكومي للتراث.
وأثار إعلان عرض حمّام ده ده حمدي، أحد أقدم وأشهر الحمّامات التراثية في مدينة كركوك، للبيع، ردود فعل واسعة ومخاوف من اندثار معلم تاريخي يعود تاريخه إلى أكثر من قرن من الزمن.
الحمّام، الذي يقع في منطقة السوق الكبير وسط المدينة، يتميز بطرازه العثماني التقليدي وقبابه ذات النوافذ الدائرية التي تسمح بدخول الضوء الطبيعي، ويعد من المعالم المعمارية البارزة التي حافظت على طابعها التراثي رغم الظروف السياسية والاقتصادية التي مرّت بها المدينة.
ويقول المتخصص في آثار كركوك عبدالله ياسين، لوكالة شفق نيوز، إن "حمّام ده ده حمدي ليس مجرد مبنى أثري، بل هو شاهد حي على جزء من الحياة الاجتماعية والتراث الثقافي للمدينة"، مضيفًا أن "عرضه للبيع في هذا التوقيت يُشكل تهديدًا مباشرًا لهويته وقد يؤدي إلى فقدانه كموقع تراثي إذا ما تم تحويله إلى غرض تجاري أو سكني".
وأشار ياسين إلى أن "الجهات المعنية، وعلى رأسها دائرة الآثار والبلدية، مطالبة بالتدخل العاجل لتسجيل الحمّام كموقع أثري رسمي، أو شرائه وتحويله إلى متحف أو مرفق ثقافي مفتوح أمام الزوار".
طوقات وكريم حمامجي..الحمام الأسطورة
ويقول الباحث عباس البياتي لوكالة شفق نيوز، أن "من الحكايات الطريفة التي لا تُنسى في ذاكرة المدينة، قصة "حمّام طوقات"، الذي أسسته عائلة تركية جاءت من ولاية طوقات في الأناضول خلال العهد العثماني.
تولّى الحاج طانري ويردي تأسيسه، ومن بعده أبناؤه الحاج إبراهيم أغا، الحاج يونس أغا، وملا ذنون، حتى أصبح تحت إدارة كريم الدباغ، المعروف بين أهالي كركوك بـ"كريم حمامجي".
واشتهر هذا الرجل بخفة ظله وحكمته، حتى أن اسمه ارتبط بالحمّام لدرجة أن الناس نسوا اسمه الأصلي وصار يُعرف باسم "كريم حمامي".
تحوّلات قاسية على خط الزمن
واضاف أن"بعض الحمّامات تحوّلت إلى محالّ تجارية، مثل حمّام الحاج حسن وحمّام الشفاء وحمّام المالح (شور حمام)، في حين هُدمت حمّامات أخرى بالكامل مثل حمّام جوت حمام وحمّام قرة نوري وحمّام كوز كولي، وتحولت مواقعها إلى ساحات انتظار أو أسواق للخضار. حمّام الحاج جمعة مثلًا، أُزيل ضمن مشروع تطوير محيط نهر خاصة (جاي) وحلّ مكانه متنزه عام.
رغم الإهمال، لا تزال بعض الحمّامات صامدة في وجه الزمن، منها حمّام الساعة، الذي ما زال يفتح أبوابه للزبائن في منطقة الكورنيش، وحمّام الهلال في حي الأندلس المعروف باسم "سوق رحيم آوا"، مما يُبقي بصيص أمل في استمرار هذا الإرث الحي.
نداءات لحماية الذاكرة المعمارية
ويؤكد المتخصص بآثار كركوك عبدالله ياسين، لوكالة شفق نيوز، أن "الحمّامات الشعبية تمثّل ذاكرة معمارية واجتماعية لا تعوّض، وإنّ ضياعها خسارة حضارية للمدينة".
وأضاف أن "الواجب اليوم يقع على دوائر الآثار والبلدية لتسجيل ما تبقّى منها كمواقع تراثية وحمايتها من الاستثمار العشوائي الذي يلتهم ذاكرة كركوك قطعة قطعة".
تراث يغادر بصمت
اليوم، وأمام زحف الحداثة والإهمال المؤسسي، يغادر تراث كركوك المادي بصمت.
حمّام تلو الآخر يُغلق، جدران تتداعى، وأسماء تنقرض من ذاكرة الأجيال، لكن الوعي المجتمعي بأهمية هذه المعالم ربما يكون الخط الأخير في دفاعنا عن ذاكرة مدينة كانت يومًا ما تنبض بالحياة من بوابة "حمّام شعبي".
فيديو 1