يتحوّل مشهد الهجرة الدولية للعاملين ذوي المهارات العالية إلى ساحة صراع جديدة بين القوى الاقتصادية الكبرى، مع قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض رسوم صادمة بقيمة 100 ألف دولار على تأشيرات العمالة الماهرة من نوع H-1B إتش-1بي، مما أثار قلق شركات التكنولوجيا وأحدث ارتباكًا واسعًا بين العاملين الأجانب في وادي السيليكون .
في المقابل، تسعى بريطانيا إلى استغلال الفرصة عبر تسهيل استقطاب المواهب، فيما يرى خبراء أن كندا قد تكون الوجهة البديلة الطبيعية.
وبحسب ما نقلته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في تقريرين منفصلين، فإن التغييرات الأميركية تفتح الباب أمام تحولات إستراتيجية في أسواق العمل العالمية، مع تنافس عواصم المال على استقطاب العقول.
وأكدت وزيرة المالية البريطانية رايتشل ريفز أن بلادها تسعى للتميّز عن الولايات المتحدة في سياساتها تجاه المواهب العالمية.
وقالت في كلمتها خلال افتتاح المقر العالمي الجديد لشركة "ريفولت" في لندن: "بينما أعلن الرئيس ترامب أواخر الأسبوع الماضي أنه سيجعل من الأصعب جلب المواهب إلى أميركا، نريد نحن أن نجعل من الأسهل جلبها إلى المملكة المتحدة".
ووفقًا لما أوردته بي بي سي، تخطط الحكومة البريطانية لمضاعفة عدد تأشيرات العمالة الأجنبية الماهرة إلى نحو 18 ألف تأشيرة سنويًا، وذلك بعد أيام من إعلان صفقة تكنولوجية بقيمة 150 مليار جنيه إسترليني (نحو 200 مليار دولار) مع الولايات المتحدة خلال زيارة ترامب الثانية الرسمية إلى لندن.
وشدد ريفز على أن: "لندن ليست فقط عاصمة المملكة المتحدة، بل هي واحدة من عاصمتين ماليتين في العالم، ونريد أن نميز أنفسنا عن بقية الدول عبر الانفتاح على أفضل المواهب عالميًا".
اختيار ريفز منصة "ريفولت" لم يكن مصادفة، فالشركة الناشئة، التي أسسها الروسي نيك ستورونسكي عام 2015، أعلنت استثمارًا بقيمة 3 مليارات جنيه إسترليني (نحو 4 مليارات دولار) في بريطانيا مع خلق 1000 وظيفة جديدة.
والشركة التي جمعت 65 مليون عميل في 40 دولة وتقدر قيمتها السوقية بنحو 75 مليار دولار، ما تزال تنتظر الحصول على ترخيص مصرفي كامل في بريطانيا، لكنها تمثل نموذجًا طموحًا لرؤية الحكومة لجذب شركات التقنية الدولية.
وكانت التغييرات الأميركية قد قلبت الموازين، فبحسب بي بي سي، أعلن الرئيس ترامب في خطاب أن تكلفة الحصول على تصريح إتش-1بي سترتفع 50 ضعفًا لتصل إلى 100 ألف دولار.
وأحدث القرار فوضى في وادي السيليكون، حيث هرع موظفون أجانب يعملون في شركات مثل غوغل وآبل ومايكروسوفت إلى العودة بسرعة إلى أميركا، ودفع بعضهم آلاف الدولارات لتأمين مقاعد في رحلات عاجلة.
ورغم أن البيت الأبيض حاول تهدئة العاصفة موضحًا أن الرسوم تخص "المتقدمين الجدد فقط" وأنها "مرة واحدة"، فإن مستقبل برنامج إتش-1بي يبقى غامضًا.
و لطالما تعرض البرنامج لانتقادات بدعوى أنه يضغط على أجور العمال الأميركيين، لكنه في المقابل اعتُبر شريان حياة لشركات التقنية الأميركية.
وفي نيويورك، التقط رئيس الوزراء الكندي مارك كارني الخيط سريعًا، ففي كلمته أمام مجلس العلاقات الخارجية قال: "للأسف معظم باحثينا ومواهبنا في مجال الذكاء الاصطناعي يذهبون إلى أميركا. أفهم أنكم تغيرون سياستكم في التأشيرات. ربما يمكننا أن نحتفظ بواحد أو اثنين منهم"، في إشارة واضحة إلى نية بلاده الاستفادة من الخطوة الأميركية.
وبحسب بي بي سي، يرى خبراء الهجرة في كندا أن هذه لحظة نادرة يجب عدم تفويتها.
وقال المحامي الكندي إيفان غرين: "إنها فرصة رائعة أمام الحكومة الكندية لاستغلال الموقف". فيما أصدرت منظمة "بيلد كندا" غير الربحية مذكرة تحث أوتاوا على التحرك بسرعة، معتبرة أن "مئات الآلاف من المهنيين ذوي المهارات العالية والدخل المرتفع يبحثون الآن عن وطن جديد، وكندا هي الوجهة الطبيعية".
وتشير دراسات اقتصادية إلى أن القيود السابقة على تأشيرات إتش-1بي دفعت الشركات الأميركية متعددة الجنسيات إلى توظيف الكفاءات نفسها التي كانت تستهدفها في أميركا لكن من مقراتها في كندا.
وأظهرت دراسة أُجريت عام 2020 لصالح المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية في أميركا أن تخفيض حصة التأشيرات بنسبة 70% عام 2004 دفع الشركات لنقل الموظفين المستهدفين إلى كندا والهند والصين.
كما أن تجربة عام 2023 لا تزال ماثلة، حين أطلقت الحكومة الكندية برنامجًا خاصًا لحاملي تأشيرات إتش-1بي في الولايات المتحدة للحصول على تصاريح عمل لـ3 سنوات في كندا. وأغلق البرنامج في غضون 24 ساعة فقط بعد أن تقدم 10 آلاف شخص.
ورغم ذلك، يحذر اقتصاديون من الإفراط في التفاؤل، ويقول البروفيسور ميكال سكوتيرود من جامعة واترلو لبي بي سي: "هناك إمكانات بالتأكيد، لكن لا ينبغي المبالغة في تقديرها".
وأضاف أن النظام الكندي نفسه يواجه أزمات، إذ تم تقليص أعداد الهجرة في السنوات الأخيرة، وهناك جدل سياسي محتدم حول برنامج العمالة الأجنبية المؤقتة، حيث تطالب المعارضة المحافظة بإلغائه والتركيز على توظيف الكنديين، في حين أن الأجور في كندا أدنى من نظيرتها الأميركية، مما يجعلها أقل جذبًا للخبرات العالية.
وتكشف بي بي سي عن صورة مزدوجة إزاء الأمر، من جهة، سياسة أميركية متشددة تهدد بخسارة رأس المال البشري الذي غذى وادي السيليكون لعقود، ومن جهة أخرى، سباق بين لندن وأوتاوا لملء الفراغ.
وأكدت ريفز أن بريطانيا تسعى لتوسيع مسارات "التأشيرة العالمية للمواهب" و"الأفراد ذوي الإمكانات العالية"، بينما أشار كارني إلى أن كندا ستسعى على الأقل "للاحتفاظ ببعض من هذه العقول".
لكن التحدي الأعمق، بحسب اقتصاديين، يكمن في القدرة على تحويل هذه السياسات إلى بيئة جاذبة مستدامة، بعيدًا عن الحلول المؤقتة وردود الأفعال، فبينما تراهن بريطانيا على مكانتها كمركز مالي عالمي، تواجه كندا معارك داخلية حول الهجرة ومستقبلها الاقتصادي.