الحذاء الأيسر، الغراب، ابن أخت الملك، والدته، جسر التماسيح، رموز أدينكرا.. مزيج من التراث الثقافي العريق لمملكة موسو بمنطقة غران باسام في جمهورية كوت ديفوار (ساحل العاج)، وهياكل حكمها المحلية الراسخة التي صمدت أمام كل التقلبات حتى في ظل الدولة الإيفوارية الحديثة.
ولفهم هذا الواقع الفريد من نوعه، يجب أن نعلم أولا أن كوت ديفوار موطن لمجموعات عرقية متنوعة، تُقسّم إلى أربع مجموعات رئيسية: الأكان (في الجنوب الشرقي)، والغور (في الشمال)، والماندي (في الشمال الغربي والوسط الغربي، بما في ذلك عرقية المالينكي)، والكرو (في الغرب والجنوب الغربي، بما في ذلك البيتي)، وتضم هذه الإثنيات أكثر من 60 مجموعة عرقية مميزة.
ولا يزال هذا البلد -رغم استقلاله عن فرنسا عام 1960- موطنا لممالك ومشيخات تقليدية، وخاصة داخل مجموعة "الأكان".
ورغم افتقار هذه الهياكل إلى السلطة السياسية الرسمية، فإنها تحتفظ بنفوذ عرفي وثقافي كبير، وغالبا ما تلعب دورا في الشؤون السياسية المحلية وحتى في توزيع الأراضي.
بل إن نزاعات قد تحدث وتستدعي جهودا لحلها، ذلك أنه "كثيرا ما تتشاجر الأسنان واللسان. فتعضّ الأسنان اللسان، لكن هل هذا يعني أن اللسان يخرج من الفم؟" يتساءل واتا بوغي مدير ديوان نانان كانغا أسومو ملك مملكة موسو، بعد أن تعرض هذ الأخير لمحاولة انقلابية من قبل بعض الغاضبين عليه.
ويضيف بوغي المتحدث باسم الملك في قصر موسو: "قد يكون هناك سوء فهم، لكن لا ينبغي أن يؤثر ذلك على التماسك الاجتماعي"، إذ إن اللسان حتى بعد أن تعضه الأسنان لا يحاول الخروج من الفم.
"فمهما تعددت أنواع الاختلاف، فإنني -باسم الملك- أطلق نداء للتسامح والمغفرة، إذ قيل في الكتب المقدسة: لا يوجد كمال في هذه الحياة الدنيا".
فمن هم شعب أبوري إيهي، وما هي مملكتهم المسماة "مملكة موسو"، وما حادثة التمرد التي علق عليها واتا بوغي؟
حسب السردية المتداولة بين أبنائه؛ فإن شعب أبوري إيهي -وهم جزء من عرقية الأكان- بدأت قصته التاريخية بهجرة أسلافهم من مصر ، واسمها بلغتهم القديمة "آنيوأنيووان" (agnouangnouan) وذلك في غابر الزمان، وفقا لبوغي إذ لا تورد المصادر المتوفرة تاريخا محددا لتلك الهجرة، وقد استقر بهم المقام في غانا.
لكن موانئ هذا البلد تم تحويلها في عام 1637 من قبل الهولنديين إلى حصن للنخاسة عبر المحيط الأطلسي .
واسم غانا القديم هو "ساحل الذهب"، وقد امتد تاريخ هذا البلد تحت اسم "ساحل الذهب" من لحظة الاتصال الأوروبي الأول بالمنطقة في النصف الثاني من القرن الـ15م وإلى حصولها على الاستقلال في عام 1957.
في البداية، كانت غانا -الواقعة في خليج غينيا- مسرحا لمنافسة شرسة بين القوى الأوروبية -وبشكل أساسي بين البرتغاليين والهولنديين والبريطانيين والدانماركيين- على مواردها الذهبية القيّمة، لتصبح في آخر المطاف مستعمرة تابعة للتاج البريطاني في عام 1874.
وكانت المنطقة تتألف آنذاك من مستعمرة ساحل الذهب وإقليم أشانتي ومحمية الأقاليم الشمالية.
وأول من وصل هذه المنطقة هم البرتغاليون، حيث أسسوا حصونا للسيطرة على تجارة الذهب، وأصبحت قلعة ساو خورخي دا مينا، التي بُنيت عام 1482، مركزا تجاريا رئيسيا.
ثم أنشأت دول أوروبية أخرى -بما في ذلك الهولنديون والدانماركيون والسويديون والألمان- حصونا ومراكز تجارية على طول ساحل هذا البلد، لتتولد عن ذلك منافسة شرسة بين هذه الدول.
وإلى جانب الذهب، سهّلت هذه المراكز التجارية تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، وهو جانب مهم ومدمر في تاريخ المنطقة.
ففي عام 1500 تقريبا بدأ البرتغاليون تجارة الرقيق في قلعة دامينا، ولكن في عام 1637 استولى الهولنديون بالقوة على هذا القصر ليستخدموه في تجارة الرقيق التي يُعتقد أنها أودت بحياة ما لا يقل عن مليوني أفريقي، ووصول 3 ملايين آخرين إلى أميركا ليُستغلوا بشكل بشع في الزراعة وغيرها من الأعمال الشاقة.
هذه الظروف دفعت شعب أبوري إيهي إلى الفرار كي لا يُستعبدوا ويكون مصيرهم الترحيل عبر الأطلسي أو الموت.
وينتمي أبوري إيهي إلى مكون الأبوري الذي ينقسم إلى جماعات هي الإيهي، والإهيفي، والأوسوم. ويتركز الإهيفي -وهم الأكثر عددا- بشكل رئيسي في بونوا، والإيهي في بوسوم، والأوسوم في أبرا.
وتعليقا على فرار الأبوري من غانا إلى كوت ديفوار يقول بوغي: رفضا للعبودية، هرب الملك آكا أهوبا مع شعبه، وخلال هذا النزوح طاردهم العدو، فتوقف شعب الأبوري على ضفاف نهر، فصار الماء أمامهم والعدو وراءهم.
وتضيف الأسطورة أن جنّي الماء اشترط -لتركهم يعبرون النهر- تقديم تضحية بشرية، فطلب الملك من زوجته التضحية بطفلهما لإنقاذ شعبه، لكنها رفضت.
هنا طلب أهوبا من أخته آبلا بوكو أن تضحي بطفلها لإنقاذ الشعب فوافقت أخته، وعندها بنى الجنّي جسرا من التماسيح لعبور النهر، ومنذ ذلك الحين أسس الشعب نظاما أموميا.
لكن بعد عبورهم للنهر لم يكن الأبوري يدرون إلى أين يتجهون، وهنا يبدو أنهم لجؤوا إلى ما كان يلجأ إليه أهل الجاهلية في الجزيرة العربية: الاسترشاد بالغراب.
ففي قصيدة "المتجردة"، يقول الشاعر الجاهلي النابغة الذبياني:
زعم البوارح أن رحلتنا غدا
وبذاك خبّرنا الغُدَاف (= الغراب) الأسود
لا مرحبا بغد ولا أهلا به
إن كان تفريق الأحبة في غد
وترى بعض الشعوب الأفريقية أن الغراب يرمز للذكاء، وتتفاءل به في رحلتها، وتقول الأسطورة إن الغربان هي التي ساعدت الملك أهوبا في قيادة شعب أبوري إيهي إلى حيث هم الآن في كوت ديفوار.
وبعد هذه الهجرة، أنشأ شعب أبوري إيهي قُرى: ديبي، وأبويسو، وويسيبو، وأهابكرو، وكانت المدينة الأخيرة المذكورة عاصمة المملكة، قبل أن يؤسس شعب أبوري إيهي عاصمته الحالية موسو.
وموسو هي اليوم موقع ثقافي رئيسي لاكتشاف تاريخ وتقاليد شعبيْ أكان وأبوري، لكن لما ذا اختارها الملك؟
حسبما يزعمه شعب أبوري إيهي، فإن الأصل الحقيقي لموسو في لغة أبوري هو "مو" وتعني "الأم".
وتقول روايتهم إن الملك فالو فانغا لما وصل إلى موضع مدينة "موسو" اليوم توفيت أمه، وعندها قرر فانغا -الذي قاد شعب أبوري إلى أراضي غراند بسام- ألا يبرح ذلك المكان، قائلا "موسو" وهي تتكون من مقطعي "مو" وتعني: الأم و"سو" وتعني: "بسبب"، وكان يعني أنه سيبقى حيث ماتت أمه، وبعد أن أطلق هذا الاسم على القرية أصبح هو أيضا اسم المملكة.
الملك يتابع بعض احتفالات وطقوس شعب أبوري إيهي (الجزيرة)وتحتفل القرية كل عام بمهرجان الأجيال. ويقام هذا الحدث للاحتفاء بانتقال الصغار من مرحلة المراهقة إلى مرحلة البلوغ، وانتقال أجيال أخرى إلى فئة عمرية أكبر، وهنا تنقل المجموعة الحاكمة مسؤوليات القرية إلى جيل جديد بلغ مرحلة النضج اللازمة لإدارة شؤون المجتمع.
ويتضمن المهرجان مسيرات ورقصات، غالبا ما تكون ذات طابع حربي، لإظهار رجولة وشجاعة الشباب عند بلوغهم سن الرشد.
كما أن هذا الحدث يمزج بين التقاليد والحداثة، فيتضمن -على الرغم من طابعه التقليدي- عناصر معاصرة، مثل الموسيقى الحديثة إلى جانب الأغاني والرقصات التراثية.
وتكمن أهمية المهرجان في أنه يقوي التماسك الاجتماعي، ويعزز العادات، ويتيح للشباب فرصة اكتساب أسرار ثقافتهم.
الملك نانان كانغا وعقيلته خلال إحدى المناسبات (الجزيرة)في هذه المملكة المسالمة، وقع حادث مؤسف يوم السبت 14 يوليو/تموز 2023.
فبينما كان الملك نانان كانغا أسومو يحضر قداس أحد أعيانه، خلع أفراد من جيل بلوسويه حذاءه بالقوة، وهي علامة على "خلع الملك" وفقا لعادات وتقاليد هذا الشعب.
وبعد هذه الحادثة المؤسفة، عادت الحياة في المملكة إلى الهدوء، وعاد الناس لممارسة أعمالهم بحرية، كل في مجاله دون أي قلاقل.
لكن عودة الحياة إلى طبيعتها لم تطفئ تلك النار التي أشعلها الشباب متهما الملك بأنه "سقط" منذ أن خُلِع حذاؤه بالقوة.
لكن واتا بوغي -وهو المتحدث باسم الملك- حاول معالجة الأمر من خلال مثَل "اللسان والأسنان" الوارد أعلاه، قبل أن يطلب -باسم الملك- المغفرة من شعب أبوري إيهي، ويطلب منهم كبح جماح غضبهم.
ويقول بوغي: مهما كانت المظالم أطلب من الجميع أن يهدؤوا، ومهما بلغ الغضب فلنتجاوزه ونضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، وقد تدخلت حاكمة المنطقة لحل المشكلة بين الطرفين وإعادة المياه إلى مجراها الطبيعي.
الأدينكرا هي من أهم ما يفتخر به شعوب الأكان وشعب أبوري إيهي، وتمثل المفاهيم والأقوال المأثورة ورسائل الحكمة.
وتُترجم كلمة "أدينكرا" نفسها إلى "وداعا" في اللغة الأكانية، وهو ما يفسر الاستخدام التاريخي لهذه الرموز على قماش الجنازة لتوديع المتوفى.
هذا يعني: من تسلق شجرة مثمرة وجد من يعينه تماما كمن عمل على مهمة نبيلة (الجزيرة)تقليديا، يتم ختم كلمة "أدينكرا" على القماش واستخدامها على المقاعد والفخار والذهب، وتنقل الرموز حقائق عميقة، وتوجد الآن على الملابس والشعارات والهندسة المعمارية في جميع أنحاء العالم.
ويمثل كل رمز من رموز "أدينكرا" مثلا أو مفهوما أو فكرة فلسفية معينة. وتُستخدم رموز أدينكرا كشكل من أشكال الاتصال، إذ تحوّل الأفكار المعقدة إلى مفاهيم بسيطة يمكن الوصول إليها من خلال التمثيل البصري.
رمز أدينكرا يمثل التقلبات والمنعطفات في رحلة الحياة فطريق الحياة ملتوٍ (الجزيرة)