آخر الأخبار

الهجرة تستنزف الوجود المسيحي في العراق.. الأمن والإقتصاد والتمثيل الحكومي على رأس الأسباب

شارك الخبر

 بغداد اليوم- بغداد

لم يكن إيهاب (37 سنة) المسيحي النازح الى دهوك، في حاجة الى وقت طويل ليدرك طبيعة الحياة التي تنتظره، عندما عاد إلى بلدته "تللسقف" في سهل نينوى صيف 2017 بعد تحريرها من تنظيم داعش، إذ كان منزله الذي فرغ من بنائه قبل سنتين من نزوحه في 2014 قد تحول إلى ركام، وبلدته يحاصرها الدمار، بلا بنى تحتية وتفتقد لفرص العمل ولإدارة قادرة على استعادة الحياة فيها.

بينما كانت البلاد غارقة في الصراعات السياسية والمشاكل الأمنية ويضربها الفساد وسوء الادارة، لم يجد ايهاب أمامه سوى المغادرة مع زوجته وطفليهما إلى لبنان ومحاولة التقديم للحصول على لجوء إنساني في استراليا عبر الأمم المتحدة. 

يقول الشاب الذي كان يمارس أعمالا حرة قبل هجرته:"بعد سيطرة داعش على تللسقف في صيف 2014، اضطررنا للنزوح إلى محافظة دهوك في إقليم كردستان، وأنتظرنا بشوق كبير ثلاث سنوات لنستعيد بلدتنا ونعود إلى منزلنا لكن الأوضاع كانت صادمة....".

يفكر لبرهة قبل أن يواصل:"كانت معارك التحرير قد دمرت منزلنا، وقبلها حين نزحنا كان مقاتلو التنظيم سرقوا كل ما نملك، لهذا قررنا الهجرة إلى بلد آخر وبدء حياة جديدة، فلم نعد نمتلك شيئاً في العراق".

لم يكن طريق هجرة إيهاب وعائلته، مفروش بالورود، معاناة الانتظار في ظروف معيشية صعبة ووسط قلة فرص العمل امتدت لثلاث سنوات "لم نشهد فيها سوى القلق من النتيجة، والخوف من العودة بلا شيء، والبكاء والألم بسبب مشاكل الغربة وما حل بالعائلة".

يقول ذلك بكلمات متقطعة وشفاه مرتجفة، ثم يستعيد رباطة جأشه ويتابع:"حصلنا في العام 2020 على اللجوء. كان ذلك أفضل ما تحقق لنا، وسافرنا إلى أستراليا لبدء حياة جديدة.. حياة كريمة وتضمن لأطفالنا مستقبلاً أفضل".

إيهاب، واحد من بين عشرات آلاف المسيحيين، الذين أضطروا إلى ترك مناطقهم بمحافظة نينوى وخاصة بلدات سهل نينوى ذات الغالبية المسيحية في حزيران/يونيو 2014 بعد سيطرة تنظيم داعش عليها، ونزحوا إلى محافظات اقليم كردستان، أو هاجروا إلى خارج البلاد اذا وجدوا الى ذلك سبيلا.

التنظيم الذي سيطر خلال أيام على غالبية مناطق سهل نينوى شمال شرقي الموصل، كان قد فرض ثلاثة خيارات على المسيحيين، إما الدخول في الإسلام أو دفع الجزية أو الرحيل وترك كل ما يمتلكونه، فاختار الأغلبية الساحقة الخيار الأخير. 

وإزاء الهجرة المتواصلة، بدأت المخاوف تتعاظم من أن ينتهي الوجود المسيحي في العراق، ومعها بدأت الكنائس المحلية والمنظمات الإنسانية تحاول إقناع المتبقين بعدم الهجرة وتشجيعهم بشتى الطرق للبقاء بما فيه إعادة بناء مجتمعاتهم، وهذا ما سيتقصى عنه هذا التحقيق. 

 

الهجرة مجدداً

تقدر مصادر غير رسمية، أعداد المسيحيين في العراق قبل انهيار النظام العراقي السابق في نيسان/أبريل 2003 بنحو مليون ونصف المليون مسيحي، يؤكد ذلك لويس مرقوس أيوب، العضو المؤسس لتحالف الاقليات العراقية، ويقول بأن أعدادهم تقلصت لتبلغ نحو 400 ألف شخص فقط.

وقد تواجد المسيحيون بنسبة أكبر في محافظة نينوى، ببلداتهم التأريخية في سهل نينوى مثل بغديدا (قرقوش) مركز قضاء الحمدانية، وقضاء تلكيف وناحيتي برطلة وألقوش، وأيضاً في مدينة الموصل مركز المحافظة.  

لكن أعدادهم كانت في تناقص مستمر وتدريجي بسبب هجمات التنظيمات الارهابية وأبرزها تنظيم القاعدة، سواء في بغداد او سهل نينوى او الموصل حيث كان يعيش 20 ألف مسيحي، بينما كانت تعيش نحو 30 ألف عائلة في بلدات سهل نينوى.

وحتى قبل سيطرة داعش على نينوى في حزيران/يونيو 2014 كانت هجرة المسيحيين مستمرة وبمعدلات كبيرة هربا من التمييز المجتمعي ومن الهجمات الارهابية على أساس ديني، وبحسب تقديرات لباحثين مسيحيين، كانت هنالك فقط 1000 عائلة مسيحية في الموصل، و15 ألف عائلة في عموم سهل نينوى، قبيل غزو التنظيم، لتنزح هي الأخرى صوب اقليم كردستان خلال اسابيع قليلة فقط حتى أصبحت نينوى خالية من المسيحيين.

الخور اسقف يوسف شمعون، يذكر بأن عدد المسيحيين قبل سيطرة التنظيمات الارهابية على مناطق في العراق كان يشكل 5% من نسبة سكان البلاد، لكنه أصبح اليوم فقط 1% وأنهم بحاجة للوحدة والتماسك للبقاء، حسب رأيه.

معدة التحقيق نظمت استبياناً شارك فيه 128 مسيحياً من مناطق سهل نينوى عبر الأنترنيت فضلاً عن نسخ ورقية وزعتها في الكنائس والمجتمعات المحلية على مدار ستة أسابيع، لفهم الدوافع الرئيسية وراء هجرة المسيحيين على الرغم من عودة الاستقرار الأمني وبدء تنفيذ خطط اعادة الاعمار في مناطقهم.

تضمن الأستبيان عشرة أسئلة، تغطي جوانب مختلفة عن أسباب الهجرة  والتحديات التي تواجه المهاجرين، وشملت الأسئلة الأمن، الفرص الاقتصادية، التعليم، الخدمات الاجتماعية. 

 

هل يرغب المسيحيون بالهجرة حقا؟

بدأ الأستبيان بسؤال يتعلق برغبة المسيحي في الهجرة إلى خارج البلاد، وكانت النسبة بين الراغب بالهجرة وغير الراغب والممتنع عن الاجابة، كبيرة لصالح الراغبين بالهجرة وفق ما يظهره المخطط التالي:

 

أبدى 62 شخصاً (تعادل نسبتهم 48%) من المشاركين في الاستبيان، عن رغبتهم الفعلية في الهجرة إلى خارج العراق، وهي نسبة كبيرة في ظل عدم وجود ظروف استثنائية حاليا تدفع باتجاه الرغبة في الهجرة كرد فعل.

وتؤكد رغبة نحو نصف المجتمع المسيحي بالهجرة، المخاوف بشأن وجود تهديد جدي مستقبلي على الوجود المسيحي في البلاد. 

ولتوضيح أكثر لموقف المشاركين في الاستبيان من الهجرة، ومتى قرروا ذلك؟ وهو محور السؤال الثاني في الإستبيان:

 

يتضح أن 32% ممن شاركوا في الاستبيان فكروا بالهجرة منذ سنة 2014، و20% فكروا في ذلك خلال السنوات التالية وصولا إلى العام الحالي 2024.

 

وتتعدد الأسباب والدوافع وراء الهجرة، بعضها استجد عقب تحرير سهل نينوى من داعش في 2016، كميل الكفة لأقليات أخرى على حساب المسيحيين، مثل الشبك، أو قلة فرص العمل حيث للجانب الاقتصادي أثر كبير على القرار، أو عدم الشعور بالأمان ولاسيما بعد حريق نشب في قاعة للمناسبات ببلدة قره قوش في 26أيلول/سبتمبر 2023 وراح ضحيته العشرات من المسيحيين، مع أن الجهات الأمنية أكدت بأنه نجم عن حادث ولم يكن نتيجة عمل إرهابي. 

ندى (34 سنة) كانت معلمة في مدرسة ابتدائية بقره قوش، واحدة ممن دفعت ثمناً غالياً لوجودها بتلك القاعة ذلك اليوم، إذ كانت المناسبة حفل زفاف لقريبة لها، وكانت برفقة زوجها وأطفالهما الثلاث عندما حدث كل شيء بسرعة كبيرة، وحاصرتهم النيران من كل مكان.

تقول بحرقة وهي تستعيد مشاهد ذلك اليوم:"حصل كل شيء بسرعة، كأنه مر أسرع من الضوء والصوت.. النيران انتشرت وبدأت تحرق أجسانا والصرخات تتعالى".

تتجمع الدموع في عينيها وهي تواصل:"خسرت طفلتي نغم، كانت جميلة ورائعة بعمر ثمان سنوات". وتابعت بصوت مرتجف وكلمات متقطعة، معاتبة نفسها: "لا أعرف لم نجوت أنا، فقد أصبت بحروق فقط".

تلك المآساة تركت ندوباً عميقة في نفس ندى، وقررت السفر مع زوجها وطفليهما إلى الأردن وتقديم طلب لجوء إنساني إلى الأمم المتحدة هناك، بهدف الذهاب إلى أستراليا حيث تعيش شقيقة لها منذ أربع سنوات في مدينة ملبورن.

تقول ندى:"أقدمنا على هذه الخطوة، لأننا فقدنا الأمل بتحسن الأوضاع هنا، ومع الأحداث الأمنية الصعبة والفوضى والفساد الذي يسود مدينتي والعراق بصورة عامة.. نجونا من كلّ الأحداث التي مرّت علينا، منها فاجعة الحافلات التي قتل فيها طلبة مسيحيون في 2010 وهجوم داعش على مدينتنا، وقضينا ثلاثة أعوام في أربيل، وعدنا وبدأنا حياتنا من الصفر وحاولنا الاستقرار حتى خسارة طفلتنا في تلك القاعة التي لغاية الآن لا نعرف شيئا عن التحقيق الذي أجرته الجهات الأمنية لمعرفة حقيقة ماحدث".

وتضيف معلقة على انتظارها الذي قد يدوم لسنوات قبل ان تنجح في الهجرة:"الحياة في الأردن صعبة جداً، هنالك بعض المساعدات التي تقدمها الكنائس، هي لا تكفي فالحياة مكلفة جداَ هنا، لكننا سنتحمل وننتظر، ليس أمامنا سبيل آخر". 

 

                                                    أسباب هجرة المسيحيين

 

تتعدد الأسباب الكامنة وراء هجرة المسيحيين، ورغبة الكثير من الباقين منهم في الهجرة، وهذا ما تقصاه الإستبيان عبر سؤالين: ما الذي يجعلك تفكر في الهجرة؟ وما الذي سيجعلك تعدل عن قرارك؟ 

الأوضاع السياسية تقف في مقدمة الأساب وراء هجرة المسيحيين من العراق، إذ يربط الكثيرون منهم بقاءه في البلاد بتحسنها كحل وحيد للعدول عن الهجرة. ولكن لماذا تشكل الاوضاع السياسية هذه الاهمية بالنسبة للمسيحيين؟

العديد ممن تواصلت معهم معدة التحقيق، اجمعوا في إجاباتهم، بما يفيد أن الأوضاع السياسية تشكل منظومة يرتبط بها الإستقرار الاداري والتطور الخدمي والأمني والاقتصادي،  وتحسنها يعني ضمان كل ذلك.  

يقول "ا. ج" (29 سنة) من قره قوش، بأنه يسمع بمصطلح الأوضاع السياسية منذ أن كان طفلاً والى الوقت الحالي، لذا فهو يعتقد بأن كل شيء في العراق مرتبط ارتباطا وثيقا بهذا الجانب ومتى تحسن واستقر تحسنت أوضاع العراقيين عامة. 

يعلق النائب السابق في البرلمان العراقي جوزيف صليوا، على الاوضاع السياسية للمسيحيين بوجه الخصوص، قائلا: "لا وجود لتمثيل مسيحي كلداني - سرياني - آشوري في العراق وفي الإقليم، على الرغم من وجود كوتا (حصة) لهم، لكنها لا تمثل المسيحيين بشكل حقيقي، وإنما تمثل أحزاب السلطة في الحكومتين في بغداد وكردستان العراق على حد سواء".

ويضيف:"هم يجلبون شخصيات هي عبارة عن دمى، أسماؤهم مسيحية، وديانتهم مسيحية، ولكن أجنداتهم تتبع أجندات تلك الأحزاب السلطوية" على حد تعبيره.

ويتابع:"الغريب أن رموز السلطات اليوم كانوا يعانون من معادلة التمثيل الشكلي حين كانوا في المعارضة قبل 2003، لكنهم اليوم يعاملون المسيحيين بالطريقة نفسها، بجلب أشخاص ليجعلوا منهم أدوات يضربون كينونة الوجود الكلدو آشوري - السرياني المسيحي، ويكونون اليد الضاربة بيد أصحاب السلطتين في بغداد والإقليم، وبأسم مقاعد الكوتا المسيحية".

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
شارك الخبر

إقرأ أيضا