لم تكن هديل محمد مؤيّد، خريجة كلية الطب بجامعة الخرطوم، تتوقع أن تنقلب حياتها رأسا على عقب بهذه السرعة.
فبعد أن وضعت خططها المهنية بهدوء عقب التخرج، اندلعت الحرب في السودان لتبدّد أحلامها، وتحوّل تدريبها في قسم الأطفال إلى تجربة مأساوية مليئة بالأشلاء والدماء التي تراها للمرة الأولى.
ومنذ ذلك اليوم، بدأت رحلة نزوح طويلة بين الولايات مع أسرتها، ظنّت خلالها أن مستقبلها المهني قد انتهى، قبل أن تحمل لها الأقدار لاحقًا فرصة جديدة بسبب تفوقها الدراسي، لتجد نفسها في مكان وزمان مختلفين تماما.
ولدت هديل في الخرطوم، وحلمت منذ طفولتها بأن تصبح طبيبة، وهو ما تحقق بتخرجها عام 2021. إلا أن اضطراب الأوضاع السياسية أرجأ تدريبها العملي حتى عام 2023، حين تم توزيعها على مستشفى الشرطة، القريب من القيادة العامة للقوات المسلحة.
تقول للجزيرة نت: "في صباح 15 أبريل/نيسان 2023، "كنت في نوبة عملي بقسم الأطفال حين دوّى أول صوت للرصاص. خلال دقائق تحولت المستشفى إلى ساحة حرب. القنابل تتساقط، والأطفال يبكون، والأمهات يصرخن. لكننا لم نغادر أماكننا، وواصلنا رعاية المرضى رغم الاشتباكات العنيفة".
تضيف هديل: "كان ذلك في نهار رمضان. كنا نصوم وسط الجوع والخوف والدوي المتواصل. المصابون يتوافدون بالعشرات، والرصاص قريب من النوافذ، كنا نعمل ونرى الموت من حولنا".
على مدى يومين متواصلين بقيت هديل داخل المستشفى الذي تصفه بأنه "تحوّل إلى بيت أشباح"، بعد أن غادره أغلب العاملين. تقول للجزيرة نت "لم نكن نملك ما يكفي لتغطية الجثث. كان كل شيء خارج السيطرة، حتى أعلنوا الإخلاء. خرجت مع مجموعة من زملائي، وفي الطريق اعترضتنا عصابة مسلّحة بشارع النيل. صوبوا أسلحتهم نحونا وطلبوا هوياتنا، لكننا نجونا بأعجوبة".
بعدها بدأت رحلة نزوح قاسية داخل السودان، منفصلة عن عائلتها، مختبئة عن الأعين خوفًا من اختطاف الأطباء الذين كانت بعض الجماعات تجبرهم على علاج الجرحى.
لم تتوقع هديل أن يستمر غيابها عن عائلتها شهرا كاملا قبل أن تتمكن من العودة إليهم، لتجد الأوضاع أكثر قسوة مما تركتها.
تقول للجزيرة نت: "عندما عدت إلى منزلنا، لم تكن هناك كهرباء ولا مياه سوى من بئر قريبة، وأصوات القنابل والرصاص لم تتوقف لحظة. حاولنا التأقلم، لكن الوضع ازداد سوءًا يومًا بعد يوم".
ورغم الخطر، واصلت هديل العمل بعيادة محلية في حيّها لعلاج الجرحى، إلى أن دخلت قوات من الدعم السريع المدينة، فأُجبرت وأسرتها على اتخاذ القرار الأصعب – مغادرة المنزل بكل ما فيه دون أن يعرفوا وجهتهم التالية.
تقول هديل، وهي تستعيد المشهد، "خرجنا من بيتنا مكرهين، نحمل ما استطعنا حمله، وقلوبنا مليئة بالخوف والإيمان، ركبت عربة بضائع مع عائلتي، بين أيدينا أمل صغير، لكن في داخلنا خوف كبير".
خلال الأشهر التالية، تنقّلت الأسرة بين 8 ولايات سودانية في رحلة نزوح شاقة، حاولت هديل خلالها استكمال فترة تدريبها الطبي رغم الظروف الاقتصادية الصعبة ونقص الإمدادات الطبية.
ومع تدهور الأوضاع الأمنية، كان القرار الأخير بالرحيل إلى القاهرة بعد عام ونصف العام من التنقّل المستمر، لتبدأ هناك فصلا جديدًا من حياتها بعيدا عن الوطن، لكن أقرب من أي وقت مضى إلى تحقيق حلمها الإنساني في الطب.
كانت هديل مؤيّد، الابنة الكبرى في أسرتها، تحلم بمستقبل مهني واضح المعالم: إنهاء فترة الامتياز، ثم التخصص والعمل في الخارج.
تقول: "كنت أريد أن أرفع رأس عائلتي وأساعدهم، لكن الحرب بدّدت كل شيء. توقفت تدريباتي، وتعرّض المستشفى الذي كنت أعمل به للتدمير، ولم أستطع حتى الحصول على شهادتي".
وتتابع هديل أن أكثر لحظات حياتها قسوة جاءت عندما أُلغيت مشاركتها في برنامج تدريبي كانت قد قُبلت فيه بعد جهد طويل، بسبب الأوضاع الأمنية.
وتصف تلك المرحلة بقولها: "كانت مرحلة مظلمة مليئة بالبكاء والكوابيس. تم تشخيصي بالاكتئاب، لكنني قررت ألا أستسلم، وبدأت رحلة علاج حتى استعادت نفسي توازنها شيئا فشيئا".
في خضم تلك العتمة، جاءت المفاجأة من حيث لم تتوقع. تقول: "سخّر الله لي صديقة لم تتركني، حدثتني عن منحة في جامعة أكسفورد. ضحكت في البداية، كيف لي أن أدرس في أكسفورد وأنا بالكاد أتعافى من الاكتئاب؟ لكنها شجعتني وقدّمت بالفعل، وأنا مؤمنة أن الله لن يضيع جهدي".
وبعد أسابيع، وصلها البريد المنتظر: قبول رسمي في منحة ماجستير الصحة العالمية بجامعة أكسفورد، مع تغطية كاملة للمصاريف.
تتذكر هديل تلك اللحظة قائلة: "بكيت كثيرا، ليس فقط فرحا، بل شكرا لله. تذكرت كل ما مررت به، وكيف تحوّلت المعاناة إلى نعمة. لا تزال أسرتي في مصر، وأنا اليوم في أكسفورد أتابع دراستي، وما زلت أتعلم من هذه الرحلة معنى الصبر والإيمان".
ولأنها أرادت ردّ الجميل، أسست هديل مجموعة عبر الإنترنت تجمع الفتيات السودانيات لتبادل الفرص التعليمية ونشر الإيجابية.
وتقول في ختام حديثها: "رسالتي لكل من يعيش الظروف الصعبة: لا تستسلموا. بعد العسر يأتي اليسر، والإيمان هو السلاح الحقيقي في وجه كل ما ينهككم".
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة