آخر الأخبار

"عمال كردستان" يصابون ويموتون جراء حوادث العمل ولا قانون يكفل حقوقهم

شارك

بغداد اليوم - بغداد

وسط تزايد إصابات العمل، يواجه العمال المصابون وذوو المتوفين صعوبات عديدة لتأمين حقوقهم، نتيجة تجاهل أصحاب العمل لمسؤولياتهم في تسجيل العاملين تحت اداراتهم لدى دائرة الضمان الاجتماعي تهربا من دفع الاشتراكات الشهرية، واعتماد التسويات العشائرية خارج المحاكم، وغياب التشريعات التي تضمن تلك الحقوق، ظل ضعف إجراءات السلامة المهنية في أماكن العمل.

"لقد نجوت بأعجوبة" عبارة اعتاد الميكانيكي يونس موسى (أسم مستعار، 62 سنة)، ترديدها قبل شروعه في سرد قصة إصابة بالغة تعرض لها صيف العام 2013 أثناء قيامه باصلاح شاحنة نقل في ورشة بمنطقة كاني ماسي التابعة لمحافظة دهوك بإقليم كردستان.

يستند على عكازه ويقول مستذكرا الحادث:"كنت قد ثبت الرافعة الميكانيكية وانتهيت من فتح صواميل اطار الشاحنة الأمامي، وما هي إلا لمحة بصر حتى انهار جزء من المركبة فوقي". يهمس بينما ملامح وجهه تتقلص تعبيراً عن ألم الذكرى:"نزل كل ذلك الثقل على جسمي".

ويتابع:"لم استطع التنفس، ولا حتى الصراخ من فرط الوجع، ثم غبت عن الوعي، وشاءت الصدفة أن شابين شاهدا ماحدث، وتمكنا من اخراجي". أخذوه بسيارة بيك آب إلى قرية (براشي) التابعة لناحية جمانكي في قضاء العمادية (40 كم من دهوك)، ومن هناك نقل بسيارة إسعاف إلى مستشفى طوارئ دهوك.

ترتجف شفته السفلى وهو يهز رأسه بأسف:"أظهرت الفحوصات أن الفقرتان الخامسة والسادسة من عمودي الفقري قد تفتتا، وأن الضرر كان قد وصل إلى الحبل الشوكي". بقي يونس، طريح الفراش سبعة أشهر قبل أن يتمكن من السير مستخدماً عكازتين، ويحاول التكيف مع اعاقة دائمة تفرض عليه استخدام انبوب مطاطي للتبول.

(صور الأشعة الخاصة بالعامل المصاب يونس)

عمل يونس بأجر شهري في تلك الورشة على مدى 31 سنة، ولم يحصل على تعويض عن اصابته سوى الف دولار قدمها له صاحب الورشة، والتي يقول بأنها لم تكف حتى لسد جزء صغير من نفقات العلاج الباهظة، ويضيف زاماً شفتيه: "أما الدولة فلم تقدم لي أي شيء على الإطلاق".

مصدر الصورة

هو يشعر بالاستياء الشديد لذلك، خاصة انه ظل يسدد اشتراكاته في نقابة العمال منذ سنة 1994، وحين حاول الحصول على راتب تقاعدي واجهته تحديات لم يجد طريقا لحلها على الرغم من توكيله لمحامٍ. فقد اكتشف ان صاحب الورشة لم يكن قد سجله في دائرة الضمان الاجتماعي، مما اضطره إلى رفع دعوى قضائية أمام محكمة العمل في دهوك خلال سنة2017.

الإجراءات كانت معقدة بالنسبة اليه ومعالجتها تطلبت وقتاً طويلاً، ثم تعرض لضغوطات اجتماعية لثنيه عن مواصلة دعواه، ليجد نفسه في النهاية محروماً من الحقوق التي توقع انها استحقاق مضمون له.

بعد فشله في الحصول على راتب تقاعدي، حاول يونس الحصول على راتب ذوي الإعاقة، لكن طلبه قوبل كذلك بالرفض، لأن اللجنة الطبية حددت له درجة عجز 50% وهي أقل من الحد القانوني اللازم للحصول على الراتب.

يقول بحسرة: "فقدت مهنتي التي كانت مصدر رزقي الوحيد، وأصبحت أنا وعائلتي المكونة من 11 فرداً بلا دخل أو دعم أو أمل".

العشرات من العمال في اقليم كردستان، تعرضوا خلال السنوات القليلة المنصرمة إلى اعاقات جراء حوادث عمل دون ان يحصلوا على تعويضات أو مساعدة من الجهات المعنية سواء رواتب تقاعد أو ضمان اجتماعي، والبعض فقدوا أرواحهم دون ان يحصل ذووهم كذلك على تعويضات.

قوانين ملزمة .. تنتظر التفعيل

تلزم المادتان (54-55) من قانون التقاعد والضمان الاجتماعي للعمال رقم 39 لسنة 1971، الادارات واصحاب العمل، العناية بالعامل الذي يتعرض لاصابة عمل، اثناء العمل او بسببه.

ويُقصد بالعناية "كل ما يحتاجه العامل فور اصابته من اسعافات طبية اولية، وتضميد احتياطي، ووسائل انعاش وما سوى ذلك". وتقع على عاتق الإدارات وأصحاب العمل مسؤولية ايصال العامل المصاب لاقرب مركز طبي تعتمده المؤسسة.

كما تلتزم بمنحه الأجر الكامل حتى نهاية يوم العمل الذي وقعت فيه الإصابة. وتكون الجهتان مسؤولتان مدنيا وجزائيا عند الاقتضاء عن كل ما يحصل للعامل المصاب من مضاعفات، من جراء تأخير ايصاله للمركز الطبي او اهمال اسعافه فور وقوع الإصابة.

لكن واقع الحال يشير إلى انها حقوق غير مفعلة، اما لتجاهلها من قبل الإدارات وأصحاب العمل لتجنب الالتزامات المترتبة عليها أو لجهل العامل وعدم مطالبته بها.

العمال بلا ضمان صحي!

وفقًأ لإحصائيات اتحاد نقابات العمال في كوردستان – فرع دهوك، تبلغ أعداد العمال في المحافظة ضمن القطاع الخاص 120 ألفاً، بينهم 11 ألف عامل أجنبي، 90% منهم قادمون من سوريا. 20% فقط من إجمالي العاملين مشمولون بالضمان الاجتماعي.

ويوجد في محافظة دهوك نحو 100 ألف مشروع، 14 ألف منها فقط تتمتع بتغطية ضمان اجتماعي. وفي أقل تقدير فأن 30% من هذه المشاريع تعمل بدون رخصة عمل، هذا يعني أن عدداً كبيراً من العمال في دهوك، غير محميين بتأمين صحي، ولايتلقون الرعاية الصحية اللازمة في حال تعرضهم لإصابات عمل.

يقول رئيس اتحاد نقابات عمال كردستان، فرع دهوك ولات أمين ئوزماني، ان القانون ينص على ضمان كافة حقوق العمال”:لكن حتى الآن لا يوجد ضمان صحي للعمال”. ويوضح: "الوزارة تعمل على هذا الملف الصعب، إذ من المفترض أن يتم إنشاء دائرة خاصة بالضمان الصحي تشمل العمال المصابين أو الذين يعانون من أمراض معينة"، دون أن يحدد موعدا لإنشاء الدائرة.

افتقاد الضمان الصحي وبالتالي المراكز الصحية المجانية التي توفر الرعاية الصحية للعمال المصابين أو الذين يعانون من أمراض مهنية، تمثل مشكلة في كردستان، بحسب مسؤول قسم الصحة والسلامة المهنية في دائرة العمل بدهوك سردار عبد المجيد.

ويشير الى ان عدم وجود مركز صحي خاص بالعمال في عموم كردستان "جعل الرعاية الصحية تقتصر على شُعب ضمن دوائر العمل"، في حين يوجد مركز صحي في بغداد وبقية المحافظات العراقية، حيث تعمل هذه المراكز كدوائر مستقلة بفروع تغطي مختلف المناطق، وفقاً لما ذكر.

ويؤكد أن دائرته تحاول وبالتعاون مع جهات حكومية أخرى، إنشاء مراكز صحية متخصصة من أجل ضمان حقوق العمال من حيث "توفير العلاج اللازم في حالات الإصابات، واجراء الفحوصات الدورية، وتقديم الرعاية للمصابين بأمراض مهنية، لا سيما في القطاعات ذات المخاطر العالية مثل معامل النفايات، النفط، والبلاستيك، التي تتطلب متابعة طبية مستمرة".

ويقر بأن العمال الذين يتعرضون للإصابات أو الأمراض المهنية يضطرون إلى تحمل تكاليف علاجهم بأنفسهم، خاصة ان معظم حالات الإصابات "لايتحمل أرباب العمل مسؤولية تغطية تكاليف معالجتها".

من جانبه يقول مدير عام دائرة العمل والضمان الاجتماعي في إقليم كردستان، مريوان بكوك عزيز، ان دائرته تعمل منذ مطلع 2025 على إستحداث مديرية خاصة للصحة والسلامة المهنية في كردستان، إلا ان "الظروف المالية" أعاقت إنجازها بنحو كامل، مبينا :"نحتاج إلى توفير الكوادر والمستلزمات والأجهزة".

وفي حال عدم التمكن من استحداث المديرية، يقول مريوان بأن دائرته ستقوم وبالتنسيق مع وزارة الصحة بإنشاء مركز للصحة والسلامة المهنية "يشمل جميع العمال المصابين، وليس المضمونين فقط" كما هو الحال في باقي مناطق العراق باسم "المركز الوطني للصحة والسلامة المهنية."

ويرى مسؤول الشعبة القانونية في دائرة الضمان الاجتماعي، الحقوقي نذدةظان أسعد، أن القانون يتيح للعامل المضمون الاستفادة من رصيده غير المسحوب، وخاصة النسبة المخصصة للضمان الصحي "في حال تعرضه لإصابة وثبت عجزه عن العمل بتقرير طبي"، ويستدرك:"لكن الواقع يشير إلى أن هذه الفقرة من القانون غير مفعلة".

ويقول بانه لم يسبق لعمال أن طالبوا بسحب أرصدتهم من الضمان الصحي، وذلك بسبب:"قلة الوعي بحقوقهم وعدم معرفتهم بالإجراءات القانونية المتبعة".

ولكن حتى لو قام هؤلاء العمال بتقديم طلبات لسحب ارصدتهم، لن يجدوا تمويلا في دائرة الضمان الاجتماعي لتغطيتها، وفقاً لـ نذدةظان الذي يؤكد بان ذلك يتعارض مع القانون.

مصدر الصورة

الاستحقاقات القانونية للمصابين

انتساب العامل إلى اتحاد نقابات العمال وفقا لـ نذدةظان أسعد "ليس شرطًا لحصوله على حقوقه" ويلفت إلى أن بوسع العمال المصابين والمسجلين في الضمان الاجتماعي، تقديم طلب رسمي إلى اللجنة الطبية المختصة، وفي حال تجاوزت نسبة العجز 35% يُمنح العامل راتبا تقاعديا يُحسب من تاريخ الإصابة أو المرض، ويستمر حتى استكمال الشفاء التام، ويخضع لفحص طبي دوري كل ستة أشهر. وإذا ترتبت على الإصابة عاهة مستديمة، يُمنح راتبا تقاعديا ثابتا ومستمرا، وفي حال وفاته يُنقل الراتب إلى ورثته وفق القسام الشرعي.

أما إذا كانت نسبة العجز أقل من 35%، فيقول نذدةظان أسعد، بان العامل المضمون سيمنح مكافأة تعويضية دفعة واحدة، بدلا من الراتب التقاعدي، وتحدث عن ميزة قانونية قال بأنها مهمة "تتيح للعامل الجمع بين نسب العجز في حال تعرضه لإصابة أو مرض آخر خلال فترة عمله، سواء في نفس بيئة العمل أو في موقع آخر، مما يؤدي إلى رفع نسبة العجز الإجمالية وزيادة مستحقاته".

كما أن للعامل تقديم شكوى جزائية ضد صاحب العمل "في حال أثبتت التحقيقات تقصيره تجاه العامل"، بالإضافة إلى المطالبة بتعويض: "سواء كان يتعلق بالضرر المادي او المعنوي" يقول مسؤول الشعبة القانونية.

وينبه إلى أن لجوء العامل المضمون إلى المحاكم للحصول على حقوقه لا يؤثر على استحقاقاته لدى دائرة الضمان الاجتماعي، سواء ما يتعلق منها بالراتب التقاعدي أو التعويض، كما أن "ادارة صاحب العمل لمشروع غير مرخص لا تعفيه من المسؤولية الجزائية أو المدنية في حال ثبت تقصيره".

وفقًا لدائرة الضمان الاجتماعي في دهوك، فقد تم في عام 2022 تخصيص راتب تقاعدي لعامِلين اثنين تجاوزت نسبة عجزهما عن 35%، أما في عام 2023، فقد خصص راتب تقاعدي لعامل واحد فقط بنسبة عجز تفوق 35%، وفي عام 2024، سُجّلت حالتان لمنح تعويض عن إصابة بنسبة عجز أقل من 35%، إضافة إلى حالة واحدة لإصدار راتب تقاعدي لعامل مصاب بنسبة عجز تفوق 35%.

تلك الأرقام الصغيرة تظهر ندرة حالات تلقي التعويضات من قبل العمال، وذلك لأن غالبيتهم العظمى غير مسجلين او يعملون في مشاريع غير مرخصة وبالتالي لايمكنهم الحصول على حقوق صحية او تقاعدية.

مصدر الصورة

أجراءات سلامة العمل

تظهر زيارات ميدانية قام بها معد التحقيق لمشاريع مختلفة ضمن حدود محافظة دهوك، أن الكثير منها غير ملتزمة باجراءات السلامة، والعمال بنحو عام يعملون بدون حماية جسدية كالخوذ والثياب والاحذية المناسبة أو النظارات الواقية.

غياب متطلبات السلامة، يثير السؤال بشأن الجهة المعنية بمراقبة الالتزام باجراءات السلامة وفيما لو كان القانون والتعليمات تفرضها على المشاريع والعمال؟.

يقول مسؤول شعبة الصحة والسلامة المهنية في دائرة العمل بدهوك، سردار عبد المجيد، ان على أصحاب المشاريع مراجعة الدائرة قبل بدء العمل، للاطلاع على شروط الصحة والسلامة المهنية المطلوبة وفقًا لنوع المشروع.

ويشير إلى التعليمات المتعلقة بالمادتين (108-152) للعدد (22) من قانون العمل رقم 71 لسنة 1987 تلزم صاحب العمل بإحاطة العمال كتابة بمخاطر المهنة ووسائل الوقاية، إضافة إلى تعليق تعليمات واضحة وبارزة في موقع العمل.

كما يؤكد أن تنفيذ احتياطات العمل المنصوص عليها في القانون مثل توفير الاسعافات الاولية واجهزة الاطفاء واختيار الملابس وبناء حواجز حماية العمال وغيرها، "تعد من الواجبات الأساسية لصاحب العمل"، لافتًا إلى أن لجان التفتيش تقوم بزيارات لمراقبة الالتزام بهذه الشروط "وتتحمل اللجنة مسؤولية انضباطية إذا أغفلت تقييم احتياطات العمل بجدية".

وذكر سردار أن عدم امتثال صاحب العمل بشروط السلامة قد يعرضه لعقوبات إدارية، منها:"إغلاق موقع العمل أو إيقاف بعض الآلات حتى إزالة المخالفة"، مع ضمان استمرار صرف أجور العمال خلال فترة التوقف.

أما في حال وقوع إصابة أو وفاة العامل، فيتم "إخطار الجهات المعنية عبر لجان المتابعة أو من خلال الشكاوى الواردة عبر الخط الساخن 5500 أو أي وسيلة أخرى". ويشير سردار إلى أن لجنة التحقيق تتولى دراسة الحادثة عبر الاستماع إلى أصحاب العمل والشهود والعمال أو ذويهم، لتحديد المسؤولية. فإذا ثبت أن صاحب العمل أهمل التزاماته بشأن السلامة، يُحال الملف إلى المحكمة، ويُعاقب بالحبس لمدة لا تقل عن شهر واحد ولا تزيد عن ستة أشهر، إضافة إلى غرامة تحددها المحكمة بالاستناد الى المادة (113) من قانون العمل رقم (71) لسنة 1987.

ويذكر سردار ان دائرته تتلقى شكاوى تتعلق بإصابات العمال، فضلاً عن قضايا تتعلق بالأجور أو الفصل من العمل أو حالات عدم منح العمال اجورهم. ويبين بأن حالات وفاة "تُسجل في قطاع الاستثمار"، ومع تأكيده لإهمال بعض أصحاب العمل اتخاذ إجراءات السلامة المهنية، فانه يرجع التقصير غالبا الى العمال أنفسهم "بسبب عدم التزامهم بشروط وإرشادات السلامة المطلوبة".

ويرى بأن ثمة تحديات تواجه عمل دائرته لضمان حقوق العمال، منها ضعف التنسيق بين الدوائر المعنية في محافظة دهوك، مثل المحافظة، البلدية، الصحة، السياحة، والبيئة. ويعتقد بان التنسيق بينها ضروري "لضمان حقوق العمال والحد من الحوادث قبل وقوعها".

كما يتحدث عن تحد آخر، يتمثل بتسوية القضايا بالطرق العشائرية، والتي يرى بانها مخالفة للقانون، ومن شأن ذلك عرقلة العمل في سبيل الحفاظ على حقوق العمال.

مصدر الصورة

تهرب أصحاب العمل من الضمان

بعد تخرجها من معهد السياحة في دهوك سنة 2013، عملت هلز كمال (اسم مستعار، 33سنة) لخمس سنوات بائعة في متجر مواد منزلية كبير بالمدينة مقابل راتب شهري قدره 500 ألف دينار عن ثماني ساعات عمل يومية، لكنها لم تكن تشعر بالرضا ليس بسبب تدني أجرها فقط بل لعدم تمتعها بأية حقوق قانونية، حسبما تقول.

وتوضح السبب:"صاحب المتجر لم يسجلني وبقية العاملين في الضمان الاجتماعي على الرغم من الزيارات المتكررة للجان التفتيش". تفكر قليلا قبل ان تضيف:"لقد كنا نعمل بدون أية حماية قانونية، وكان لدي فقط يومان كأجازة شهرية، واذا طلبت أكثر، كانوا يهددونني بخصمها من راتبي القليل أصلا".

ذات يوم أواخر 2018، سمعت فجأة صوت إرتطام قوي أفزعها، لتكتشف بعد لحظات أن مصعد المتجر هوى إلى الأرض وبداخله ثلاث من زملائها في العمل الذين نجوا بأعجوبة من موت محقق، لكنهم خرجوا مصابين بكسور عديدة نقلوا على أثرها الى المستشفى.

عاشت لحظتها صدمة لم تفارقها، بعد أن شاهدت زملاءها المصابين يتم اخراجهم من المصعد المنهار في حالة خطرة مع إداراكها بأنهم لن يحصلوا على أي عون، لأنهم غير مسجلين بنحو قانوني، لتقرر بعدها ترك عملها "فلا شيء يستحق الاستمرار".

عدم التسجيل في الضمان الاجتماعي، هي حالة سائدة في معظم مقار الأعمال المهنية ومتاجر البيع في محافظة دهوك، بحسب عاملين فيها، ذكروا انهم يدركون مساوئ كونهم غير محميين خاصة في حال تعرضهم لحوادث أو إقصائهم من أعمالهم دون دفع مستحقاتهم.

عاملون أبلغوا معد التحقيق، ان الكثير من ارباب العمل لايقدمون بيانات دقيقة عن اعداد العمال الذين يعملون في مشاريعهم، لكي لا يضطروا لدفع الاشتراكات ورسوم تسجيل أولئك العمال لدى الضمان الاجتماعي، أو لإخفاء العدد الحقيقي للعمال الأجانب والذي يجب ان لا يتجاوز 25% من إجمالي القوى العاملة.

وبموجب الأحكام الواردة في الفصل الخامس من قانون التقاعد والضمان الاجتماعي للعمال، يلتزم أرباب العمل بتسديد اشتراكات الضمان الشهرية بنسبة 17% تحتسب بنحو مستقل لكل عامل على أساس أجره الفعلي.

هذا ما يقوله نائب مدير دائرة الضمان الاجتماعي للعمال في دهوك، نيجيرفان صالح، مؤكدا أن ارباب العمل ملزمون بتقديم المعلومات المتعلقة بالعامل، قبل بدء عمله، بما في ذلك اسمه، طبيعة عمله، ونوع الأجر الذي يتقاضاه.

وفي حال عدم الالتزام بتسجيل العمال طوعا، تقوم لجان التفتيش بتولي تلك المهمة، وهي مؤلفة من ثلاثة أعضاء، بينهم رئيس اللجنة الذي يكون في العادة مفتشاً من الدائرة، وعضو آخر ممثلا عن نقابة العمل، والثالث ممثل عن غرفة التجارة.

ويشير إلى أن التسجيل في الضمان يقتصر على العمال الذين يعملون بانتظام لدى رب العمل، ولا يشمل الذين يعملون لحسابهم الخاص مثل سائقي سيارات الأجرة، ويستدرك:"في المشروع الجديد لقانون الضمان الذي يتم اعداده سيتم شمول هذه الفئة كذلك".

ويقر نيجيرفان، بتهرب بعض ارباب العمل عن دفع الاشتراكات، وعدم امتلاك دائرته سلطة فرض العقوبات على أرباب العمل المخالفين مباشرة: "لكنها تستطيع إحالة ملفاتهم إلى المحكمة لاتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم". أما في حال تأخرهم في دفع تلك الاشتراكات، تفرض عليهم غرامات تأخيرية بنسبة (2%) عن كل شهر تأخير.

ويلفت الى تعميم صدر في 2019 عن مجلس وزراء حكومة إقليم كردستان، شدد على عدم إتمام أي معاملة تخص صاحب العمل في أي قطاع، وخاصة الشركات، إلا بعد حصوله على براءة ذمة من دائرة الضمان الاجتماعي للعمال.

تحديات النقابات في متابعة قضايا العمال

هوكر رضوان ميرزا، رئيس نقابات العمال في كردستان - فرع زاخو، يؤكد أن غالبية العمال الذين تعرضوا لإصابات أو حالات وفاة في زاخو (مدينة تابعة لدهوك) هم من أعضاء النقابة. ويشير إلى أنه في عام 2023 تم تسجيل حالة وفاة واحدة وإصابة واحدة، بينما بلغ العدد في عام 2024 خمس حالات وفاة وإصابةعمل واحدة.

فيما يتعلق بتسجيل دعاوى لهذه الحوادث، يوضح رضوان أن أغلب القضايا تُحل عبر العلاقات الاجتماعية في ظل الطبيعة العشائرية التي تتميز بها المنطقة، وان النقابة تعرض على ذوي العمال المتوفين المساعدة القانونية لرفع دعاوى أمام المحاكم "إلا أن غالبية العائلات لا تتجاوب مع ذلك".

ويتفق رئيس اتحاد نقابات العمال-كردستان -فرع دهوك ولات أمين ئوزماني، على أن 99% من قضايا الإصابات والوفيات تُحل عبر التسويات الاجتماعية "وبموافقة العامل الذي غالباً ما يرفض تسجيل دعواه في المحكمة".

ويضيف ان هذه التسويات تشمل الحالات التي يكون فيها رب العمل هو المتسبب أو المقصر في الحادث، ويستدرك:" النقابة لا تشجع هذه الحلول لكنها مضطرة لذلك".

تجنب رفع الدعاوى في المحاكم

تظهر بيانات شعبة الإحصائيات في محكمة استئناف منطقة دهوك، ان جميع الدعاوى المسجلة لدى محكمة العمل في دهوك من عام 2020 حتى آخر شهرين من 2025 خلت من أي حالات إصابات أو وفيات، باستثناء دعوى واحدة فقط تم تسجيلها تتعلق بحالة وفاة، في حين تركزت معظم الدعاوى على الأجور واشتراكات العمل وغيرها من الاستحقاقات.

يعزو المحامي والخبير القضائي في دعاوى العمال، ومدرس قانون العمل في كلية القانون بجامعة نوروز، صادق عبد الرحمن، ذلك إلى عدة أسباب، منها "ضعف الوعي القانوني لدى العمال، وعدم قدرتهم المالية على تحمل رسوم الدعاوى، بالإضافة إلى التسويات التي تتم خارج نطاق المحاكم".

وبشأن التكييف القانوني، يشير الى ان المحاكم التحقيقية "تميل في بعض الأحيان إلى تصنيفها كجرائم قتل خطأ أو اعتبارها حوادث قضاء وقدر".

ويقول ان العامل الذي يتعرض لإصابة أو عجز، سواء كان جزئيا أو كليا أو أدت إصابته إلى الوفاة، يستحق راتبا تقاعديا أو مكافأة نقدية أو تعويضية، بالاضافة الى الحقوق والمستحقات المالية المتعلقة بالرعاية الصحية والعلاج، وفقًا لاحكام قانون التقاعد والضمان الاجتماعي للعمال في المواد (56-57-45).

كما يشمل القانون الإصابة بالأمراض المهنية، ويطرح مثالًا لدعوى تتعلق بإصابة عامل بالسرطان نتيجة تعرضه لانبعاثات نفطية، اذ قضت المحكمة بمنحه حقوقًا تقاعدية. ويشير إلى دعاوى أخرى تتعلق بحالات وفاة، ألزمت فيها المحكمة صاحب العمل بدفع اشتراكات الضمان عن فترة عمل العامل المتوفى.

وينبه الخبير القضائي صادق، إلى أن العامل اذا كان غير مضموناً وتعرض لإصابة أو حالة وفاة "لا يعني حرمانه من متابعة حقوقه أمام المحاكم، فإن أثبتت جهات التحقيق، سواء كانت تابعة لمراكز الشرطة أو اللجان التابعة للمؤسسات العمل والضمان تقصير صاحب العمل ومخالفته لشروط الصحة والسلامة المهنية، فسيعاقب جزائيا، ويحق للعامل أو ورثته في حالة الوفاة طلب التعويض أيضاً".

ويضيف:"ويحق لدائرة الضمان أيضًا رفع دعوى ضد صاحب العمل لتتولى تنفيذ التزاماتها تجاه العامل المصاب غير المضمون، وذلك بدفع التعويض استنادا إلى المادة (112) من قانون العمل."

لكن الجهات المعنية نادرا ما تحقق في حوادث إصابات ووفيات العمال، متذرعة بعدم تلقي الإخطارات. يوضح صادق أن المادة (62) من قانون العمل والضمان الاجتماعي تُلزم صاحب العمل بإبلاغ مركز الشرطة أو دائرة الضمان الاجتماعي عند وقوع إصابة عمل.

كما يشدد على ضرورة قيام لجان التفتيش في دائرة الضمان بالتحقيق في موقع الحادث لتحديد المسؤولية، مؤكداً أيضاً على تحرك نقابة العمال بإرسال كتاب رسمي إلى دائرة الضمان لتحريك الدعوى لصالح العامل.

وعلى الرغم من تلك الضمانات القانونية، الإ ان قانونيين يرون ضرورة تعديل القانون فيما يخص العمال غير المرتبطين بعلاقة دائمة مع صاحب العمل، منبهين الى ان عدم شمولهم بالحقوق يشكل فراغًا قانونيًا يستوجب المعالجة.

الموظف الحقوقي جوتيار مراد، ممثل الشعبة القانونية في دائرة الضمان الاجتماعي في دهوك، يؤكد إلتزام دائرته بالتدخل في الدعاوى المتعلقة بالعمال:"غالبا ما ننضم كشخص ثالث إلى جانب المدعي للدفاع عن حقوقه".

ويوضح انه في حال تعرض عمال لإصابات، تقوم لجان التفتيش في دائرة الضمان بالتحقيق في مكان الحادث، وجمع إفادات العامل وصاحب المشروع، وإذا كان العامل غير مشمول بالضمان الاجتماعي "يتم تحريك دعوى أمام محكمة العمل، أما إذا كان مسجلاً فتُستكمل الإجراءات للحصول على حقوقه ومستحقاته وفقًا للقانون".

وينتقد جوتيار محكمة العمل:"لا تقدم الدعم اللازم في القضايا المتعلقة بالعمال، فهناك مخالفات يرتكبها أصحاب العمل تستدعي من المحكمة التدخل والبت فيها". وعلى الرغم من أن محكمة العمل تختص بالنظر في القضايا الجزائية والمدنية معا، وفقا لجوتيار، إلا أنها "تقتصر على النظر في القضايا المدنية المتعلقة بالاشتراكات والغرامات دون الدعاوى الجزائية".

وبسبب ذلك تضطر دائرة الضمان إلى "رفع الدعاوى الجزائية عن طريق الادعاء العام، ما يستلزم سلسلة من الإجراءات تشمل كتابة مطالعة الى رئاسة الادعاء ومنها إلى مركز الشرطة ثم إلى محكمة الجنح"، وكل تلك الإجراءات "كان من الممكن ان تقوم محكمة العمل بها".

ويلفت كذلك إلى تأخر محكمة العمل في حسم الدعاوى:"هنالك دعاوى تأجلت لأكثر من عشر مرات دون مبرر مقنع. فضلا عن بطء إجراءات تسجيل الدعاوى". ويضرب مثالا:" لم يتم حتى الآن تحديد مواعيد أو تبليغات للدعاوى التي سجلت في اكتوبر 2024 علما بأن دعاوى العمل من الدعاوى المستعجلة".

إهمال الشركات يزيد من وفيات العمال

أحمد(27 سنة)عامل بناء من محافظة دهوك، كان منهمكاُ ذات صباح في أيلول/سبتمبر2024، بتكسير سقف خرساني في الطابق السابع عشر لبناية في أطراف المدينة، عندما انهار به السقف فجأة ويموت مدفونا تحت أطنان من الخرسان.

يقول شقيقه الأكبر الذي طلبالإشارة الى اسمه بحرفيه الاولين (م.ك) بان العائلة كانت تجهز أحمدا للزواج قبل أسابيع من الحادث:"ولم يكن أحد يتوقع أن تنقلب حياتنا رأساً على عقب".

أحمد، كان يعمل في شركة مقاولات متخصصة بالبناء مع اثنين من اشقائه وثلاث من أصدقائه، ويتقاضى 25 ألف دينار كأجر يومي، ولم يكن امام العائلة المنكوبة سوى اللجوء الى القضاء للمطالبة بحقوقه ولاسيما أنه لم يكن مسجلاً لدى الضمان الاجتماعي.

الخطوة الأولى وفقا للشقيق الأكبر تمثلت بإقامة دعوى أواخر 2024، وصدر قرار قضائي بشموله بالضمان، والحكم لم يكتسب الدرجة القطعية بعد، ويضيف:"بهذه الطريقة ستتمكن شركة المقاولات التي كان يعمل أحمد فيها من تسديد الاشتراكات الشهرية عنه لكي تستطيع زوجته الحصول على مستحقاته المتمثلة براتب شهري".

يفكر الشقيق الأكبر قبل أن يقول بحزن:"كان بالوسع تفادي هذه المأساة، لو كانت لأحمد وسيلة حماية ما، خوذة، أو حزام أو ربما حبال أو في الأقل حاجز امان" ثم يتساءل:"كيف لشركة مقاولات كبيرة أن تتجاهل توفير وسائل الأمان للعاملين لديها؟".


التحقيق أنجز بإشراف شبكة (نيريج) ضمن مشروع قريب بدعم من cif

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا