تبنت الجمعية العامة للأُمم المُتحدة يوم 15 سبتمبر/أيلول ليكون يوماً دولياً للمُناداة بالديمُقراطية حول العالم، وأعلنَت ذلك في 8 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2007.
وبدأت في الدعوة للاحتفال بهذا اليوم في جميع أنحاء العالم، فدعت وحَثت الدول الأعضاء والمُنظمات الإقليمية الحكومية وغير الحكومية، والجمعيات العامّة والخاصّة، على تعزيز البرامج الوطنية المُكرسة لنشر مفهوم الديمُقراطية ودعمها وتوطيدها بالبلاد.
ويُمثل اليوم العالمي للديمُقراطية فُرصة لاستعراض حالات الديمُقراطية الموجودة في جميع دول العالم، ولتأكيد فكرة الديمُقراطية كقيمة عالمية تستند إلى إرادة الشعوب في التعبير عن آرائهم بحُرية، واختيار أنظمة البلاد السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية.
وبمناسبة اليوم الدولي الثامن عشر للديمقراطية في عام 2025، أكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش "شجاعة الناس في كل مكان ممن يصوغون مجتمعاتهم بالحوار والمشاركة والثقة"، مشددا على أن هذه الجهود باتت أكثر إلحاحا من أي وقت مضى "في زمن تتعرض فيه الديمقراطية وسيادة القانون لهجمات التضليل والانقسام وتضييق الفضاء المدني"، وذلك بحسب ما ورد في موقع الأمم المتحدة.
ويقيم صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية فعالية في اليوم الدولي للديمقراطية في مقر الأمم المتحدة، لإبراز الكيفية التي يمكن أن تتحول بها المشاركة الديمقراطية "من الصوت إلى الفعل".
قد يتساءل البعض: ما هي أول ديمقراطية في التاريخ؟ عادة ما يُشار إلى أثينا القديمة باعتبارها البداية.
كان الإغريق القدماء أول من ابتكر الديمقراطية، فكلمة "ديمقراطية" مشتقة من كلمتين يونانيتين هما ديموس (الشعب) وكراتوس (الحكم). وتقول دائرة المعارف البريطانية إنه في عام 507 قبل الميلاد، وتحت قيادة كليسثينيس، بدأ مواطنو أثينا بتطوير نظام حكم شعبي استمر لما يقرب من قرنين.
وقد عمد مواطنو أثينا في ديمقراطيتهم إلى الإجابة على 3 أسئلة تمثل إجابتها 3 ركائز أساسية تقوم عليها ديمقراطيتها وهي ما هو الكيان السياسي الأنسب للحكم الديمقراطي؟ ومن الذي يجب أن يشكل الديموس؟ وما هي المؤسسات السياسية اللازمة للحكم؟
وإجابة الأثينيين عن السؤال الأول كانت واضحة بأن الكيان السياسي الأنسب للحكم الديمقراطي هو "البوليس"، أي دولة المدينة.
وكانت إجابة الأثينيين عن السؤال الثاني "من الذي يجب أن يشكل الـ ديموس؟" مشابهة للإجابة التي ظهرت في كثير من البلدان ذات الأنظمة الديمقراطية في القرنين التاسع عشر والعشرين، فعلى الرغم من أن المواطنة في أثينا كانت وراثية، حيث تُمنح لأي شخص وُلد لأبوين من المواطنين الأثينيين، إلا أن عضوية الديموس كانت تقتصر على المواطنين الذكور الذين بلغوا 18 عامًا أو أكثر (حتى عام 403 قبل الميلاد، حين رُفع الحد الأدنى للسن إلى 20 عامًا).
ونظرًا لندرة البيانات، يجب التعامل بحذر مع التقديرات الخاصة بحجم الديموس الأثيني، فقد اقترح أحد الباحثين أنه في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد ربما كان هناك حوالي 100 ألف مواطن، و10 آلاف من الأجانب المقيمين (المتيك)، وما يصل إلى 150 ألف من العبيد، ومن بين المواطنين، كان هناك نحو 30 ألف من الذكور فوق سن الثامنة عشرة، وإذا كانت هذه الأرقام صحيحة، فإن الديموس كان يشكل ما بين 10 إلى 15 في المئة من إجمالي السكان.
وفيما يتعلق بالسؤال الثالث: "ما هي المؤسسات السياسية اللازمة للحكم؟"، فقد كانت الجمعية (الإكليسيا) هي قلب النظام ومركزه، وكانت تجتمع تقريبًا كل أسبوع، أي 40 مرة في السنة، على تل البنيكس غرب الأكروبوليس.
وكانت القرارات تُتخذ بالتصويت، وكما هو الحال في كثير من الجمعيات اللاحقة، كان التصويت يتم برفع الأيدي، وكما سيكون صحيحًا أيضًا في كثير من النظم الديمقراطية اللاحقة، فإن أصوات أغلبية الحاضرين والمصوتين هي التي كانت تسود.
وعندما يُقترح قانون جديد، كان لجميع مواطني أثينا الحق في التصويت عليه، ولكي يصوّتوا، كان عليهم حضور اجتماع الجمعية في اليوم الذي يُجرى فيه التصويت، ويُطلق على هذا الشكل من الحكم اسم الديمقراطية المباشرة.
وهكذا، كانت الديمقراطية الأثينية مباشرة وليست تمثيلية كما هو الحال في معظم الأنظمة الحديثة، فالمواطنون لم يختاروا نواباً يمثلونهم، بل شاركوا بأنفسهم في الجمعيات العامة التي كانت تُعقد لمناقشة القضايا الجوهرية مثل الحرب، والسلم، والتشريعات، والضرائب.
وكان حضور الجمعية العامة إلزامياً تقريباً، وقد شارك فيها آلاف المواطنين في ساحة "البنيكس"، وهذا الطابع المباشر جعل القرارات تعكس بشكل أو بآخر إرادة المواطنين الأحرار، وإن كان المفهوم محدوداً لأنه استثنى النساء والعبيد والأجانب.
وقد اعتمد النظام الأثيني على عدة مؤسسات لضمان التوازن والرقابة، فالجمعية العامة "إكليسيا" كانت قلب النظام، حيث يُصوت المواطنون على القرارات، وكان هناك "مجلس الـ 500" الذي يضع جدول أعمال الجمعية، ويُختار هؤلاء بالقرعة من بين المواطنين، مما يعكس محاولة لضمان التمثيل والمساواة، وكان عليهم أن يخدموا في الحكومة مدة عام كامل، وخلال تلك السنة كانوا مسؤولين عن سنّ القوانين الجديدة والتعامل مع جميع جوانب العملية السياسية.
كما وُجد نظام المحاكم الشعبية التي كان يحكم فيها المواطنون المختارون بالقرعة أيضاً، مما عزز مفهوم المشاركة الشعبية في القضاء، وقد أكدت هذه الآليات أن الديمقراطية الأثينية لم تكن مجرد واجهة، بل ممارسة يومية للحكم الذاتي.
ومع ذلك، كانت لهذه الديمقراطية حدود واضحة، فقد استُبعدت النساء بالكامل من المشاركة السياسية رغم دورهن الاجتماعي والاقتصادي، كما استُبعد العبيد الذين شكّلوا جزءاً كبيراً من سكان أثينا، إضافة إلى الأجانب المقيمين.
وبالتالي فإن الديمقراطية الأثينية لم تشمل إلا الذكور الأحرار المولودين من أبوين أثينيين، ما يجعل نسب المشاركين الفعليين صغيرة مقارنة بعدد السكان، هذا التناقض يُظهر أن التجربة كانت ثورية في زمنها لكنها لا ترقى إلى مفهوم الديمقراطية الشاملة بمعايير اليوم.
ورغم القيود، إلا أن هذه الديمقراطية عززت روح الانتماء لدى المواطنين، فقد شعر الأثيني بأنه شريك في صنع القرار، مما ساعد على تعزيز الهوية الجماعية والدفاع عن المدينة في أوقات الحروب، مثل الحروب الفارسية.
وكان النظام يقوم على مبدأ أن الحرية السياسية لا تنفصل عن الواجب العسكري والمدني، إذ كان المواطن مسؤولاً عن حماية مدينته والمشاركة في مؤسساتها.
ولقد أثرت الديمقراطية الأثينية بشكل مباشر على الفكر الفلسفي والسياسي، فقد عاصرها فلاسفة كبار مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو، الذين انتقد بعضهم النظام بشدة.
فقد اعتبرها أفلاطون مثلاً نظاماً غير مستقر يقود إلى الفوضى بسبب حكم العامة غير المتعلمين، بينما رأى أرسطو أنها شكل متقدم من الحكم لكنه يفتقر إلى التوازن المثالي بين الأغنياء والفقراء، وساهمت هذه النقاشات الفكرية التي انطلقت من تجربة أثينا في صياغة أسس الفلسفة السياسية الغربية لاحقاً.
وساهمت آليات القُرعة في النظام الأثيني في تقليل فرص سيطرة النخب على المؤسسات، فقد كان اختيار الكثير من المناصب يتم بالقرعة لضمان المساواة بين المواطنين، مع استثناء بعض المناصب التي تتطلب خبرة مثل قيادة الجيش.
وكان يُنظر إلى القرعة كوسيلة عادلة لتوزيع السلطة ومنع الاحتكار، وهو مبدأ قد يبدو غريباً اليوم لكنه كان أساسياً في الفلسفة الأثينية حول العدالة والمساواة السياسية.
كما لعبت الخطابة دوراً محورياً في الديمقراطية الأثينية، فقد اعتمد النظام على قدرة المواطنين على الإقناع في ساحات النقاش، حيث كان القادة السياسيون والخطباء يلعبون دوراً كبيراً في توجيه الرأي العام داخل الجمعية، وهذه الممارسة ساعدت في تطور فنون البلاغة والخطابة التي أثرت لاحقاً على الفكر الروماني ثم الأوروبي، لكن الاعتماد الكبير على البلاغة جعل النظام عرضة للتلاعب بالديماغوغيين الذين يستغلون عاطفة الجماهير.
وارتبطت ديمقراطية أثينا أيضاً بمفهوم الحرية الذي كان جديداً نسبياً في ذلك العصر، فقد فهم الأثينيون الحرية على أنها المشاركة في الحكم، لا مجرد غياب القيود الفردية، وهذا المفهوم الجماعي للحرية هو ما جعل النظام مختلفاً عن النماذج الحديثة التي تركز أكثر على الحريات الفردية، وهذا التباين بين الحرية الجماعية والحرية الفردية ظل موضوعاً للنقاش في الفكر السياسي عبر العصور.
ورغم ازدهارها، واجهت الديمقراطية الأثينية أزمات داخلية وخارجية، ففي أثناء الحرب البيلوبونيسية ضد إسبرطة، تعرض النظام لضغوط هائلة، وشهدت أثينا انقلابات قصيرة الأمد نحو الحكم الأوليغارشي، وهذه التحولات بين الديمقراطية والأوليغارشية أظهرت هشاشة التجربة أمام الظروف الاستثنائية.
وقد انتهت ديمقراطية أثينا تدريجياً نتيجة مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي أضعفتها على مدى عقود، حتى تلاشت تماماً مع صعود القوة المقدونية في القرن الرابع قبل الميلاد.
فقد لعبت الحروب البيلوبونيسية (431–404 ق.م) بين أثينا وإسبرطة دوراً كبيرا في إضعاف الديمقراطية حيث استنزفت الحرب موارد المدينة وأضعفت جيشها وأسطولها البحري، مما أدى في النهاية إلى هزيمتها.
وبعد الهزيمة، فُرض على أثينا نظام أوليغارشي عُرف بحكم "الثلاثين طاغية" سنة 404 ق.م، وهو نظام دموي قصير الأمد ألغى الديمقراطية وفرض القمع، لكنه سرعان ما سقط ليعود النظام الديمقراطي مجدداً.
ورغم عودة الديمقراطية بعد فترة الطغيان، إلا أن أثينا لم تستعد قوتها الإمبراطورية السابقة، إذ أصبحت مدينة منهكة اقتصادياً وعسكرياً، وفقدت نفوذها على المستعمرات البحرية، وهذا الضعف جعلها عرضة لتقلبات السياسة الداخلية، حيث كان النظام الديمقراطي أحياناً يتحول إلى حكم الشعبوية والخطباء الديماغوغيين الذين يستغلون عاطفة الجماهير.
وجاءت الضربة القاصمة مع صعود مقدونيا، ففي القرن الرابع قبل الميلاد صعدت مقدونيا بقيادة الملك فيليب الثاني، والد الإسكندر الأكبر، الذي هزم تحالف أثينا وطيبة في معركة خيرونيا (338 ق.م). بعد هذه المعركة أصبحت أثينا تحت الهيمنة المقدونية، ورغم أنها احتفظت بمؤسساتها الديمقراطية شكليًا، إلا أنها لم تعد حرة في قراراتها الكبرى.
وعندما تولى الإسكندر الحكم بعد اغتيال أبيه (336 ق.م)، أبقى على أثينا تحت السيطرة المقدونية، واستمرت كمركز ثقافي وعلمي مهم، لكن دورها السياسي كقوة ديمقراطية مستقلة انتهى فعليًا.
وبعد وفاة الإسكندر (323 ق.م) حاولت أثينا استعادة استقلالها في ما عُرف بالحرب اللامية ضد المقدونيين، لكنها فشلت، وفرضت مقدونيا حاكماً موالياً لها وألغت الكثير من أسس الديمقراطية الأثينية.
واستمر الضعف في ظل الهيمنة المقدونية ثم الرومانية، ومع دخول أثينا في المدار الروماني بحلول القرن الأول قبل الميلاد، تحولت الديمقراطية إلى مجرد ذكرى تاريخية أكثر منها ممارسة سياسية حقيقية، وقد سمحت روما ببقاء بعض الطقوس الديمقراطية الشكلية، لكنها نزعت السلطة الفعلية من مؤسسات أثينا.
وبذلك يمكن القول إن ديمقراطية أثينا لم تنتهِ بانقلاب واحد بل تفككت تدريجياً تحت ضغط الهزائم العسكرية، والأزمات الداخلية، والهيمنة الخارجية، حتى صارت في النهاية تجربة تاريخية ألهبت خيال المفكرين والفلاسفة، لكنها لم تستطع الصمود في وجه موازين القوى الإقليمية.
ويفتح الحديث عن ديمقراطية أثينا بمناسبة اليوم العالمي للديمقراطية المجال لمقارنة الماضي بالحاضر، فما أنجزه الأثينيون في ذلك الوقت كان خطوة تأسيسية ألهمت البشرية، لكن الديمقراطية اليوم توسعت لتشمل المساواة بين الجنسين، وحقوق الأقليات، ومفاهيم العدالة الاجتماعية التي لم تكن حاضرة آنذاك، ومع ذلك، يظل الإرث الأثيني مهماً لأنه أرسى فكرة أن السلطة يجب أن تكون بيد المواطنين، وأن المشاركة السياسية هي جوهر الحرية.
ويمكن النظر إلى تجربة أثينا باعتبارها مختبراً سياسياً صاغ كثيراً من المبادئ التي نعتمد عليها الآن، مثل سيادة القانون، والمحاسبة، والرقابة على السلطة، وومع أن الديمقراطية الأثينية انهارت في نهاية المطاف مع تراجع قوة المدينة وصعود مقدونيا، إلا أن بذورها استمرت عبر القرون وأعيد إحياؤها في أوروبا الحديثة أثناء عصر النهضة والتنوير، ثم وجدت طريقها إلى الدساتير المعاصرة.
واليوم، حين تحتفل الأمم المتحدة باليوم العالمي للديمقراطية، فإن استذكار أثينا القديمة يذكّرنا بأن الديمقراطية ليست مجرد نظام سياسي بل ثقافة حياة، فالمشاركة، والمسؤولية، والمساءلة هي قيم مشتركة بين التجربة الأثينية القديمة والنماذج الحديثة، رغم اختلاف السياقات، ومن خلال هذا الربط التاريخي ندرك أن الديمقراطية عملية متطورة تتجدد باستمرار، وليست حالة نهائية مكتملة.