في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
"الحرب ستستمر ثلاثة أشهر إذا سارت الأمور على ما يرام، وربما 8 أشهر إذا لم تسر الأمور على ما يرام"، هذا ما ظنه رئيس سلاح المشاة في الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى الجنرال أرشيبالد موراي في تقديره لأمد الحرب في بدايتها، لكنها دامت حينها 4 سنوات.
فالحروب في حقيقتها تنطوي على درجة عالية من "اللا يقين"، وهو ما لم يدركه الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يميل إلى تحقيق إنجازات سريعة في عالم السياسة والعلاقات الدولية، كما لو كان في عالم الاقتصاد.
فمنذ بدء حملته الانتخابية في طريقه إلى البيت الأبيض للمرة الثانية، لوّح بنيته إنهاء الحروب حول العالم بما يشمل الحرب الروسية الأوكرانية ، التي بالغ في كونه قادراً على إنهائها "خلال 24 ساعة" من وصوله إلى الرئاسة، وهو ما فشل به حتى بعد حوالي 10 أشهر من فوزه بالانتخابات.
هذه المغالطة هي نفسها التي تقوم عليها نظرية "سُلَّم التصعيد" بقولها: "لا يمكن لأحد السقوط إلى أعلى"، مفترضة أن أطراف النزاع يصعدون درجات محددة ومتكافئة في مسار التصعيد وفق سياسة "خطوة مقابل خطوة"، دون أن يتجاوز المتحاربون عتبة التصعيد نحو صراع شامل ومفتوح.
وفي الحرب الروسية الأوكرانية، تحاول الولايات المتحدة ضبط الصراع بحدود العتبة التي لا تنزلق منها إلى مواجهة مباشرة مع روسيا، لكنها قد تجازف بردٍّ روسي غير محسوب فيما لو زودت أوكرانيا بصواريخ " توماهوك ".
في المقابل، لا تبدي موسكو استعداداً للتنازل عن مطالبها بضم الأراضي الأوكرانية التي احتلتها، وتحاول الرد على التهديدات الأميركية بإجراءات تصعيدية مماثلة، في سباق يسعى كلا طرفيه إلى عدم تجاوز الآخر.
أظهرت الإدارة الأميركية تبايناً في تعاطيها مع روسيا والحرب في أوكرانيا. فبعد الدفء الذي اتسمت به العلاقات مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، ومعارضة قرار أوروبي في الأمم المتحدة بإدانة الحرب على أوكرانيا، يبدو أن تصلّب الرئيس فلاديمير بوتين تجاه إنهاء القتال قد أصاب ترامب بالإحباط.
لذا، تحولت تصريحات ترامب من التودد لموسكو إلى التلويح بعقوبات إضافية عليها، وفرض رسوم جمركية على شركائها التجاريين؛ الصين والهند، وصولاً إلى التهديد بتسليم صواريخ "توماهوك" إلى كييف.
تندرج صواريخ توماهوك ضمن فئة صواريخ كروز بعيدة المدى دون سرعة الصوت، وتطلق عادة من البحر لمهاجمة الأهداف في عمق أراضي الخصم، حيث تعمل بمحركات نفاثة ومصممة للطيران على علو منخفض، يبلغ مدى النسخ الحديثة منها حوالي 1600 كلم بكلفة قد تصل إلى 2.5 مليون دولار للصاروخ.
وبمدى كهذا، فإن حصول أوكرانيا على هذه الصواريخ سيضع العاصمة الروسية موسكو -التي لا تبعد عن كييف سوى 800 كلم تقريبا- تحت مرمى نيرانها، فضلاً عن المراكز اللوجستية والمطارات ومراكز القيادة التي لا يمكن لكييف استهدافها حالياً بذخائر مدمرة ودقيقة كهذه.
لكن الأمر لا يتوقف فقط على المدى، فما يميز هذه العائلة من الصواريخ هو تكامل عدة عناصر إلى جانب المدى التشغيلي الكبير، مثل القدرة على الطيران على ارتفاعات منخفضة للتخفي من الرادارات، وأنظمة توجيه متعددة الطبقات، ما يجعلها أداة مفضّلة لدى المخططين العسكريين لضرب أهداف حساسة مع تقليل المخاطر على منصات الإطلاق.
أما الميزة التكتيكية الأبرز فهي قابلية التوجيه والتحديث أثناء الطيران، حيث يمكن إعادة توجيه الصاروخ أو وضعه في طور الانتظار حتى تتوافر معلومات استهداف أدق، وحتى إلغاء الهجوم إذا تغيرت المعطيات الميدانية.
هذه المرونة تمنح القادة القدرة على تعديل الخطط في الزمن الحقيقي، وتقليل الفرص لوقوع أضرار جانبية غير مرغوبة أو ضرب أهداف خاطئة.
ولكن لا يمكن فصل فعالية توماهوك عن البنية الاستخبارية واللوجستية التي تدعمها، فعندما تتكامل الصواريخ مع أنظمة الاستطلاع والمراقبة والاتصالات والقيادة والسيطرة، فإن التخطيط لمسارات آمنة وتحديث الأهداف يصبح ممكنا، ما يرفع من احتمالات نجاح المهمة ويحدّ من المخاطر التشغيلية.
بعبارة أخرى، لغة الأرقام والقدرات التقنية وحدها لا ترجح ميزان التفوق العسكري، بل الفاعلية العسكرية التي تستطيع كييف اكتسابها إن حصلت على الصواريخ، فضلاً عن توظيفها بالطريقة الصحيحة في إدارة الصراع.
الفاعلية هنا تعني مدى القدرة على ترجمة الموارد إلى قوة فعلية في ساحة الحرب، ولذا فإن ثمة فرقا بين الإمكانات المحتملة التي يوفرها السلاح، وبين ما تستطيع الدولة فعلياً القيام به في ميدان المعركة. وضمن هذا الإطار، تبرز أهمية تكامل مستويات النشاط العسكري لتحقيق منجزات واقعية من جهة، مع الحد من تأثير إجراءات الخصم المضادة، من جهة أخرى، وتوظيف كل ذلك على مسرح الحرب الدبلوماسية دولياً.
من الناحية التشغيلية، عادة ما تُطلق صواريخ توماهوك من السفن والغواصات، وهذه لا تمتلكها أوكرانيا. ورغم أن النسخ الجديدة منها يمكن إطلاقها من البر باستخدام منصات الإطلاق "تايفون"، فإن هذه المنصات قليلة لدى الجيش الأميركي وتبلغ قيمة الواحدة منها 6.2 ملايين دولار.
كما لا يمكن الجزم بعدد الصواريخ التي تستطيع الولايات المتحدة التخلي عنها، فرغم الحماس الذي أبداه الرئيس الأميركي في البداية حين هدد بإرسال "بضعة آلاف" منها إلى أوكرانيا، فإن التقارير تتحدث عن عدم إمكانية إرسال أكثر من 50 صاروخا، ما يعكس مجدداً التباين بين الواقع وتهديدات ترامب الدعائية.
لذا، فإن الثغرة الأبرز في فاعلية صواريخ توماهوك بالنسبة لأوكرانيا تكمن في العدد المحدود الذي قد تحصل عليه، بينما تحتاج إلى وابل من الصواريخ لإحداث التأثير المطلوب لدفع روسيا نحو تعديل سلوكها والجنوح نحو إيقاف الحرب، بينما لا يوحي السلوك الروسي بذلك.
في منطق التصعيد، يصنف هذا التهديد كرسالة إستراتيجية موجهة إلى بوتين لدفعه باتجاه تعديل موقفه المتصلب، لكنها قد تستدعي رداً روسياً يفوق توقعات وربما حسابات إدارة ترامب. فقد صرح بوتين أن حصول كييف على صواريخ توماهوك سيمثل "مرحلة جديدة نوعياً من التصعيد"، وهو ما حذر منه وزير خارجيته سيرغي لافروف أيضاً.
وتعززت هذه التحذيرات بموجات القصف الروسي المتصاعد على أوكرانيا، وما شهدته أجواء دول الاتحاد الأوروبي على مدى الأسابيع الماضية من تحليق للطائرات المسيرة اتهمت دولُ الاتحاد موسكو بالمسؤولية عنها.
حين توظف خطوة تصعيدية في إطار الضغط على الخصم فإنها تهدف إلى كبح جماحه والبحث عن ثغرة تؤدي إلى خفض التصعيد، لكنها كذلك قد تستفزه وتدفعه لاتخاذ رد تصعيدي مماثل أو أشد، ربما للحفاظ على ميزان الردع.، وهنا تكمن خطورة فقدان السيطرة على مجريات الأحداث، وهذا ما يعيه أطراف الصراع، وإن كان زخم الحروب بطبيعته يدفع نحو اللاوعي.
ليس لدى روسيا الآن سوى خيارات تصعيدية محدودة، فالتهديد باستخدام الترسانة النووية -والذي نجح في السابق- لم يعد فعالاً، حيث أفقده التكرار تأثيره. كما يواصل الجيش الروسي قصف المدن والبنى التحتية الأوكرانية بموجات كبيرة من الصواريخ والمسيرات، فضلاً عن الهجمات البرية المستمرة.
لكنّ التلويح بتوسيع رقعة الصراع ليشمل أهدافاً في أوروبا قد يكون الخيار الروسي الأمثل الآن، وإن اقتصر الأمر على التهديد والتهويل فحسب، مع ما يشتمل عليه الأمر من مخاطر ردود أوروبية غير محسوبة.
وفي هذا السياق، يوظف الكرملين اختبارات الصواريخ الإستراتيجية لتعزيز تهديداته الدعائية وتحسين موقفه التفاوضي.
لهذا، أدار بوتين في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2025 مناورة للقوات النووية الإستراتيجية شملت القوات البرية والبحرية والجوية، وأطلقت القوات الروسية صاروخاً باليستياً عابراً للقارات من طراز "يارس" من قاعدة بليسيتسك الفضائية، وآخر من طراز "سينيفا" من غواصة بريانسك العاملة بالطاقة النووية، وصواريخ كروز من قاذفات القنابل الإستراتيجية "تي يو-95 إم إس".
ووظف سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، هذه المناورات على أنها "تدابير عسكرية" تأتي رداً على "السياسات العدوانية" لحلف شمال الأطلسي ( الناتو ).
لكن مراجعة أنشطة عسكرية روسية مماثلة تشير إلى كون هذه التدريبات إجراءات سنوية وروتينية، حيث أجرت موسكو تدريبات مماثلة على مدى السنوات الثلاث الماضية في أكتوبر أيضاً، لتصبح الخيارات المضبوطة لديها أقل تأثيراً، وتوجّه الأنظار نحو الخيارات الفعلية الأخرى.
بعد أسابيع من التهديد، وقبيل ساعات من لقائه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 2025، أعلن ترامب عقب مكالمة هاتفية مع بوتين عن خطط لعقد قمة جديدة بينهما في العاصمة المجرية بودابست.
وعقب اجتماعه بزيلينسكي، أصر الرئيس الأميركي على أن نظيره الروسي يرغب في إنهاء الحرب، في تحول ملفت من اللهجة التصعيدية إلى التصالحية.
لكن ترامب ألغى الاجتماع لاحقاً لكونه لا يريد عقد "اجتماع ضائع" -على حد وصفه- بعد رفض روسيا تقديم تنازلات. وزعم مسؤولون في البيت الأبيض أنه لا توجد خطط للقاء ترامب وبوتين "في المستقبل القريب"، كل ذلك عقب مكالمة بين وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو ونظيره الروسي سيرغي لافروف يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول، التي تمسك فيها لافروف بطلب تنازل أوكرانيا عن مقاطعتي دونيتسك ولوهانسك.
أعقب ذلك إعلان وزارة الخزانة الأميركية في 22 أكتوبر/تشرين الأول فرض مكتب مراقبة الأصول الأجنبية عقوباتٍ إضافية على روسيا، كما رفعت إدارة ترامب القيود المفروضة على استخدام أوكرانيا لصواريخ "ستورم شادو" لضرب الأراضي الروسية. وتزامن ذلك مع استهداف مصنع للكيماويات في مدينة بريانسك أوبلاست ينتج البارود والمتفجرات ومكونات وقود الصواريخ.
هذه القرارات تشير إلى طبيعة التصعيد الأميركي والسقف الذي تلتزم به، وذلك من خلال المواءمة بين الأدوات الاقتصادية والإجراءات العسكرية التي تعزز القدرات الأوكرانية على الضغط في ساحة المعركة، أملاً في دفع بوتين إلى التنازل.
تنسجم خطوات الإدارة الأميركية مع سعيها لإنهاء الحرب في أوكرانيا عقب اتفاق غزة الأخير، وذلك عبر الضغط على موسكو دون مجاوزة عتبة التصعيد نحو مواجهة مباشرة مع روسيا، ما يلقي بظلال من الشك حول جدية تهديدات ترامب بمساعدة كييف، ويزداد التشكيك مع مزاحمة الملف الأوكراني لأولويات البيت الأبيض في منطقة المحيط الهادئ في مواجهة الصين.
من الواضح أن الولايات المتحدة لا تريد الذهاب إلى مواجهة شاملة مع روسيا، فالأولوية بالنسبة لها هي التطلع إلى المد الصيني، ولذلك تحافظ على ضبط الصراع الروسي الأوكراني سعياً لإيجاد حلول تعزز صورة "صانع السلام" ترامب، رغم عدم فوزه بجائزة نوبل للسلام هذا العام.
في المقابل، بذلت روسيا الكثير من مقدراتها البشرية والمادية في أوكرانيا، لا لتعود إلى نقطة الصفر في مواجهة حلف الناتو، بل لتحافظ على مكتسبات حققتها ببالغ الصعوبة في حرب ظنتها خاطفة وسهلة المنال.
لذلك فإن المساحة العملية تبدو ضيقة الآن، ما يدفع إدارة ترامب إلى خفض مستوى القتال، لا إلى حل الصراع بالكلية وتعزيز مستوى الردع في أوكرانيا على المدى الطويل، وهي مع ذلك تتمسك بعد إضفاء شرعية قانونية على الاحتلال الروسي للأراضي الروسية، خاصة مقاطعتي دونيتسك ولوهانسك. وهذه صيغة أقرب إلى الهدنة منها إلى السلام، فهي توقف القتال ولكنها تترك النزاعات الأساسية دون حل.
اللافت أن واشنطن تبتعد بذلك عن التزاماتها تجاه أوروبا وحلف الناتو، في اعتماد أكبر لشعار "أميركا أولاً" حيث تكرس علاقات الولايات المتحدة مع الحلفاء على أساس "المصالح الأميركية"، لا على أساس الالتزامات المشتركة والضمانات، ما قد يثير انقسامات فعلية في بنية الناتو، ويحقق الآمال الروسية في هذا المجال.
تعكس التوجسات الأوروبية تغيّر طبيعة العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا، وتحوّل عواصم القارة العجوز إلى منافسين سياسيين للبيت الأبيض وفق تباين المصالح والأولويات والتعامل مع التحديات، سواء في قطاعي الدفاع والاقتصاد أو العلاقات مع روسيا أو سياسات الشرق الأوسط.
إن سياسة "أميركا أولا" ستعزز توجها أوروبيا أكثر استقلالية يحدّ من نفوذ واشنطن في المنطقة، ولعل أهم تجليات هذا التباين ستكون في بروز أوروبا كقطب واحد مستقل أكثر جرأة على الساحة الدولية، يتخذ مواقف مستقلة تجاه الصين، ويواجه روسيا بحزم أكبر ويزاحم المصالح الأميركية. تعكس ذلك العديد من الدراسات التي نشرتها مراكز البحوث والدراسات حول موثوقية الضمانة الأميركية لأمن أوروبا وسائر الحلفاء، وكيفية الدفاع عن القارة بمعزل عن القوة الأميركية.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة