في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
باريس- تدخل فرنسا نفقا غير مسبوق ومرحلة دقيقة في تاريخها السياسي الحديث، إذ تستعد الجمعية الوطنية للتصويت على منح الثقة لحكومة رئيس الوزراء فرانسوا بايرو الذي تولى منصبه في خضم تفكك الغالبية البرلمانية، مما يجعله أمام اختبار أشبه بلعبة توازن محفوفة بالمخاطر.
ومدفوعا بخطة تقشفية تهدف إلى كبح جماح العجز المالي، سيضع بايرو رصيده السياسي بأكمله على المحك غدا الاثنين، وسط أزمات متتالية تضرب عدة قطاعات حيوية، وعلى رأسها الرعاية الصحية.
وسواء أسقِطت الحكومة أو نجحت في كسب الثقة، لا يزال عدم استقرار الدولة يلوح في الأفق، في ظل وجود حكومة بأغلبية هشة ووعود بإصلاحات تقشفية تقابل برفض حاد، فضلا عن ضغوط شعبية تتوعّد بشلّ حركة البلاد في الأيام المقبلة.
وفي هذا السياق المتوتر، لا يمثل تصويت الثقة إجراء برلمانيا روتينيا فقط، بل يتعداه إلى كونه اختبارا حاسما لشرعية النظام السياسي الفرنسي، مما قد يفتح الباب أمام تحول سياسي يُنذر بتغييرات عميقة، أو يتحول إلى نقطة فاصلة ترسم صورة جديدة للسلطة التنفيذية المقبلة في فرنسا.
وبمبادرة غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية الخامسة، خاطر فرانسوا بايرو بتقديم بيان حكومته أمام الجمعية الوطنية وإلى أعضاء لا يؤيدونه في البرلمان، بهدف الحصول على ثقتهم، استنادا إلى المادة 49.1 من الدستور، التي لا تستطيع تحملها إلا الحكومات التي تتمتع بأغلبية مريحة في قصر بوربون.
ومنذ إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن حل البرلمان في يونيو/حزيران 2024، عجزت الحكومتان الحالية والسابقة التي ترأسها ميشيل بارنييه عن ضبط الوضع الداخلي بسبب غياب التوافق بين الأحزاب السياسية وضعف القواعد المؤسسية.
ومن المفترض أن يعتمد التصويت على الأغلبية المطلقة للأصوات المُدلى بها، ويُجرى بالاقتراع العام في قاعة المجلس أو في القاعات المجاورة، وسيُؤخذ الامتناع عن التصويت في الاعتبار، بخلاف اقتراح حجب الثقة الذي يتطلب أغلبية مطلقة من أعضاء الجمعية الوطنية لإقراره، والذي يُعتبر فيه النواب الممتنعون عن التصويت مؤيدين للحكومة.
تتراوح الخيارات المطروحة بين تشكيل حكومة جديدة دامجة أو اللجوء إلى انتخابات مبكرة، لكن الطريق لن يكون هيّنا في كلتا الحالتين مع توقعات لاندلاع احتجاجات قد تضاعف الأزمة، وتاليا السيناريوهات المتوقعة:
إذا فشلت حكومة فرانسوا بايرو بالحصول على 289 صوتا من أصل 577، فسيكون مصيرها السقوط، وهو السيناريو المرجح، حيث أعلن كل من حزب فرنسا الأبية ، و التجمع الوطني ، والحزب الشيوعي، و الاشتراكي ، والخضر، أنه سيصوت ضد رئيس الوزراء.
وفي هذه الحالة، سيضطر بايرو ووزراؤه إلى الاستقالة، وتدخل الحكومة مرحلة "تصريف الأعمال"، أي أنها ستقتصر على تسيير شؤونها اليومية إلى حين تعيين خلف لها من قبل رئيس الجمهورية، ولن تملك أي شرعية سياسية لاتخاذ قرارات هيكلية أو إقرار مشاريع قوانين.
وبالتالي، ستدخل البلاد حالة من الشلل السياسي المؤقت، مع توقف تام للنقاشات بشأن ميزانية 2026، وتجميد الإصلاحات التي وعد بها رئيس الحكومة، وأهمها تقليص النفقات العامة بقيمة 44 مليار يورو.
وسيضغط هذا السيناريو على إيمانويل ماكرون، الذي يواجه انتقادات لاذعة تتهمه بالعجز عن تشكيل حكومة قابلة للحياة، وسيكون أمامه 3 خيارات واضحة: تعيين رئيس وزراء جديد من الكتلة البرلمانية، أو تكليف شخصية من المجتمع المدني، أو سياسي من حزب آخر قادر على تشكيل ائتلاف.
لا يزال بإمكان فرانسوا بايرو النجاة وتحقيق الفوز، رغم أنه احتمال ضعيف، لكن ذلك لن يعني نهاية الأزمة بل بدايتها الفعلية، في ظل استمرار شراسة المعارضة وغياب الأغلبية البرلمانية، فضلا عن غضب الشارع الفرنسي من السياسة التقشفية.
ويشبه هذا السيناريو "التنفس الاصطناعي" الذي يمنح الحكومة الحالية بعض الوقت إلا أنه لا يضمن استقرار البلاد أو تقديم الأحزاب الأخرى تنازلات كبيرة أمام الخطة الاقتصادية، مما يعني أن أي فشل بسيط في التفاوض قد يؤدي إلى سقوط جديد.
ويرى مراقبون أن فوز بايرو في التصويت قد يدفع الشارع إلى التعبئة بشكل أكبر، ويجعل الحكومة أمام معركتين، الأولى داخل البرلمان، والثانية خارجه في المدن الفرنسية التي ستعج بالمظاهرات.
وإن فشل ماكرون في إيجاد توازن داخل البرلمان، فسيضطر إلى حل الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة، وفق ما يجيزه الدستور بعد انقضاء مهلة عام واحد من الحل الأخير، الذي أعلن عنه في 9 يونيو/حزيران 2024.
ومن المقرر إجراء انتخابات تشريعية جديدة في غضون 20 إلى 40 يوما، وهو سيناريو يلعب في صالح اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان الواثقة من الفوز هذه المرة بعد حصولها على نسبة 33% في الجولة الأولى من انتخابات العام الماضي.
علاوة على ذلك، لا يخفي اليسار ترحيبه بهذا الخيار، معتبرا أنه فرصة حقيقية لإعادة توزيع مراكز القوة. في المقابل، أكد الرئيس ماكرون عدة مرات أنه لا يفضل إجراء انتخابات جديدة لأنها ستؤدي إلى شهور من الفراغ المؤسساتي وركود في العمل التشريعي.
وفي الوقت الذي تحتاج فيه فرنسا إلى رؤية سياسية واقتصادية واضحة وبرنامج اجتماعي مستقر، أثار البعض احتمال استقالة رئيس الجمهورية من منصبه.
ومن المقرر أن يقدم حزب اليسار "فرنسا الأبية" بزعامة جان لوك ميلانشون طلبا لعزل ماكرون إذا لم يحصل بايرو على الثقة، لكن هذه الفرضية تبقى هامشية للغاية نظرا لتأكيد الرئيس إصراره على إكمال ولايته حتى عام 2027 مهما بلغت حدة الاضطرابات السياسية.
يكمن السيناريو الأخطر لهذه المرحلة في الاحتجاجات التي قد تنفجر في أي لحظة، بدعوة عدة نقابات عمالية واجتماعية وبعض الأحزاب السياسية، وفي السياق الحالي، قد تشهد فرنسا "سترات صفراء" جديدة أكثر تنظيما وحدّة هذه المرة بسبب الاحتقان العام والرفض الواضح لخطة التقشف.
ومع خضوع كل تصريح لبايرو لتدقيق مكثف من السياسيين والشعب والمحللين، يواصل رئيس الوزراء جولته الإعلامية المحلية وناقش بشكل خاص مبادرة "امنعوا كل شيء" (Bloquons Tout)، واصفا إياها بـ"الحركة الاجتماعية الظالمة"، مع أنه يقرّ بأنه "لا يخشى الثورات".
وقد ظهرت هذه الحركة ردا على خطة الميزانية التي قدمتها الحكومة، وخلال شهر يوليو/تموز الماضي، ازدادت التعبئة بشكل لافت، لا سيما على منصات التواصل الاجتماعي، كما تزايدت الدعوات لإغلاق البلاد بعد إعلان رئيس الحكومة إلغاء عطلتين رسميتين للمساعدة في سداد الدين.
وتدعو الحركة إلى شل حركة فرنسا في 10 سبتمبر/أيلول الجاري من خلال إغلاق محطات القطارات والإضرابات وحصار الطرق السريعة، في حين أكدت أجهزة الاستخبارات صعوبة توقع ما سيحدث في الأيام المقبلة.
وبين رئاسة ماكرون المقاومة وحكومة بايرو العاجزة وتربّص المعارضة، تجلس فرنسا في قاعة انتظار مضطربة وتترقب السيناريو النهائي الذي ستكشف عنه نتائج التصويت.
وبحسب المراقبين، فإن دلالات هذه المرحلة ـ بغض النظر عن النتائج ـ ستعيد تعريف وتشكيل العلاقة بين السلطة والشارع وبين النخبة والشعب في العقد المقبل على الأقل.