في القاعة الرئيسية لمتحف "ياد فاشيم" في القدس، يُطلب من الزوار خلع قبعاتهم وخفض أصواتهم؛ احترامًا لذكرى ستة ملايين يهودي قضوا في الهولوكوست.
صور الوجوه الباهتة، الأرقام المحفورة على الأذرع، والشهادات عن التجويع والموت البطيء في معسكرات أوشفيتز وتريبلينكا تشكّل نسيجًا مقدسًا في الرواية الصهيونية.
لعقود، كانت هذه الذاكرة حجر الزاوية للشرعية الأخلاقية لإسرائيل: دولة الضحية المطلقة، التي نهضت من رماد المحرقة لتكون "حصنًا ضد تكرار الكارثة". لكن في غزة، حيث يموت الأطفال جوعًا تحت حصار ممنهج، تحطمت تلك المرآة الأخلاقية.
هذه ليست مجرد مفارقة تاريخية، بل قطيعة وجودية. عندما قال يوسي بيلين، أحد مهندسي أوسلو، في مقابلة 2024: "ما تفعله إسرائيل في غزة يجعل من الهولوكوست ذكرى مشوهة"، كان يصف انهيار الخط الأخلاقي الذي ربط إسرائيل بذاكرة الضحية.
لكن هذه القطيعة لم تترك إسرائيل بلا سردية. تحت قيادة بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، بدأت إسرائيل تستبدل ذاكرة الهولوكوست بملاحم توراتية، مُحيية سردية "أرض الميعاد" كمبرر أخلاقي وديني جديد لسياساتها القمعية.
هذا المقال يستكشف كيف استهلكت إسرائيل ذاكرة الهولوكوست حتى التفاهة، وحوّلت الملاحم التوراتية إلى سلاح دبلوماسي وإستراتيجي، وما يعنيه ذلك لمستقبل شرعيتها في العالم.
منذ تأسيس إسرائيل 1948، كان استدعاء الهولوكوست جزءًا لا يتجزأ من خطابها السياسي والدبلوماسي. عبارة "לעולם לא עוד" (أبدًا مرة أخرى) لم تكن شعارًا فحسب، بل بطاقة هوية أخلاقية منحت إسرائيل حصانة ضد النقد.
سواء في اجتياح بيروت 1982، أو بناء الجدار العازل، أو حصار غزة منذ 2007، كانت الذاكرة تُستخدم كدرع لتبرير العمليات العسكرية والسياسات القمعية. لكن هذا الاستخدام المفرط حوّل الذاكرة إلى أداة سياسية، تُستعمل عند الحاجة وتُركن عندما تُحرج الرواية.
المحلل ألوف بن كتب في "هآرتس" 2023: "השימוש בהשואה ככלי פוליטי הפך אותה לקלישאה, והקלישאה הזו מסוכנת כי היא מאפשרת לנו להתעלם מהמוסר" (استخدام الهولوكوست كأداة سياسية حولها إلى كليشيه، وهذا الكليشيه خطير لأنه يسمح لنا بتجاهل الأخلاق).
هذا النقد الداخلي يكشف أزمة عميقة: إسرائيل، التي بُنيت على سردية الضحية، بدأت تفقد هذا الأساس بسبب استهلاك الذاكرة بشكل انتقائي.
بدلًا من مواجهة هذا التناقض، لجأت إسرائيل إلى سردية توراتية، مُحيية فكرة "أرض الميعاد" لتبرير سياساتها، في محاولة للهروب من المحاسبة الأخلاقية والدولية.
حين تتحدث إسرائيل عن "الشر المطلق" النازي، فإنها تضع معيارًا صارمًا للفظاعة: التجويع الممنهج، الحرمان من الحقوق، والقتل الجماعي. لكن سياساتها في غزة منذ حرب 2023-2025 فاقت بشكل مقلق هذا المعيار. التجويع، قطع الغذاء والدواء، قصف المناطق الآمنة، وقتل الأطفال أثناء بحثهم عن الماء ليست "أضرارًا جانبية"، بل سياسات مدروسة.
تقارير الأمم المتحدة 2024 وثّقت أن 70% من سكان غزة يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد، مع وفيات أطفال؛ بسبب سوء التغذية.
في إسرائيل، يُعتبر ربط هذه السياسات بالهولوكوست محرّمًا. لكن الإشكالية تكمن في بنية الخطاب: كلتا الحالتين تشتركان في تبرير القمع وتجريم الضحية.
عندما يصف مسؤول إسرائيلي سكان غزة بـ"الإرهابيين" لتبرير الحصار، فإنه يعيد إنتاج منطق تاريخي: تحميل الضحية مسؤولية معاناتها. لكن بدلًا من مواجهة هذا التناقض، تحولت إسرائيل إلى سردية توراتية تُبرر سياساتها كجزء من "مصير إلهي"، مُحيلة الصراع إلى بعده الديني؛ لتجنب المحاسبة الأخلاقية.
تحت قيادة نتنياهو، أصبحت الملاحم التوراتية ليست مجرد خطاب ديني داخلي، بل سلاحًا دبلوماسيًا في المحافل الدولية. في خطاباته أمام الأمم المتحدة، بدأ نتنياهو يستخدم عبارات مثل "أرض إسرائيل التاريخية" و"أرض الميعاد"، مُحييًا سردية توراتية تُبرر التوسع الاستيطاني والسياسات القمعية كجزء من "حق إلهي".
هذا الخطاب يخدم غرضًا مزدوجًا: إعادة صياغة الشرعية الإسرائيلية بعيدًا عن ذاكرة الهولوكوست المحرجة، والهروب من القانون الدولي الذي يُدين الاستيطان والحصار.
في الضفة الغربية، تُستخدم السردية التوراتية لتبرير مصادرة الأراضي وتوسيع المستوطنات. أعضاء بارزون في حكومة نتنياهو مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، يستندون إلى نصوص توراتية مثل سفر يشوع لتصوير الاستيطان كـ"استعادة أرض الميعاد".
هذا الخطاب لا يستهدف الجمهور الإسرائيلي فحسب، بل يُوجه أيضًا إلى المسيحيين الصهاينة في الولايات المتحدة وأوروبا، الذين يرون في التوسع الاستيطاني تحقيقًا لنبوءات الكتاب المقدس.
هذا التحالف مع المسيحيين الصهاينة، الذي يُشكل قوة سياسية كبيرة في الغرب، يمنح إسرائيل دعمًا دبلوماسيًا يُضعف تأثير الانتقادات الدولية، مما يعزز قدرتها على تجنب المحاسبة.
لم تقتصر الملاحم التوراتية على الخطاب السياسي، بل أصبحت مرجعًا إستراتيجيًا للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية. سفر يشوع، الذي يروي قصص الفتوحات العسكرية للأراضي "الموعودة"، يُستخدم كإطار رمزي لعمليات الجيش في الأراضي الفلسطينية. هذا الاستخدام ليس مجرد استعارة، بل يظهر في التخطيط العسكري واللغة المستخدمة.
على سبيل المثال، في حي التفاح بغزة، تُطلق إسرائيل على عملياتها أسماء مستوحاة من النصوص التوراتية، مثل "عملية عربات جدعون"، التي تستحضر قصة جدعون التوراتية لتبرير الهجمات العنيفة.
فالتلال المشرفة على مدن مثل جنين تستخدم كنقاط إستراتيجية للجيش الإسرائيلي، في إشارة ضمنية إلى النصوص التوراتية التي تتحدث عن السيطرة على المرتفعات كرمز للهيمنة.
هذه الإستراتيجية ليست مجرد تكتيك عسكري، بل محاولة لربط العمليات الحديثة بمصير ديني، مما يمنح الجنود والقادة إحساسًا بـ"العدالة التاريخية". هذا الخطاب يُعزز الروح المعنوية داخل المؤسسة العسكرية، لكنه يعمق الفجوة مع المجتمع الدولي الذي يرى هذه العمليات كانتهاكات للقانون الدولي.
قال إيلي فيزل، الناجي من الهولوكوست والحائز جائزة نوبل للسلام، في كتابه "الليل": "أكبر جريمة بحق الضحية هي استغلال معاناتها لتبرير جريمة أخرى". سياسات إسرائيل في غزة، بما فيها التجويع الممنهج، تناقض هذا المبدأ بشكل صارخ.
تقارير "أوكسفام" 2024 وثّقت منع 83% من المساعدات الغذائية إلى غزة، مع تدمير البنية الزراعية. هذه السياسات، التي تُبرر كـ"ضرورة أمنية"، تتعارض مع ذاكرة الهولوكوست، التي تُركز على معاناة التجويع.
لكن التحول إلى السردية التوراتية يضيف تناقضًا أعمق: إسرائيل لم تعد تدّعي حماية الضحايا، بل تحقيق مصير إلهي، مما يحررها من قيود الأخلاق العالمية، لكنه يعزلها عن التعاطف الدولي.
المحلل يوآف ليمور كتب في "يديعوت أحرونوت" 2024: "כשאנחנו משתמשים ברעב כנשק, אנחנו לא רק מאבדים את המוסר, אלא גם את הזהות שלנו כקורבן" (عندما نستخدم الجوع كسلاح، لا نفقد الأخلاق فحسب، بل هويتنا كضحية).
هذا النقد الداخلي يكشف أزمة الهوية: إسرائيل، التي تُحاول استبدال الضحية بالمحارب التوراتي، تفقد قدرتها على المطالبة بالتعاطف العالمي.
النكبة الفلسطينية 1948 كانت الحدث الأهم في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، بينما كانت الهولوكوست بداية الرواية الصهيونية. فلسبعة عقود، حافظت إسرائيل على قداسة الهولوكوست، حتى عندما ارتكبت انتهاكات ضد الفلسطينيين.
لكن نتنياهو، بدعم من منظومة سياسية وعسكرية متشددة، كسر هذه القاعدة. فلم تعد إسرائيل "الضحية التي تقاوم"، بل أصبحت "الدولة التي تجوّع"، ولا تكتفي بذلك، بل تُدافع عن التجويع كسياسة مشروعة، فشرعت تطالب الغرب بحمايتها من النقد الدولي، إذ منذ بدايات هذه الحرب كرست إعلامها ومراكز أبحاثها لتذكر الغرب بجرائمه الاستعمارية، في محاولة لابتزاز صمته عما هو آتٍ.
ولزامًا لذلك حرصت على استبدال الذاكرة بسردية توراتية تُبرر التوسع والقمع كجزء من "المصير الإلهي". هذه القطيعة تعكس تحولًا من "الضحية التي تقاوم" إلى "الدولة التي تحقق النبوءات"، حتى لو كان ذلك على حساب الإنسانية.
هذا التحول فتح الباب لمقارنات محرّمة سابقًا. فربط سياسات إسرائيل بأدوات القمع التاريخية أصبح ضرورة نقدية، فعلى المستوى الرقمي، تشهد منصات مثل "إكس" موجة محتوى فلسطيني يربط معاناة غزة بالهولوكوست، مما يضع إسرائيل في موقف دفاعي.
إسرائيل اليوم ليست دولةً تبحث عن نهاية لحروبها، بل ممثلًا على مسرح الصراع، يتنقل بين فصول الأزمة، خائفًا من أن يُسدل الستار. فلقد استهلكت ذاكرة الهولوكوست حتى أصبحت قناعًا سياسيًا، وحاولت استبدالها بسردية توراتية تُبرر قمعها كجزء من "مصير إلهي".
لكن هذا القناع لا يخفي الحقيقة: دولة تفرض المجاعة على مليوني إنسان لا يمكن أن تدّعي عدالة تاريخية، سواء استندت إلى الهولوكوست أو التوراة. نتنياهو قطع الخط الأخلاقي، لكن هذه القطيعة ليست نهاية المطاف.
فالفلسطينيون، عبر مقاومتهم الشعبية في الضفة، وحملاتهم في المحافل الدولية، وتعبئتهم الرقمية على منصات مختلفة، يفتحون نافذة لإعادة صياغة الرواية الأخلاقية للصراع.
السؤال اليوم ليس فقط: إلى متى تستطيع إسرائيل البقاء دون هوية أخلاقية؟ بل: هل يمكن للعالم أن يظل صامتًا أمام دولة تحوّل ذاكرة الضحية إلى أداة للقمع؟ الإجابة لن تأتي من تل أبيب وحدها، بل من قدرة الفلسطينيين وحلفائهم على تحويل هذه القطيعة إلى نقطة تحوّل في مسار العدالة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.