آخر الأخبار

الحضارة المصرية القديمة: لماذا تراجع نفوذها أمام حضارات أخرى في الشرق القديم بعد تفوّق دام آلاف السنين؟

شارك
مصدر الصورة

شهدت الحضارة المصرية القديمة واحدة من أطول مراحل الازدهار في التاريخ الإنساني، إذ امتدت قوتها ونفوذها لآلاف السنين بفضل اعتمادها على نظام سلطة مركزية متماسك، وجيش قوي، وإنجازات معمارية وفنية ودينية لا تُنَافس، فضلاً عن اقتصاد زراعي مستقر ارتبط بفيضان النيل، بيد أن هذا الاستقرار لم يكن دائماً، فبمرور الوقت بدأت عوامل الضعف تتسلل إلى البنية السياسية والاجتماعية، مما أدى إلى "إضعاف نفوذها التاريخي" أمام إمبراطوريات ناشئة، وإن استمر تأثيرها الحضاري ظاهراً بوضوح في تكوين تلك الإمبراطوريات في الشرق القديم.

فمع تعرض مصر لفترات متتالية من غزو أجنبي، زادت التحديات التي قوضت ركائز قوتها، بعد أن فرضت القوى الخارجية أنماطاً سياسية واقتصادية جديدة، وقيّدت استقلالية المصريين في إدارة شؤونهم، فضلاً عن التغيرات الثقافية والدينية التي أدت إلى تراجع الموروث المصري التقليدي أمام مؤثرات أجنبية متلاحقة، وهكذا، فإن أفول نجم الحضارة المصرية القديمة لم يكن نتاج عامل واحد، بل تضافرت عناصر داخلية من ضعف وانقسام، وخارجية من غزو وسيطرة، جعلت تلك الحضارة تدخل تدريجياً في طور الانحسار.

ويرى مؤرخون أن سر تفوّق مصر الحضاري واستقرارها وقوتها عبر التاريخ يكمن في معادلة دقيقة جمعت بين تماسكها الداخلي ووجود سلطة مركزية قوية يدعمها جيش قوي قادر على حماية البلاد. فهذه العناصر الثلاثة، الوحدة الداخلية، والقيادة المركزية، والقوة العسكرية، كانت دائماً ركائز الحفاظ على توازن مصر وتأمين موقعها الجغرافي الحساس، الذي جعلها في قلب الأطماع والتحولات الإقليمية، ومن ثمّ، فإن كل خلل أصاب إحدى هذه الركائز انعكس بالضرورة على استقرارها وهدد مكانتها.

ونستعرض هنا بعض الأسباب التي أسهمت في تراجع نفوذ الحضارة المصرية قديماً بعد مجد دام آلاف السنين، وآراء بعض أبرز علماء تاريخ مصر القديم وحضارات الشرق الأدنى في هذا الموضوع في مسعى لحل هذا اللغز التاريخي الذي مازال يحير البعض، فضلاً عن محاولة الإجابة عن سؤال هل كان تراجع النفوذ التاريخي للحضارة المصرية أمراً حتمياً لا مفر منه في ظل صعود إمبراطوريات وحضارات أخرى في آسيا وأوروبا، أم كان بإمكانها الاستمرار ومقاومة عوامل التغيير وتحدي ميزان القوى الجديد في هذا الشرق القديم؟

"أفول نجم سطع في الشرق؟"

مصدر الصورة

على الرغم من أن تراجع نفوذ الحضارة المصرية القديمة لم يكن نتيجة انهيار مفاجئ أو عامل منفرد، بل كان حصيلة تراكمية لعوامل داخلية، أبرزها التنافس على الحكم وتناحر رجال الدين مع السلطة، وعوامل خارجية تمثّلت في غزو وهيمنة ثقافية أجنبية، إلا أن إرثها العلمي والفني والديني ظل شاهداً على قوتها رغم كل هذه التحديات، بل ظل مؤثراً على نحو ملحوظ في الحضارات الأخرى "الوليدة" التي احتلت مركزها الريادي في ذلك الوقت.

ولا يزال علماء تاريخ مصر القديم يبحثون عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى تصدّع نفوذ الحضارة المصرية القديمة، التي لم يبق منها سوى تراثها المادي المنظور، فهناك ثلاث آراء: أولها يرى بعض العلماء أن ذلك يرجع إلى العامل الجغرافي وامتداد البلاد طولاً مما أثر على مر العصور على تماسكها إدارياً وسياسياً.

والرأي الثاني يرى أصحابه أن هذا التراجع الحضاري ناتج عن التطور التاريخي للقوى التي كانت تطمع في الاستيلاء على مصر والتي كانت تناهضها، وظهور ضعف سياسي أمام تلك القوى في بعض فترات تاريخها الطويل، وعلى الرغم من نجاح بعض هذه القوى في دخول مصر إلا أنها لم تؤثر في مظاهر حضارتها وسرعان ما تخلصت مصر من نظم حكم قوية مثل الهكسوس والآشوريين والفرس، وحتى عندما دخلها الإغريق ثم الرومان، ظلت الحضارة المصرية صميمة في تراثها وفي مظاهرها.

أما الرأي الثالث فيقول أصحابه أن عوامل التراجع الحضارية ترجع إلى أسباب اقتصادية، نظراً لأن الاضطرابات الاقتصادية وضعف الإنتاج لهما تأثيرهما على المدى البعيد على تماسك البنيان الاجتماعي ويؤدي بالتالي إلى الانهيار.

ويرى العالمان الفرنسيان ماري-أنغ بونهيم ولوقا بفيرش، في دراستهما "عالم المصريين"، أنه اعتباراً من الألفية الأولى ق.م، وقد سبقها إقصاء آخر ملوك الرعامسة، عام 1070 ق.م تقريباً، كان استقلال مصر السياسي قد انقضى "فباتت القوى الأجنبية صاحبة القرار في مصيرها وتناوبت سيطرتها مع انتفاضات وطنية نزعت إلى الاستقلال".

وبحسب رأي العالمان الفرنسيان، يمكن تحديد بدايات مراحل انحسار نفوذ الحضارة المصرية القديمة من مدينة تانيس، في عهد الملك سمندس، مؤسس الأسرة الحاكمة الحادية والعشرين (التي تسمى أحياناً بعصر الكهنة والملوك)، والذي حكم لمدة 26 عاماً، وهي مرحلة يعتبرها المؤرخون بداية ما يعرف اصطلاحاً بـ "عصر الانتقال الثالث"، الذي تميز بضعف السلطة المركزية وتوزيع السلطة والنفوذ، حيث كانت السلطة الفعلية مقسّمة بين القصر الملكي في تانيس شمالاً وكهنة المعابد في طيبة جنوباً.

ويضيفان أنه في مطلع الألفية الأولى ق.م "اضطرت أسرات تانيس (الحاكمة) أن تتصالح مع كبير كهنة آمون في الكرنك، الذي كان يفرض سلطته على مصر العليا، كأمر واقع، وهو الوضع الذي سيستمر إلى أن تربع على عرش البلاد زعيم عشيرة ليبية، هو شاشانق الأول (حوالي 945-924 ق.م)، ليؤسس الأسرة الثانية والعشرين المعروفة اصطلاحاً (بالليبية)".

كما يمكن رصد بداية التغيير في تخلي ملوك تانيس عن اختيار وادي الملوك في طيبة مكاناً لدفن موتاهم، وأقاموا جبانة ملكية في تانيس تعبيراً عن إرادة سياسية جديدة ترمي إلى التأكيد على دور المدينة كعاصمة جديدة للبلاد وتحويلها إلى طيبة جديدة، وهو ما اكتشفه الأثري الفرنسي، بيير مونتيه، خلال حفائره التي امتد عمله فيها من عام 1939 إلى عام 1951 داخل حرم معبد تانيس الكبير، المكرّس لعبادة الإله آمون، حيث اكتشف دفنات ملوك الأسرتين الحادية والعشرين والثانية والعشرين، وما تحويه من مجموعة فريدة من المتاع الجنائزي الفريد.

مصدر الصورة

بيد أن العالم الفرنسي، جان فيركوتير، في دراسته "مصر القديمة"، يرى أن بداية انزلاق الحضارة المصرية الفعلي والملموس بدأ مع تولي آخر ملوك الأسرة الثانية والعشرين "شاشانق الثالث" و"بامي" وشاشانق الرابع"، بعد أن انتشرت الفوضى ونزعت مصر إلى مزيد من التقسيم، لاسيما في الدلتا.

ويقول: "ازدادت مصر انقساماً على انقسام، فإلى جانب انشطارها إلى شمال وجنوب، تجزأت إلى شرق وغرب في الدلتا، ويا ليتها كانت نهاية التقسيم، فإلى جانب الأسرة الحاكمة، ظهر ما يبدو العديد من زعماء الأسرات المحلية في الشمال، إلى أن قامت الأسرة الرابعة والعشرون".

ويضيف فيركوتير: "على الرغم من أن جميع هؤلاء الملوك لم يناصبوا بعضهم العداء، فقد كانت تجزئة السلطة محفوفة بالمخاطر على مصر التي صارت عاجزة عن حشد جيش قوي، وفي ذات الوقت لم تستطع تأمين الأشغال اللازمة للاقتصاد العام الذي لا غنى عنه من أجل ازدهار البلاد".

كما بلغ الوضع قدراً كبيراً من التعقيد والتشويش، في حوالي عام 730 ق.م، ففي الدلتا كان يتقاسم السلطة فراعنة الأسرتين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين، من جانب وزعماء الأسرات الذين اغتصبوا السلطة المحلية وأغلبهم من العسكريين الليبيين، أما في الوجه القبلي فقد أمسك كبار كهنة المعابد بزمام السلطة في طيبة مع نزعة استقلال تجاه الحكومة المركزية تشهدها البلاد لأول مرة.

ومع غروب القرن الثامن ق.م، استطاع ملوك قادمون من الجندل الرابع جنوباً السيطرة على حكم مصر لفترة نصف قرن حتى عام 663 ق.م، وكانت البداية بحملات عسكرية قادها الملك بي عنخي، وعندما خلفه أخوه شاباكا، ودمّر ما تبقى من السلطة المصرية الوطنية في الدلتا، توّج نفسه ملكاً على البلاد في عام 713 ق.م، واعتبره المؤرخون مؤسس الأسرة الخامسة والعشرين المعروفة اصطلاحاً بـ "الإثيوبية" ليصبح على رأس مملكة مصرية-كوشية تمتد من الجندل الرابع للنيل جنوباً حتى سواحل البحر المتوسط شمالاً.

مصدر الصورة

وعلى الرغم من ذلك ظل تأثير مظاهر الحضارة المصرية ظاهراً بقوة، فحسبما يشير العالمان الفرنسيان، ماري-أنغ بونهيم ولوقا بفيرش، ظل "لاهوت منف الذي دوّن في عهد شاباكا هو النسخة الأصلية التي تعود إلى الأسرة السادسة، ومتون الأهرام التي قام بصياغتها ملوك الأسرتين الخامسة والسادسة، لتصاحبهم في العالم الآخر، أعيد نقشها في مقابر العبادات الإلهيات في مدينة هابو".

ويضفيان: "أما عن قائمة ألقابهم (الملكية)، فإذا استثنينا الاسم الشخصي الكوشي، فقد صيغت عناصرها الأخرى صياغة مصرية، سواء كانت أصيلة أو منقولة من القائمة التقليدية".

ويلفت العالمان الفرنسيان إلى أنه "أسوة بما يحدث في كل تغيير، نلاحظ في بداية الأمر، مرحلة تسعى إلى العودة إلى الماضي، تعقبها مرحلة تبحث عن حلول جديدة".

لكن عندما نجح الآشوريون في السيطرة على زمام الأمور في مصر عام 664 ق.م، (بعد ثلاث محاولات فاشلة) ودفعوا الملوك الكوشيين إلى الجنوب مرة أخرى، تحالف أمراء مدينة سايس، في دلتا مصر، الذين سبقوا وقاوموا الغزو الإثيوبي، مع الوافدين الجدد، وفيما بعد استغل الملك المصري بسماتيك الأول الصعوبات التي تعرض لها الأشوريون في الشرق، ليفرض سلطته على مجمل أرض مصر واكتساب أكبر قدر من الحكم الذاتي، كما ظل خلفاؤه يستفيدون من المواجهات التي احتدمت بين الآشوريين وأبناء بابل، ليحتفظوا بما استعادوه من استقلال، بالاعتماد تحديداً على جنود أجانب من "المرتزقة الإغريق".

ويقول فيركوتير عن هذه المرحلة: "علينا أن نؤكد بوضوح على حقيقة أن مصر بعد أن حُرمت من مواردها الأفريقية، باتت منذ ذلك العصر لا تدين بقوتها إلى جيشها الخاص، بل إلى استخدام المرتزقة الأجانب، فهؤلاء فقط كان في مقدورهم حماية مصر من امبراطوريات آسيا القوية".

ويضيف: "الأجانب من المرتزقة الإغريق هم الذين وفروا لبسماتيك الأول القوى للسيطرة على رعيته ذاتهم، كما أنه دان للإغريق بإعادة قوة مصر العسكرية إلى سابق عهدها في مواجهة الآسيويين، وأصبحوا يشكّلون قوام جيشه، وأعيد تنظيم الأسطول المصري على نسق مثيله الإغريقي، وتأثر اقتصاد البلاد الداخلي ذاته بعد إقامة المستعمرات الإغريقية، ومن ثم لم تستطع مصر أن تكيّف نفسها مع ظروف الحياة الجديدة للعالم القديم، إلا بعد أن تنكرت لتقاليدها الخاصة".

ويلفت العالمان الفرنسيان إلى أنه "في أبو سمبل، تشير مدونة يونانية تعود إلى عام 591 ق.م، إلى مجموعة مجندين أجانب، أُطلق عليهم اسم (أولئك الذين يتحدثون لغة أخرى) وكانوا يخدمون في جيش الملك بسماتيك الثاني".

نجح ملوك الأسرة السادسة والعشرين، التي وضعت هزيمة معركة بلوزيوم (الفرما حالياً) على يد قمبيز ملك الفرس، نهاية لهم، بدون شك في إعادة تشكيل مصر موحدة قوية، فبفضل ما أجروه من تنقلات بين أصحاب السلطات في البلاد، استطاعوا إحكام قبضتهم على عموم البلاد، وعلى الفور استطاعت مصر أن تستغل ازدهارها الذي استعادته من جديد لتعيش نهضة فنية حقيقية، كانت حقاً بمثابة "تغريدة البجع" لمصر العجوز، بحسب تعبير جان فيركوتير.

"الفرس وتحديات النهوض"

مصدر الصورة

عجز الجيش المصري بعد معركة بلوزيوم عن الحيلولة دون سقوط مدينة منف أمام الغزو الفارسي، وفي البداية أبقى قمبيز على وجود ملك مصر بسماتيك الثالث على رأس السلطة، ولكن سرعان ما حاول الملك المصري أن ينظم انتفاضة ضد الفرس، ولما فشل فُرض عليه الانتحار.

وربما كان أحد أكثر الآراء حدة في تلك المرحلة بشأن ركود وتراجع الحضارة المصرية أمام الغزو الأجنبي هو ما ذكره العالم جيمس هنري بريستد في دراسته "تاريخ مصر من العصور المبكرة إلى الغزو الفارسي"، والذي حدد بشكل مطلق نهاية "التاريخ المتميز" لمصر في عام 525 ق.م مع دخول الفرس، واستنتج برستد أن "تراجع مصر وانتهاء تاريخها المميز كان بالفعل حقيقة لا رجعة فيها قبل أن يطرق قمبيز أبواب بلوزيوم، إذ كانت صلة (مصر) بالماضي قليلة، وربما لم تكن لها أية صلة به".

ويضيف: "إذا كان حدوث تفجّر ضعيف للشعور الوطني قد مكّن هذا المصري أو ذاك من التخلص من النير الفارسي لفترة وجيزة، فقد يمكن تشبيه تلك الحركات بتقلصات تشنجية فارقها الوعي منذ زمن. ومع سقوط بسماتيك الثالث أصبحت مصر تنتمي إلى عالم جديد أسهمت بالكثير في سبيل تطوره، بيد أنه لم يعد في مقدورها القيام بدور فعّال فيه".

ويرى سيمسون نايوفيتس، في دراسته "مصر أصل الشجرة" أنه حتى إذا كان من التطرف رؤية أن التراجع المطلق لمصر القديمة كان مع الاحتلال الفارسي (كما رأى برستد)، حتى وإن كان ذلك استباقاً للأحداث، "فليس من المبالغة القول بأن مصر كانت في ذلك الوقت بلداً عتيق الطراز وكان يجري استبعادها شيئاً فشيئاً ليس من النفوذ السياسي الدولي فحسب، بل كذلك من التغيرات الدينية والفلسفية والعلمية والثقافية الرائدة التي كانت تسود العالم في ذلك الوقت".

ويضيف: "حتى وإن كان النظام المصري من الشمول والانتشار بحيث يحظى بالإعجاب ويؤثر، فقد توقف إسهام مصر الأصلي في تاريخ الدين والفن والعمارة بالفعل"، كما ظهر ما سماه الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز "عصر المحاور" في القرن السادس ق.م، ولم تكن مصر جزءاً منه.

ويلفت نايوفيتس في دراسته إلى أن مقولة برستيد بأنه لم يكن هناك سوى "تفجّر ضعيف للشعور الوطني" بالنسبة لمصر في العصور الفارسية "لا تأخذ في الاعتبار أن الصخب المصري كان لا يزال قائماً. فقد استمرت مصر بمفردها وفي ظل حكم المحتلين الأجانب في القيام بأدوار مهمة بين قادة العالم السياسيين والاقتصاديين، حتى وإن كانت تلك العصور العظيمة من التجريب والتجديد الديني والفني قد ولّت".

كما اتخذت الثقافة في مصر في زمن السيطرة الفارسية شكل التعدد اللغوي، على نحو خاص وملفت في عصر الأسرة السابعة والعشرين الفارسية 525-404 ق.م، والتأكيد على أن "الملك العظيم" يتحدث عدة لغات، وكان وادي النيل قد انفتح على مؤثرات أجنبية شديدة بالفعل بدءاً من فراعنة الأسرة السادسة والعشرين.

وترى دراسة "عالم المصريين" الفرنسية أن هذه المؤثرات الخارجية لم تكن جديدة على مصر، وإن كانت سبقت الوجود الفارسي بقدر ضئيل مثل وجود "حاميات عسكرية يعود أصول أفرادها إلى سوريا وفلسطين، قد استقرت عند الحدود الجنوبية، قبل قدوم قمبيز. كما نلاحظ وجود جنود وتجار جاؤا من مستعمرة كاريا اليونانية. كما جاء أفراد من آسيا الصغرى، من إيونيا المنطقة الساحلية الوسطى من آسيا الصغرى، ومن فينقيا، ليستقروا في الدلتا".

هكذا واجهت مصر وضعاً جديداً، وتحوّلت إلى أحد أقاليم الإمبراطورية الفارسية، وإن كان الفرس احترموا الثقافة المصرية، فإن سلطتهم لكي تصبح سلطة حقيقية، كان عليها أن تجد تعبيراً لها بالنص والاستعانة بناصية الفن.

إن تمثال الملك داريوس الأول (دارا الأول)، خليفة قمبيز، المنحوت على كتلة واحدة من الحجارة المصرية، والذي اكتُشف في مدينة شوشان أو سوسة الإيرانية عام 1972، يعد أول نموذج لتمثال ملكي فارسي واقفاً بكامل قامته، فالوضع الأمامي لجسد الملك ونوعية حفر النصوص المصرية يشيران إلى أن التمثال، من حيث تصميمه، نفذه مصريون وليس مقلدين فارسيين.

ونقرأ على مجموعة لقبي داريوس "الفرعونية"، نقلاً عن دراسة ماري-أنغ بونهيم ولوقا بفيرش، أنه "الصورة الحية (للإله) رع" و"الذي اصطفاه أتوم، رب هليوبوليس"، وتناظرهما مدونة مسمارية ثلاثية اللغة، بالفارسية القديمة وباللغتين العيلامية والآكدية: "هذا التمثال من الحجر، أمر داريوس الملك، بنحته في مصر، حتى يعرف كل من سيراه في المستقبل ... أن داريوس، ملك الملوك، ملك البلاد، ابن فيشتاسبا، الأخميني"، ويرى العالم الفرنسي بيير بريان أن صياغة تلك الوثيقة تنطوي على "ازدواج في المعنى وتعلن دلالات متناقضة".

فأيا كانت الإشارة إلى آلهة مصر، تظل السلطة فارسية ويظل داريوس الأول (دارا الأول) ملك البلاد، إن صورة الملك الفارسي يطأ بقدميه الشعوب التي أخضعها، والوثيقة ثلاثية اللغة، بل والمدوّنة الهيروغليفية، تبعث رسالة مفادها أن تنوع الشعوب ينصهر في بوتقة الوحدة السياسية، كما تعبر الوثيقة عن تبادل بين ثقافتين.

كان تحرير مصر من الفرس من نصيب الإغريق، ففي عام 332 ق.م هزم الإسكندر الأكبر الملك الفارسي "داريوس الثالث" عند إسوس ودخل الفاتح الجديد مصر بوصفه "محرراً ومخلصاًَ"، وينتهي تاريخ مصر القديم، بمعنى الكلمة، مع احتلال الإسكندر المقدوني، وسوف يتولى ملوك إغريق ثم رومان توجيه أقدار البلاد، ولن يحكم مصر، من الآن فصاعداً، فرعون من أبنائها.

ويقول الفرنسي فيركوتير: "دخول الإسكندر لمصر لم يكن صدفة عرضية، بل حدثاً لا مناص منه، شأنه شأن غزو الرومان، فيما بعد، نتيجة لتوازن القوى المتنافسة. فمصر في ذلك الوقت كانت جزءاً لا يتجزأ من عالم البحر المتوسط الذي لم يكن في وسعه ولا في مراده أن يتركها وشأنها".

ويضيف: "كانت مصر أقوى وربما أكثر شباباً أيضاً، ومن المرجح أنها كانت تستطيع المحافظة على استقلالها بالارتكاز على أراضيها الأفريقية، ولكن عجزت الأسرات الوطنية الأخيرة أن تبعث الحياة في قوة مصر التليدة، ولم تنجح في إطالة أيامها بعض الشيء في مواجهة إمبراطوريات آسيا الشاسعة إلا بالاعتماد على القوات الإغريقية، وهو ما يفسر جزئياً الأسباب التي دفعت مصر إلى تقبل احتلال الإسكندر عن طيب خاطر".

"الإسكندر وطمس مصر المصرية"

نستطيع رصد مراحل التوقف والانحسار وطور النهاية لمظاهر الحضارة المصرية القديمة بعد نهاية الأسرة الثلاثين الحاكمة، نظراً لتعرض البلاد لعدة أحداث وتغييرات أدت إلى تغيّر مظاهر حضارتها القديمة وتوقفها واحتجابها نهائياً.

ويرى العالم المصري رمضان عبده علي، في دراسته "حضارة مصر القديمة"، أن أهم هذه الأحداث هو "دخول الإسكندر الأكبر مصر في عام 332 ق.م، ثم تأسيس حكم البطالمة فيها، وإن كانت مصر قد فقدت حريتها السياسية عندما رحبت بقدوم الإسكندر الأكبر، إلا أنها لم تفقد مظاهر حضارتها".

ويلفت إلى تأثير الحضارة المصرية ومقاومتها حتى النهاية لتلك المؤثرات الخارجية الإغريقية، رغم تراجع دورها السياسي، قائلاً: "عندما تقابلت الحضارة اليونانية مع الحضارة المصرية على شواطئ الإسكندرية، ذابت معالمها في بوتقة الحضارة المصرية، ولم تنهزم الحضارة المصرية أمام حضارة الأجنبي كأنه أجل محتوم، بل ظلت تتحدى بفضل ديانتها وثقافتها وعلومها".

والدليل على ذلك أن الإسكندر نفسه تعبّد للمعبودات المصرية وتُوّج في المعابد المصرية في منف وإيونو، وذهب حتى واحة سيوة وأقام المعابد على الطريقة المصرية، بل وصوّر نفسه كملك مصري، ويقول علماء إنه عندما توفي دُفن في البداية في مدينة منف ثم نُقل بعد ذلك إلى مدينة الإسكندرية، وفي حوالي عام 305 ق.م أسس بطليموس الأول سوتير، أو بطليموس لاغوس، أسرة بطلمية ستحكم مصر لما يزيد على 250 عاماً.

وعلى الرغم من أن البطالمة انحدروا من أصول أجنبية، إلا أنهم حاولوا التكيّف مع مظاهر الحضارة المصرية، فتمصّروا بمرور الوقت واعتبروا أرض وادي النيل وطنهم وديانة المصريين ديانتهم، وتقلّدوا زي الملوك المصريين، ولم يسعوا إلى تغيير المظاهر الاجتماعية والثقافية والعلمية والفنية السائدة على نحو مباشر.

ويرى رمضان عبده أن "كل ما حدث هو أن تاريخ مصر وحضارتها كساهما (في ذلك الوقت) مظهرٌ جديدٌ أو ثوبٌ جديدٌ. لكن هذا المظهر الجديد لم يمس جوهر وأصالة حضارتها، وظلت خصائصها كما هي لأنها استمدت تلك الخصائص من بيئتها المحلية".

ويلفت مصطفى العبادي، في دراسته "مصر من الإسكندر الأكبر إلى الفتح العربي"، إلى أن بطليموس الأول وسائر حكّام البطالمة من بعده لم يتبعوا سياسة تهدف إلى إضفاء الطابع الإغريقي على مصر أو نشر الحضارة اليونانية بين المصريين، بل "كان همهم هو الجيش والإدارة المصرية فقط"، ولم يستطيعوا المساس بالديانة أو الكهنة، لأن المعابد والكهنة يمثّلان جوهر التقاليد الوطنية المصرية، لذا اتبعوا سياسة التقرب إلى المعبودات المصرية وإظهار الولاء لها.

كان المجتمع المصري في تلك الفترة يتكون من المصريين أصحاب الأرض، وأجانب من الإغريق والسوريين والفينيقيين والفرس وغيرهم ممكن جاءوا إلى مصر سعياً وراء الكسب تحت لواء حكم البطالمة، وكان لكل طائفة عبادتها، ولهذا كان من الضروري أن يحتضن الملك بطليموس الأول أحد المعبودات المصرية ويجعله المعبود الرسمي للدولة.

ويرى العالم الفرنسي، نيقولا غريمال، في دراسته "تاريخ مصر القديمة"، أنه عندما حط اليونانيون الرحال على ضفاف النيل "تأثر نفوذ مصر وتراجعت سيادتها من الناحية السياسية وإن استمرت تلعب دوراً في الساحة الدولية، لكن عالم الشرق الأدنى والبحر المتوسط الذي بدأت تتحرك فيه مصر أصبح عالماً فقد حريته واستقلاله".

ويضيف: "مع ظهور الإسكندر وقادته العسكريين (البطالمة) وقياصرة روما، سادة العالم في ذلك الوقت، انتقل مركز ثقل العالم صوب الغرب. إنهم الغزاة الجدد لبلد ظل مفتوحاً منذ بداية الألفية الأولى ق.م ليتعاقب عليه الليبيون والإثيوبيون والفرس. ولم يعد ضياع المبادرة السياسية شيئاً جديداً على سكان وادي النيل، لكن الفرس وحدهم هم الذين حرموا الفراعنة من استقلالهم، واكتفى الآخرون بتسخير الهوية الوطنية لما فيه مصلحتهم".

وتأكيداً لرأي غريمال، يلفت نايوفيتس في دراسته إلى أن المصريين بقبولهم الإسكندر باعتباره محرراً من الاحتلال الفارسي "لم يدركوا ما كانوا يدخلون أنفسهم فيه، وهو السياسية اليونانية الماكرة التي ستقضي في النهاية على ثقافتهم ولغتهم وديانتهم".

ويضيف: "كان الاحتلال والقمع الفارسيان علنيين، أما القمع اليوناني للقيم المجتمعية المصرية فكان خفياً، ولكنه أشد قسوة من أي شيء مارسه الفرس. فقد قضى اليونانيون على مصر المصرية".

هذا ما فعله البطالمة والرومان وإن يكن في الظاهر فقط، فقد أبقوا على بنية المجتمع كما هي، في حين نقلوا قواعد اللعبة عن حضارتهم الخاصة وظلوا ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم الضامنين للاستمرارية كخلفاء للإله رع على أرض مصر، فضاعفوا في بناء المعابد والمؤسسات الدينية وهكذا ظلوا طوال ثمانية قرون يتسترون وراء قناع الفراعنة.

ومن المفارقة أن المعابد التي بنيت في عصر البطالمة، رغم جمالها المعماري الفريد، كانت حقيقة على أن مصر دخلت حقبة تشهد على تراجع ديانتها وثقافتها شيئاً فشيئاً، فكان بناء تلك المعابد يجري بأوامر من الحكام البطالمة، الذين لم يستطيعوا حتى التحدث باللغة المصرية، ناهيك عن قراءة النصوص الهيروغليفية المنقوشة على جدران تلك المعابد.

وبالإضافة إلى الآلهة المصرية، كانت جدران المعابد تصور البطالمة والأباطرة الرومانيين، ولم تكن معابد مثل تلك الموجودة في مناطق فيله وإدفو ودندرة جنوبي مصر مؤشرات على حيوية الديانة المصرية في العصور البطلمية والرومانية، بل كانت بقايا بارزة لما كان في يوم من الأيام تقاليد رائعة للعمارة المصرية.

كما استمر إنتاج الفن وكتابة النصوص الدينية، بما في ذلك النسخ الجديدة من الأساطير القديمة ومتون الحكمة والأناشيد، ولكنها تأثرت تأثراً كبيراً بالفلسفة والأساليب اليونانية، والواقع أن الفلسفة اليونانية اعتباراً من أواخر القرن الثاني ق.م كانت تستكمل بدهاء عملية القضاء على جوهر الديانة المصرية والرؤية الكلية المصرية.

وكان التقدم الوحيد الحقيقي المرتبط بالديانة، من الناحية العملية، هو التطور الكبير الذي طرأ على التحنيط وأساليب صناعة التوابيت الخشبية والحجرية، وفي هذا المجال كان هناك دمج للأساليب المصرية التقليدية واليونانية والرومانية الواقعية، وبشكل خاص أقنعة المومياوات وزخارف التوابيت الحجرية.

وأستكمل الرومان تدريجياً تفكيك الجوهر المصري لمصر الذي سبق وبدأه اليونانيون، إلى أن جاء الإمبراطور دقلديانوس (284-305) ووجه ضربة حاسمة بدمج مصر في كيان الإمبراطورية الرومانية، ولم يكن هناك موظف واحد مصري من بين موظفي الدولة، وكان القانون الروماني هو السائد، وكانت النقود الرومانية هي العملة الشرعية الوحيدة، وكان التأثير الروماني في الفن والصور الدينية واسعاً، واستمر التأثير اليوناني في المعتقدات والطقوس والفنون الدينية.

دُفنت مصر الحقيقية، التي كان يطلق عليها المصريون "كيمت (الأرض السوداء) و"تا وى (أي الأرضان)" و"تا مري (أي الأرض الزراعية المحبوبة)"، وحلت محلها جميعا كلمة "Aigyptos"، واختفى الصقر المهيب، "بك (حورس في الأفق)" و"حور آختي (حور المنتمي للأفقين)"، ولم يعد الخالق هو الإله "أتوم" جاثماً على تل "بن بن" الأزلي، ولن يصبح الإله "ست" إله الشر والغضب، اختفت المئات من "الآلهة العظيمة"، و"الآلهة الصغيرة" الآدمية أو الحيوانية أو الآدمية ذات الرؤوس الحيوانية.

ولم يعد هناك وجود للفراعنة الآلهة أبناء "رع" الأقوياء، الذين هم "عنخ أم ماعت" (أي عاشوا بنظام الإلهة ماعت الإلهي)، ولم يعد مطلوباً من الفنانين نحت ورسم الآلهة والبشر في صورهم المثالية، ولم يعد "حرى شستا" (أي الكاهن كاتم الأسرار) يقضي أياماً في تحنيط الأجساد من أجل ضمان الأبدية بأساليب مادية وباستخدام السحر "حكا".

كما لم يعد هناك حاجة إلى عمليات دمج الآلهة العديدة المعقدة لتصبح أوجهاً لإله واحد للعبادة، لم تعد هناك بكل بساطة حاجة إلى "تا شما وتا محو (أرض الأسل (نوع من النبات) وأرض حزمة البردي، كناية عن الوجهيين القبلي والبحري)"، كل ما بقي هو "Aigyptos"، أي مصر التي أرادها اليونانيون والرومان.

ويقول نايوفيتس في دراسته: "لنا كل الحق في التساؤل عما بقي من مصر المصرية وقتها، لقد كان المجتمع المصري والديانة المصرية والفن المصري يقل نبضها جميعاً بالحياة بينما تقوى قبضة الرومان، وبينما يُقضى على المشاركة المصرية في إدارة الدولة وسياستها واقتصادها وثقافتها، تزداد سيطرة الرؤية الهلنستية المستمرة على الديانة المصرية".

ويضيف: "مهما كان التاريخ الذي يتبناه العلماء فيما يتعلق بتراجع (حضارة) مصر، فقد كان كربها شبه دائم منذ الغزو الفارسي الأول في عام 525 ق.م وربما قبل ذلك بكثير... فاعتباراً من تلك اللحظة كانت الأنوار مضاءة في بيت مصر التقليدي، ولكن لم يكن هناك أحد بالبيت".

هكذا وجدت الحضارة المصرية القديمة نفسها، بعد آلاف السنين من المجد والهيمنة، في مواجهة تحديات من عوامل داخلية وخارجية، وتعدد غزوات أجنبية، كلها أسباب تراكمت حتى أنهت عصر الفراعنة الذهبي، وهي أسباب لم تكن وليد لحظة مفاجئة، بل نتيجة سلسلة طويلة من الأزمات التي أضعفت ركائز تلك الحضارة العريقة.

وعلى الرغم من ذلك، لم تمح تلك الأزمات من تأثير حضارة مصر القديمة على الذاكرة الإنسانية، فما زالت معابدها وأهراماتها ونقوشها شاهدة على حضارة شكّلت وجدان العالم وأسهمت في بناء أسس المعرفة والسلطة والفن. إن مصر القديمة وإن ضعفت سياسياً في ذلك الوقت، فإن إرثها الحضاري بقي خالداً ومصدر إلهام على مر العصور، ونموذجاً يحتذى في بناء حضارات الشرق القديم الأخرى.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا