في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
لسنوات طويلة ظلت الحدود الشرقية لفلسطين المحتلة تُذكر في تقارير الأمن الإسرائيلية بوصفها جبهة هادئة، ونادرا ما وضعت في خانة الأولويات، لكن السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 قلب هذه المعادلة رأسا على عقب، وجعل الاحتلال يشك في كل ما اعتبرها مسلمات.
ومن هنا جاءت المناورة المفاجئة في العاشر من أغسطس/آب الماضي كاختبار عملي، ولم تكشف فقط عن ثغرات في خطط الانتشار والاستجابة وحسب، بل أبرزت صعوبة في ترجمة التصورات النظرية إلى واقع ميداني.
وقد سبقت هذه الاختبارات تعزيزات كبيرة على الأرض، لكنها لم تنجح كثيرا في تبديد القلق المتصاعد داخل المؤسسة الأمنية للاحتلال من حدود بات ينظر إليها كخاصرة رخوة قابلة للاختراق رغم ما يحيط بها من عتاد وحواجز.
بدأت هذه المخاوف بالظهور علنا، بعد أن لمّح الجيش الإسرائيلي إلى أن قرار الكابينت بخطة فرض السيطرة على غزة سيؤدي حتما إلى استدعاء قوات الاحتياط، ليصبح السؤال المطروح ليس حول مبدأ الاستدعاء، بل حول حجم هذه القوات والجهات التي ستُرسل إليها.
هذا الحديث ورد في سياق مناورة مفاجئة واسعة أجريت في الحدود الشرقية مع الأردن ، لاختبار جاهزية هيئة الأركان العامة وفروع الجيش المختلفة، إذ وصلت فرق التفتيش إلى مختلف القيادات لتقييم جاهزية الجيش في مواجهة سيناريوهات مفاجئة متعددة الجبهات مستوحاة من أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وشملت المناورة جميع المقرات الرئيسية وغرف العمليات، كما فحصت أداء الضباط المناوبين خلال الـ90 دقيقة الأولى الحرجة حتى وصول التعزيزات، إذ تم اختبار الجاهزية في الجو والبحر والبر، بما في ذلك القوات الخاصة.
وقد اختبر التمرين -وفقا لصحيفة "واي نت غلوبال" العبرية- جاهزية القيادة وسرعة اتخاذ القرار بشأن مناطق الانتشار والتواصل بين الوحدات وتوافر المعدات والأسلحة حتى لو لم تكن جميع القوات في مواقعها الميدانية.
وتضمنت السيناريوهات أيضا حوادث أمنية داخلية وعابرة للحدود بالتعاون مع الشرطة والموساد ، وتم تفعيل إجراء الاختراق المشتبه به، وهو بروتوكول الانتقال من حادث مفاجئ إلى حرب شاملة.
ويشير سيناريو التمرين المفاجئ الذي تضمن تسللا جماعيا من الأردن إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي أصبح الآن يستعد ليس فقط لمواجهة عمليات التهريب، بل أيضا لهجوم مباشر عبر هذه الحدود، إذ ركزت المحاكاة على الغزو البري من الحدود الأردنية، وفقا لصحيفة تايمز أوف إسرائيل.
هذا القلق لم يعد افتراضيا، ففي 18 سبتمبر/أيلول الجاري أقدم سائق شاحنة أردني على إطلاق النار باتجاه الجنود الإسرائيليين، مما أدى الى مقتل جنديين قبل أن يُقتل هو برصاص الاحتلال، إذ أعقب العملية تشديد إسرائيلي للإجراءات الأمنية وإغلاق مؤقت للمعبر.
بعد هذه العملية، قالت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية إن "عملية الكرامة" كشفت أن قلق المسؤولين الإسرائيليين المتزايد إزاء التهديدات القادمة من الأردن خلال السنوات الأخيرة تحقق.
واعتبرت الصحيفة أن مجرد دخول مسلح إلى منطقة المعبر -بحد ذاتها مشكلة خطيرة- وهو ما يشابه عملية معبر اللنبي التي نفذها ماهر الجازي في 8 سبتمبر/أيلول 2024، والتي أسفرت عن مقتل 3 إسرائيليين من موظفي أمن المعبر، واعتبرت أن مدى خطورة التهديدات من الأردن لا يزال غير واضح بدقة حتى الآن.
وكشف المحاكاة عن نقاط ضعف فشل جيش الاحتلال في مواجهتها، وتتمثل في صعوبة نقل قوات كبيرة بسرعة إلى الحدود الشرقية، مما شكل تحديا كبيرا، خاصة عند انتشارها في أكثر من موقع في الوقت نفسه، وفقا لبيان صادر عن جيش الدفاع الإسرائيلي.
كما أشار إلى أن إرسال التعزيزات لمواجهة أحداث مفاجئة كان صعبا من حيث التوقيت، بينما وصلت شاحنات صغيرة افتراضية بسرعة من الأردن وسوريا دون أي إنذار مسبق، وهو ما يبرز صعوبة التصدي لاختراقات سريعة ومفاجئة.
وأكد الجيش أنه لم يسجل فشلا كبيرا مثل أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لكن المحاكاة أظهرت أن التنسيق بين القوات ونقلها بسرعة البر والجو أمر معقد للغاية، وأن صمود التجمعات السكانية والقوات المحلية أصبح جزءا أساسيا من الدفاع.
وخلال التمرين، تم استدعاء قواعد تدريب جولاني وكفير (وهما قواعد عسكرية تستخدم لتدريب وحدات المشاة على المناورات والعمليات القتالية)، بالإضافة إلى مروحيات قتالية وزوارق صواريخ بحرية لحماية مواقع حساسة مثل منصات الغاز، وهو ما يعكس حجم الصعوبات والتحديات العملية التي تواجه الجيش الإسرائيلي في الاستجابة لأي تهديد مفاجئ، وفقا لصحيفة "واي نت غلوبال".
ولفتت صحيفة جيروزاليم بوست، في سبتمبر/أيلول الجاري، إلى أن إسرائيل تشعر بقلق متزايد تجاه الأوضاع على الحدود بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول. لذلك، يتخذ جيش الاحتلال إجراءات استباقية لمواجهة التهديدات.
ويبدو أن واحدة من هذه الإجراءات تشكيل "اللواء 96" خلال 48 ساعة فقط، الذي بدأ عمله في يونيو/حزيران الماضي ويعرف باسم " فرقة جلعاد "، ومهمته حماية الحدود، بما في ذلك التصدي للتهديدات المحتملة من الأردن، إلى جانب "الفوج 47" وهو وحدة قتالية مختلطة تقوم بدوريات في وادي الأردن، وتتولى مسؤولية حماية الحدود الشرقية، بما في ذلك المناطق الحساسة مثل معبر الكرامة (اللنبي)، حسب الإعلام العبري.
وذكرت هيئة البث الإسرائيلي "كان" أن فرقة جلعاد هي أول فرقة جديدة يتم إنشاؤها في الجيش الإسرائيلي منذ 46 عاما، وتتألف من كتائب تعمل بشكل دائم، بالإضافة إلى 5 فرق احتياط، ستعمل مع الفرقة الجديدة، وتكون في حالة تأهب خلال الطوارئ.
ومن المتوقع أن تنشئ الفرقة لواء عسكريا إقليميا إضافيا في الجنوب، وأن توسّع نطاق عملها حتى مفترق وادي عربة بحلول يناير/كانون الثاني 2026.
ورافق تشكيل الفرقة محاكاة لسيناريوهات الطوارئ وعمليات الاستجابة السريعة، وهو أول تدريب على مستوى الفرقة، بقيادة المركز الوطني للتدريب الأرضي، بالتعاون مع الأجهزة الأمنية الأخرى والسلطات المحلية لتعزيز الاستعداد القتالي، وفقا لوكالة "تي بي إس" الإسرائيلية.
هناك عوامل عدة تجعل الحدود الشرقية أكثر هشاشة مما تظهره التقارير الرسمية، أبرزها -حسب العميد المتقاعد ضيف الله الدبوبي- نقص الخبرة البشرية في بعض القطاعات، والاعتماد المفرط على أنظمة إلكترونية قد تتأثر بالتشويش أو الاختراق تحت الأرض.
ويتفق العميد الركن المتقاعد صلاح العبادي مع ذلك، مشيرا إلى أن الحدود الشرقية تشكل منطقة وعرة تصعب مراقبتها بسبب طول الشريط الحدودي وارتفاع التكاليف، كما أن المنظومة الأمنية الإسرائيلية تعاني من إرهاق القوات وتشتت توزعها على جبهات متعددة، مما يقلل من الجاهزية الفعلية.
ويرى الخبراء أن للمستوطنات المحلية دورا محوريا في حماية نفسها ومراقبة الحدود، عبر وحدات إقليمية تتألف غالبا من جنود احتياط وسكان المستوطنات، تعمل بالتنسيق مع القيادات العسكرية ونقاط المراقبة المنتشرة على طول الحدود.
وزاد اهتمام الاحتلال بمراقبة حدوده مع الأردن منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غز ة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ كشفت وسائل إعلام عبرية في فبراير/شباط الماضي، عن استمرار تعزيز الجيش حدوده بأنظمة جديدة للتصدي لمخاطر أمنية محتملة، مثل عمليات التسلل، وتنفيذ عمليات ضد أهداف للاحتلال، وتهريب أسلحة.
بدوره يرى اللواء الركن المتقاعد محمد الصمادي أن المعابر ليست مناطق عسكرية مغلقة يعبرها مدنيون، يصعب على منظومة الأمن مراقبتها بدقة، كما أن عنصر المفاجأة يشكل ضغطا إضافيا على السلطات الإسرائيلية، مما يكشف غياب التنسيق بين الضوابط الأمنية والواقع العملي ويبرز صعوبة التنبؤ بالتهديدات المحتملة.
في إطار سياسة تعزيز الحدود الشرقية، أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن خطة لبناء سياج أمني عالي التقنية على طول الحدود مع الأردن، يشمل أنظمة مراقبة متقدمة ووحدات عسكرية متنقلة وبنية تحتية قيادية.
يهدف المشروع، حسب صحيفة تايمز أوف إسرائيل العبرية، إلى تعزيز الوجود الإسرائيلي في وادي الأردن، إذ كان من المقرر البدء فيه في يونيو/حزيران، ويمتد على نحو 425 كيلومترا من شمال إسرائيل قرب حامات جدر وصولا إلى شمال إيلات، وتقدر تكلفته بنحو 5.2 مليارات شيكل (1.4 مليار دولار).
رغم أن هذا المشروع يعد خطة طويلة المدى، فإن الصمادي يرى أن الاحتلال سيقوم بإجراءات استباقية على المدى القصير تتمثل في تشديد الإجراءات على المعابر والطرق الحدودية. ويتوقع أن تشمل هذه الإجراءات:
يتفق العميد المتقاعد ضيف الله الدبوبي مع ذلك الرأي، ويقول في حديثه للجزيرة نت إن الاحتلال تاريخيا يعتمد على إجراءات استباقية، تنبع من إدراكه أنه محاط بإقليم لا يريده، إذ تتنوع بين موانع طبيعية واصطناعية، أبرزها نهر الأردن، ويوجد سياج أمني من الأسلاك الشائكة، بعضها مزود بحساسات إلكترونية أو أجهزة إنذار، وفي بعض المواقع يكون السياج مكهربا لزيادة مستوى الحماية.
ويضيف الدبوبي أن هناك طريقا ترابيا بعرض يقارب 15 مترا يمتد بمحاذاة السياج، يمسح 3 مرات يوميا (صباحا، ظهرا، وقبل المغرب) للتأكد من عدم وجود آثار أقدام أو علامات تسلل. يفصل هذا الطريق بين سياجين من الأسلاك الشائكة، يبلغ ارتفاع كل منهما ما بين 1.5 متر إلى 3 أمتار، ومزوّد بحساسات إنذار لمراقبة أي حركة غير طبيعية.
وكما يوضح الدبوبي، فإن المنطقة محمية بعدة نقاط مراقبة منتشرة على امتداد الحدود، كل منها مزودة بكاميرات وأجهزة تنصت، وفي بعض المواقع أجهزة تصوير متقدمة.
تقع نقاط المراقبة غالبا على عتبات مرتفعة، ويعمل فيها 3-5 جنود مزودين بمناظير للرؤية الليلية، وأحيانا بكشافات لرصد أي محاولات تسلل، مع وجود رشاشات ثقيلة في بعض المراكز، إلى جانب دوريات نهارية منتظمة، وفق حديثه.
أما على الصعيد الإنساني، فتبقى آثار حرب الإبادة في قطاع غزة واضحة، حيث يدفع المدنيون الثمن الأكبر، بينما إسرائيل ستبقى تحصد نتائج أفعالها في القطاع وتداعياته، في حالة شك وهلع وشعور دائم بالتهديد والارتباك من محيطها.