في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في 12 يونيو/حزيران الجاري، انتهت المهلة التي فرضتها الولايات المتحدة على نفسها -ومدتها 60 يومًا- للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران أو مواجهة العمل العسكري، دون إحراز أي اتفاق يذكر، بعد 5 جولات من المحادثات.
وفي ذات اليوم، مرّر مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية قرارًا يُعلن أن إيران انتهكت التزاماتها بموجب إجراءات الضمانات الدولية.
وردًا على قرار الوكالة، أعلنت إيران خططا لاستبدال أجهزة الطرد المركزي القديمة من طراز "آي آر-1" (IR-1) في منشأة فوردو بأخرى أكثر تطورًا من طراز "آي آر-6" (IR-6) ولبدء بناء منشأة جديدة لتخصيب اليورانيوم .
ولم تكد تمر ساعات حتى شنت إسرائيل، فجر 13 يونيو/حزيران، هجماتٍ واسعة النطاق على أهداف إيرانية، باستخدام حوالي 200 طائرة، أصابت ما يقرب من 100 موقع في جميع أنحاء إيران، حسب بيانات الجيش الإسرائيلي.
ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هذه الضربات بأنها في سياق "عملية سوف تستمر لعدة أيام لتحييد تهديد وجودي" تتعرض له إسرائيل، ويتمثل هذا التهديد في نية طهران العمل على حيازة سلاح نووي في فترة وجيزة.
وقد ركز الهجوم على البنية التحتية النووية الحيوية، بما في ذلك منشآت تخصيب اليورانيوم في نطنز وخنداب وخرم آباد ومنطقة طهران.
كما استهدفت الضربات الإسرائيلية أصولًا عسكرية -مثل مصانع الصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي ومراكز القيادة- بالإضافة إلى أحياء سكنية فيها كبار قادة حرس الثورة وقيادات عسكرية وسياسية وعلماء نوويون، كما وردت تقارير عن سقوط ضحايا مدنيين في المناطق السكنية المستهدفة.
وردًا على ذلك، أطلقت إيران أكثر من 100 طائرة مسيرة باتجاه إسرائيل، مما أدى إلى حالة تأهب على مستوى إسرائيل وإعلان حالة الطوارئ. وتعهّد المرشد الإيراني علي خامنئي بالرد، في ظل تصاعد غير مسبوق في المواجهة.
فكيف يمكن قراءة الآثار الإستراتيجية المحتملة لهذه الموجة التصعيدية الأعنف تاريخيا بين إسرائيل وإيران؟ وإلى أين تتجه سيناريوهاتها في المستقبل القريب، في الوقت الذي ما زالت طهران تمتلك العديد من أوراق القوة بالغة التأثير؟
تفيد قراءة خريطة الأهداف الإسرائيلية أن هذه العملية تتجاوز البرنامج النووي في حد ذاته، بل تصل إلى استهداف قدرات وركائز النظام السياسي والأمني في إيران بصفة عامة، بشريا وماديا. كما يمكن وصف الموجة الأولى منها بعمليات افتتاحية استهدفت إرباك مراكز القيادة والسيطرة وشل القدرات الدفاعية لطهران.
ومن الناحية العسكرية، حققت الضربة الإسرائيلية نجاحًا تكتيكيًا واضحًا بإلحاق أضرار أولية بالقدرات النووية والصاروخية الإيرانية.
فوفقًا للمعطيات المتاحة حتى الآن، تمكنت الموجات الجوية المتتالية من تدمير أجزاء من منشآت نووية رئيسية فوق الأرض، في مقدمتها محطة نطنز لتخصيب اليورانيوم، بالإضافة إلى استهداف مواقع يشتبه بأنها معنية بأبحاث الرؤوس النووية، ومستودعات لأجهزة الطرد المركزي .
كما استهدفت الهجمات الإسرائيلية مراكز إنتاج ومنصات إطلاق في أصفهان وقاعدة "الإمام علي" وشلّت قدرة طهران على تنفيذ رد فوري واسع. كما طالت الضربات قيادات عسكرية رفيعة في الحرس الثوري وفي برنامج الصواريخ، بهدف إيجاد حالة من الارتباك والفوضى في بنية القيادة الإيرانية.
وكان من إحدى النتائج الهامة التي حققتها الضربة استهداف مجموعة من العلماء النوويين، إذ يشير عدد من المحللين السياسيين إلى أنه إذا ما كان استبدال القادة العسكريين الذين تم اغتيالهم أمرا يسيرا على القيادة الإيرانية، فمن ذا الذي يعوض استهداف العقول المختصة في بناء المشاريع النووية وسط ندرة هذا الاختصاص، وبما يمتلكون من خبرة امتدت لعقود في بناء المشروع النووي الإيراني.
وأظهرت إسرائيل إذن قدرة اختراق نوعية للمنظومة الأمنية الإيرانية، استخباريا وعملياتيا، خاصة إذا صدق ادعاء إسرائيل بأنها نجحت في تسريب عدد كبير من المسيرات داخل حدود إيران ثم أطلقتها خلال العمليات.
وبصورة عامة، بدا أن إيران لم تشهد مثل هذا الانكشاف منذ عقود، بعدما تعرضت بنيتها الدفاعية لاختبار قاسٍ يكشف عن عجز واضح في حماية العمق الداخلي.
ولكن التقييم الإستراتيجي لا يقف عند حدود الإنجاز العسكري المباشر، بل يتجاوز إلى سؤال أعمق: هل أزالت الضربة تهديد البرنامج النووي الإيراني نهائيا؟
وهناك ثمة تقديرات عديدة -من بينها تقدير دانيال شابيرو مساعد وزير الدفاع الأميركي لشؤون الشرق الأوسط في يناير/كانون الثاني الماضي- كانت تشير إلى أن أية ضربة إسرائيلية منفردة مهما بلغت قوتها لا يمكنها القضاء على البرنامج النووي الإيراني، بل قد تؤخره شهورا أو بضع سنوات في أفضل الأحوال، إذ لا تزال إيران تملك المعرفة التقنية والكوادر العلمية ومخزونا كبيرا من اليورانيوم عالي التخصيب يكفي لصنع عدة قنابل نووية.
ويُعتقد أن جزءًا من هذا المخزون محفوظ على هيئة مواد خام أو في أجهزة طرد مركزي حديثة، بعضها ربما نُقل إلى مواقع سرية محصنة يصعب استهدافها.
وتدعم السوابق التاريخية هذا التصور، فبعد عملية "أوبرا" الإسرائيلية التي دمّرت مفاعل أوزيراك العراقي عام 1981، أعاد النظام العراقي إطلاق برنامجه النووي بسرية وتصميم أكبر، بل كان على وشك تحقيق اختراق كبير مطلع التسعينيات لولا أن حرب الخليج قوضت قدراته.
ولا شك أيضا أن إيران اليوم تملك برنامجًا أكثر تقدمًا، وعلماء أكثر خبرة، ومنشآت أكثر تحصينًا وانتشارًا.
من المؤكد أن طهران، كما صرح قادتها، لن يكون أمامها خيار سوى الرد على الحملة الإسرائيلية مهما بدا ذلك طريقا مفتوحة للتصعيد غير المحسوب، رغم أن ثمة قيودا تكتنف خيارات إيران، أولها يكمن في الجغرافيا؛ إذ لا يجمع الطرفين حدود مباشرة، وتفصل بينهما مسافة تتجاوز 1500 كيلومتر، مما يجعل أي رد بري أو جوي تقليدي شبه مستحيل، في حين يعاني سلاح الجو الإيراني من تقادم مزمن، ولا يمتلك القدرة على الوصول إلى العمق الإسرائيلي أو مجابهة التفوق التقني والجوي لإسرائيل.
وفي المقابل، تمتلك إسرائيل منظومة دفاع جوي من عدة طبقات: تشمل منظومات "آرو" (Arrow) لاعتراض الصواريخ الباليستية على مراحل خارج الغلاف الجوي، ومنظومات " القبة الحديدية " و" مقلاع داود " للصواريخ القصيرة والمتوسطة، بالإضافة إلى بطاريتي "ثاد" (THAAD) أميركيتين نُشرتا مؤخرًا في إسرائيل لتعزيز الدرع الصاروخي.
وقد أظهرت مواجهة أكتوبر/تشرين الأول 2024 أن هذه المنظومات قادرة على اعتراض وابل من الصواريخ الباليستية الإيرانية بنسبة نجاح مرتفعة نسبيا، رغم وصول عدد محدود منها لأهدافه وإحداث أضرار في عمق إسرائيل.
وعلى الرغم من أن إدارة ترامب سعت في البداية إلى النأي بنفسها عن المشاركة المباشرة في الهجوم الإسرائيلي الأخير، فإنها من المرجح أن تُساعد إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد أي هجوم إيراني، والذي من شأنه أن يُضعف على الأقل جزءًا من قوتها.
ومع ذلك، من المرجح أن تنجح بعض الصواريخ والأنظمة الأخرى -ربما أكثر من المحاولات الإيرانية السابقة- في الوصول إلى العمق الإسرائيلي، وهو ثمن يبدو أن إسرائيل مستعدة لدفعه وفق تصريحات نتنياهو الأخيرة.
وبناءً على ذلك، فإن خيارات الرد التقليدي لإيران تنحصر عمليًا في سلاح الصواريخ والطائرات المسيّرة. إذ تمتلك ترسانة كبيرة من الصواريخ الباليستية متوسطة وبعيدة المدى، فضلاً عن مسيرات هجومية متنوعة، عملت في السنوات الأخيرة على تحسين دقتها بالتعاون مع شركاء مثل روسيا .
ومع إدراكها لقيود الرد العسكري المباشر، يمكن أن تُفعّل إيران أدواتها في الحرب غير المتماثلة، وفي مقدمتها شبكة الحلفاء الإقليميين، في العراق ولبنان واليمن، لتنفيذ عمليات انتقامية ضد أهداف إسرائيلية أو أميركية، سواء داخل إسرائيل أو في مناطق النفوذ الأميركي.
غير أن اللجوء إلى هذه الورقة أيضا ليس مضمون النتائج: فـ حزب الله اللبناني مكبل داخليًا ويواجه ضغوطًا محلية ودولية، والمليشيات العراقية تتعرض لمراقبة أميركية مشددة، وأما الحوثيون فإمكاناتهم محدودة نسبيا. ومع ذلك، يبقى هذا الاحتمال واردا بشدة، لأسباب إستراتيجية وأيديولوجية تربط قوى ما يسمى محور المقاومة بطهران، رغم قيود الواقع.
ومن جانب آخر، تبدو فتح جبهة الحرب السيبرانية واحدة من أكثر الاحتمالات إغراءً لإيران، فهي لا تتطلب صواريخ، ولا أنظمة دفاع جوي، وتتيح لطهران توجيه ضربات مباشرة داخل العمق الإسرائيلي مع هامش واسع من الإنكار والمناورة.
وعلى مدار العقد الماضي، راكمت إيران قدرات رقمية هجومية متقدمة نسبيًا عبر وحدات مكرسة في "الجيش السيبراني" و"قسم العمليات الإلكترونية" التابع للحرس الثوري.
وقد أثبتت طهران مرارا قدرتها على تعطيل أنظمة حساسة، من بينها هجمات على منشآت مائية وكهربائية في إسرائيل. ومن ثم، فإن هجومًا رقميًا واسع النطاق بات إحدى أهم أدوات الردع البديلة التي يُعوَّل عليها في طهران، إما بوصفها بديلا عن الهجوم العسكري المباشر، أو بكونها سلاحا موازيا يزيد من الضغط على البنية التحتية الإسرائيلية.
وفي هذه الحالة؛ قد تستهدف إيران شبكات الاتصالات أو المطارات أو المصارف الإسرائيلية، أو تسعى لاختراق نظم التحكم في الطاقة أو المواصلات بهدف بثّ الذعر وإرباك الجبهة الداخلية.
ورغم أن إسرائيل تُعد من القوى السيبرانية المتقدمة عالميًا، ولديها أنظمة حماية وهجوم عالية المستوى مثل وحدة "8200" فإن المخاطر في هذا المجال تظل عالية، لأن الهجوم لا يتطلب تفوقًا شاملًا بقدر ما يحتاج إلى ثغرة واحدة فقط.
وهنا تكمن الخطورة: أن تنجح إيران في اختراق نوعي مفاجئ يساهم في تغيير المعادلات القائمة.
في ضوء هذه الخيارات والقيود، ثمة سيناريو آخر يمكن أن تلجأ إليه طهران، وهو التشدد بصورة أكثر حسما في البرنامج النووي والانتقال السريع -سرا أو علانية- لامتلاك القنبلة النووية، بوصفها أداة ردع أخيرة وحاسمة.
وفي هذا السيناريو، قد تقرر طهران الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي "إن بي تي" (NPT) وطرد مفتشي الوكالة الدولية، والإعلان عن رفع مستوى التخصيب إلى درجة تصنيع سلاح نووي. وهذه الخطوة قد تكون استعراضية، أو مقدمة لمسار فعلي نحو القنبلة.
ويمنح هذا السيناريو إيران قوة ردع رمزية كبرى، ويعزز صورتها بوصفها قوة إقليمية لا تُبتز عسكريًا. لكنه يحمل أيضًا مخاطر هائلة: فمجرد التلويح بالخروج من المعاهدة سيستفز الغرب، وقد يدفع الولايات المتحدة إلى تحرك عسكري لوقف وصول إيران لهذه النتيجة.
ولذلك، قد يكون هذا السيناريو أداة ضغط تفاوضية أكثر منه خطة فعلية في المدى القريب. ولكن إذا ما شعرت إيران أن الردود الأخرى لم تحقق الردع أو تحفظ هيبتها، فقد يصبح هذا الخيار مطروحًا فعليًا في صلب حساباتها ليصبح جوهريا في صلب وجودها.
والخلاصة، أنه رغم الهشاشة -التي أظهرتها طهران إثر الحملة الإسرائيلية- لا تزال تحتفظ إيران بنقاط قوة بالغة التأثير، وإذا ما تخلت عن "إستراتيجية الصبر الإستراتيجي" واحتواء التصعيد، فقد يكتشف نتنياهو أن أمامه سنوات أخرى من حرب لا تنتهي، لكنها ستكون بالتأكيد أكثر ضراوة من حروبه الحالية.