آخر الأخبار

إزاحة الأخضر عن عرشه.. هل ينتهي زمن الدولار؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

كيف ستؤثر تعريفات ترامب الجمركية وسياساته الاقتصادية بشكل عام على الوضع المهيمن للدولار عالميا؟ في مقالهم المنشور بمجلة "فورين أفيرز" يناقش إدوارد فيشمان وغوتام جاين وريتشارد نيفيو -من مركز سياسات الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا- "السياسات الترامبية" و تهديدها الأكبر على العملة الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .

وتناول المقال المترجم الذي نشرته الجزيرة نت آراء الباحثين الثلاثة حول الرسوم الجمركية الهائلة التي فرضها ترامب ، وكيف يمكنها أن تدفع دول العالم تدريجيا للتخلي عن الدولار، فيما سيكون زوال عرش العملة الخضراء هو النتيجة الحتمية لتراجع الثقة العالمية في الاقتصاد والمؤسسات الأميركية.

نص الترجمة

على مدار أكثر من 7 عقود، كان الدولار الأميركي العملة المهيمنة في التجارة الدولية والمعاملات المالية حول العالم، وخلال كل تلك الفترة لم يظهر تهديد حقيقي يذكر لمكانته. والسبب وراء ذلك هو أن الأنظمة الاقتصادية العالمية تعمل غالبا بالقصور الذاتي حيث تفضّل الجهات الفاعلة الرئيسية، من الحكومات إلى البنوك وحتى الشركات متعددة الجنسيات، اتباع آليات مُجرّبة ومُختبرة لإدارة التجارة والشؤون المالية.

ورغم أن وسائل الإعلام لم تفتأ تنشر تلك العناوين الرئيسية المُثيرة للقلق حول مساعي بعض الدول للبحث عن بدائل للدولار، أو أن تحالفا جديدا يُحاول إنشاء عملة مُنافسة، أو أن الأزمات السياسية الأميركية ستُنهي أخيرا وضع الدولار كعملة احتياط عالمية، فإن هيمنة الدولار ظلت راسخة في مواجهة عقود من النمو الاقتصادي المُتغيّر حول العالم، وفترات الاضطرابات في الأسواق العالمية، والشكوك حول مستقبل السياسة الاقتصادية الأميركية.

إعلان

لكن لسوء الحظ، فإن ذلك الوضع ربما يكون في طريقه إلى تغير كبير. ففي الثاني من أبريل/ نيسان، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن رسوم جمركية جديدة باهظة على جميع شركاء الولايات المتحدة التجاريين تقريبا. وتعد هذه الخطط، التي دفعت أسواق الأسهم الأميركية والعالمية إلى الانهيار، أحدث مثال على نهج الحوكمة الذي يتبعه ترامب والمتمثل في تسليح القوة الاقتصادية الأميركية.

لقد فرض ترامب رسوما جمركية على السلع القادمة من كندا والمكسيك ردا على مجموعة متنوعة من المشكلات المزعومة، وأعاد تنشيط حملة الضغط الأقصى ضد إيران التي بدأت في ولايته الأولى. وإلى جانب انتهاكاته المتكررة لسيادة القانون، تُشكل محاولات ترامب غير المدروسة لاستغلال المزايا الاقتصادية لواشنطن أكبر تهديد لمكانة الدولار كعملة احتياطية.

وإن أصبح هذا التهديد واقعا فسوف تصبح الولايات المتحدة والعالم بأسره أسوأ حالا. فبدون الدولار لتسهيل التجارة والتدفقات المالية، سيتباطأ النمو، ويزداد الفقر في كل مكان، والأكثر أن تلك "العزلة الأميركية" لن تحقق الانتعاش الصناعي الذي تدّعي إدارة ترامب أنها تسعى إليه، في ظل ارتفاع أسعار المواد الخام المستوردة ونضوب أسواق رأس المال، وستكون النتيجة الحقيقية النهائية لانخفاض قيمة الدولار هي زوال القوة الاقتصادية ذاتها التي يحاول ترامب استغلالها.

مصدر الصورة "العزلة الأميركية" لن تحقق الانتعاش الصناعي الذي تدّعي إدارة ترامب أنها تسعى إليه، في ظل ارتفاع أسعار المواد الخام المستوردة ونضوب أسواق رأس المال (رويترز)

العملة المثالية

على الرغم من أن الدولار نجح في تجاوز الجنيه الإسترليني البريطاني منذ منتصف عشرينيات القرن الماضي كعملة رئيسية في احتياطيات النقد الأجنبي العالمية، فإن مكانته كعملة احتياطية عالمية لم تتعزز إلا في أعقاب مؤتمر بريتون وودز قرب نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد أسفر هذا المؤتمر عن إنشاء مؤسستين جديدتين، هما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ونظام جديد لربط العملات بالدولار الأميركي القابل للتحويل إلى الذهب بسعر ثابت.

إعلان

وضعت هذه المؤسسات ونظام ربط العملات بالدولار استقرار العملات في صميم الاقتصاد العالمي، ومنذ ذلك الحين، حافظ الدولار على مكانته المهيمنة خلال العديد من المنعطفات، متجاوزا حتى الاضطرابات التي أعقبت قرار الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1971 فك الارتباط بين الدولار والذهب نهائيا.

وتعتمد مكانة الدولار على عدة خصائص يجب أن تتمتع بها أي عملة تميل إلى أن تُشكّل النصيب الأكبر من احتياطيات النقد الأجنبي لمعظم الدول. وفي أبسط صورها، يتعين أن تكون هذه العملة سائلة -أي سهلة البيع والشراء- ويجب أن يوافق معظم الأفراد والبنوك والشركات على استخدامها في معاملاتهم وهما شرطان حققهما الدولار بجدارة.

فعلى مدار أكثر من 3 عقود، كانت نسبة ما بين 85 و90% من المعاملات بين العملات في أسواق الصرف الأجنبي تتم بالدولار. وأكثر من ذلك فإن نظام التحويلات المالية العالمي المعروف باسم "سويفت"، والذي تستخدمه البنوك الدولية لتبادل عشرات التريليونات من الدولارات يوميا، تُجرى 50% من معاملاته اليوم بالدولار الأميركي، مقارنة بنسبة 35% فقط قبل عقد من الزمن.

ولا تحتاج عملة الاحتياط العالمي أن تكون سائلة وواسعة الانتشار فحسب، ولكن يتعين عليها أيضا أن تعمل كوحدة حساب مشتركة متوافق عليها للسلع المتداولة عالميا، وهو ما ينطبق على الدولار أيضا حيث تُقوَّم مبيعات السلع، من النفط إلى المعادن إلى المحاصيل، بالدولار في جميع أنحاء العالم تقريبا. وتقوم نحو 54% من فواتير التجارة العالمية بالدولار الأميركي رغم أن حصة الولايات المتحدة من إجمالي التجارة الدولية تتراوح حول نسبة 10% فقط.

ويبقى الشرط الأخير لنجاح أي عملة احتياطية أن يعتبرها الأفراد والشركات والبنوك المركزية مخزنا موثوقا للقيمة، ولتحقيق ذلك يجب أن تمتلك الدولة الأم المصدرة للعملة أسواقا مالية واسعة ومفتوحة توفر فرصا استثمارية جذابة، وتخضع لحكم القانون بشكل صارم. كما يُسهم انخفاض التضخم واستقراره في ضمان بقاء قيمة أصول حاملي العملة ثابتة، بحيث يكونون مطمئنين بأن أموالهم لن تتبخر (تنخفض قيمتها) بين عشية وضحاها.

وفي هذا السياق، يعد سوق الأسهم الأميركي الأكبر عالميا بقيمة إجمالية بلغت 63 تريليون دولار نهاية عام 2024 أي ما يعادل نصف القيمة الإجمالية لأسهم العالم تقريبا، حتى بعد التراجع الحاد الذي شهده السوق هذا العام.

ويظل الاقتصاد الأميركي مفتوحا على مصراعيه للاستثمار الأجنبي فالقيود المفروضة على دخول رأس المال إلى البلاد وخروجه منها قليلة للغاية، وينظر إلى مجلس الاحتياطي الفدرالي على نطاق واسع على أنه هيئة مستقلة وموثوقة وتحظى المحاكم والهيئات التنظيمية في الولايات المتحدة بثقة عالية فيما يتعلق بقدرتها على الإدارة الاقتصادية بطريقة قابلة للتنبؤ ومنع جميع أشكال الفساد المستشري.

إعلان

ومن العوامل المساعدة أيضا أن سوق سندات الحكومة الأميركية هو الأكبر عالميا، حيث يبلغ حجمه حوالي 28 تريليون دولار، أي ما يزيد على ربع السوق العالمية للديون الحكومية. كما تُعد سندات الحكومة الأميركية (المعروفة عادة باسم سندات الخزانة) أكثر أشكال الديون الحكومية سيولة، حيث يبلغ متوسط معاملاتها اليومية حوالي 900 مليار دولار.

هذه السهولة في الشراء والبيع تمنح البنوك المركزية شعورا بالاطمئنان بأن سندات الخزانة ملاذ آمن لحفظ المال. وبالنظر إلى هذه العوامل مجتمعة -السيولة، والاستخدام الواسع، والأمان- فليس من المستغرب أن يشكل الدولار غالبية الاحتياطيات النقدية الدولية منذ عقود وحتى اليوم.

مصدر الصورة سوق سندات الحكومة الأميركية هو الأكبر عالميا (أسوشيتد برس)

ملك بلا منازع

وبجانب هذه الميزات الفريدة، يتمتع الدولار بمزية أخرى مهمة وهي أنه لا يكاد يواجه منافسين حقيقيين. صحيح أن الرنمينبي "اليوان" الصيني يلوح منافسا محتملا في الأفق، لكن الصين تفتقر إلى الأسواق المالية المفتوحة والسيولة الكافية وهي أهم متطلبات العملة الاحتياطية الناجحة.

ولا يُتداول الرنمينبي بحرية في بورصات العملات الأجنبية في حين تقيد الحكومة الصينية التدفق الحر لرأس المال من خلال إجراءات مثل الضوابط على الاستثمارات الواردة والصادرة والقيود على التحويلات المصرفية الدولية.

ويواجه الأجانب عقبات تنظيمية عند الاستثمار في الأسواق المالية الصينية، بما في ذلك سوق السندات المحلية، الذي يفتقر أيضا إلى السيولة والعمق اللازمين لأسواق الدين الرائدة عالميا.

وقد حاولت الصين التسويق لنظام منافس لنظام سويفت العالمي للتحويلات المالية ويدعى نظام الدفع بين البنوك عبر الحدود "سيبس" (CIPS) خاصة منذ أن استبعدت العقوبات بعض أكبر البنوك الروسية من نظام سويفت عام 2022، ولكن حتى الآن، لم يجذب نظام "سيبس" سوى أقل من 0.2% من حجم معاملات نظام سويفت.

إعلان

وبتجاوز الرنمينبي يعد اليورو، وهو المنافس الأقرب للدولار الذي يفي بالعديد من شروط العملة الاحتياطية العالمية، بالنظر إلى تمتع منطقة اليورو بأسواق رأس مال مفتوحة وسائلة، مما يجعل اليورو هو ثاني أكثر العملات تداولا في العالم وثاني أكثر العملات الاحتياطية شيوعا.

ومع ذلك، لا تتضمن منطقة اليورو اتحادا ماليا، وكانت ألمانيا أكبر دولة في الكتلة مترددة حتى وقت سابق من هذا العام في إصدار كميات كبيرة من الديون الحكومية.

في غضون ذلك، أدى عدم وجود سياسة مالية موحدة لمنطقة اليورو إلى أزمة الديون الأوروبية 2010-2012، والتي تسببت بدورها في انخفاض حاد في أحجام تداول اليورو في أسواق الصرف الأجنبي، وتراجع معاملات سويفت المقومة باليورو وتناقص حصة العملة الأوروبية في احتياطيات البنوك المركزية.

وقد تفاقمت "عيوب التصميم" في منطقة اليورو بسبب حقيقة أن الأسهم الأميركية حققت عائدا يقارب 5 أضعاف نظيراتها الأوروبية على مدى السنوات الـ15 الماضية، مما دفع حائزي الأصول إلى تركيز الاستثمارات في الولايات المتحدة. ولجعل الأمور أسوأ بالنسبة لليورو، أعطى التهديد الجيوسياسي الذي تشكله "الإمبريالية الروسية" على أوروبا البنوك المركزية حول العالم سببا آخر لتجنب العملة الأوروبية الموحدة.

وبعيدا عن المنافسين التقليديين، لم تُفلح جهود الترويج لعملات احتياطية ناشئة أخرى حتى الآن. وقد طرحت مجموعة البريكس، وهي نادٍ يضم اقتصادات رئيسية غير غربية، عملة جديدة محتملة تُنافس الدولار ولكن في المدى القريب على الأقل من غير المرجح أن تُشكل هذه العملة الجديدة التي يُفترض أن تدعمها سلة عملات من الدول المشاركة أي تهديد لهيمنة الدولار، ليس فقط بسبب غياب أي خطة لإنشاء اتحاد نقدي أو مالي مشترك داخل مجموعة البريكس، ولكن لأن الدول المعنية تختلف اختلافا كبيرا في أولوياتها المحلية والدولية.

إعلان

إن عملة تُنشئها مجموعة أكثر انقساما بكثير من منطقة اليورو لا تمتلك فرصة حقيقية لأن تُصبح الخيار الأمثل للأعمال التجارية العالمية، خاصة أن مجموعة البريكس لم تُوضح بعد كيفية عملها.

كما أن البدائل الأكثر بريقا، مثل البيتكوين والذهب، لم تُحقق نجاحا يُذكر. من جانبها تفتقر العملات المشفرة إلى العديد من الخصائص اللازمة للعمل كعملات احتياطية، بما في ذلك السيولة واستقرار الأسعار والدعم الحكومي أو أي مصدر واضح آخر للقيمة.

أما الذهب فقد استُخدم عملة منذ آلاف السنين، وشكّل أساسا للعديد من الأنظمة النقدية حتى وقت قريب نسبيا، لكن نقاط ضعفه باتت واضحة الآن وأبرزها أن الحكومات لا تستطيع التحكم في كمية المعروض منه، وهو ما يقيد قدرتها على مواجهة الأزمات الاقتصادية.

تهديد حقيقي

وعلى الرغم من قوة الدولار ووضعه الراسخ، من الواضح أن عودة ترامب إلى الرئاسة تخلق تهديدا حقيقيا لمكانته للمرة الأولى منذ أجيال، ونظرا لعدم وجود بدائل جاهزة، فمن غير المرجح أن يكون الضرر قاتلا على الفور. لكن خطر التراجع النهائي، ووتيرة التراجع المحتملة، يرتفعان باضطراد وعلى أقل تقدير من المرجح أن تؤدي تصرفات ترامب إلى تآكل العوامل الداعمة لهيمنة الدولار.

وخلال الأسابيع الأولى في منصبه، انتهج ترامب سياسات أدت إلى تقوية الدولار ولكن منذ ذلك الحين، تراجعت العملة الأميركية مقابل العملات الأخرى. في البداية، كان ارتفاع الدولار يعزى إلى ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية على خلفية سياسات ترامب مثل التعريفات الجمركية وترحيل المهاجرين والتخفيضات الضريبية المقترحة، غير أن حالة انعدام اليقين الاقتصادي التي خلفتها هذه السياسات تُلقي بثقلها الآن على الدولار، حيث تتوقع الأسواق أن تُلحق ضررا بالغا بالنمو الأميركي، لا سيما بعد إعلان ترامب عن تعريفاته العالمية الصارمة وواسعة النطاق.

إعلان

هذا وتؤثر اضطرابات سلاسل التوريد الناجمة عن الحرب التجارية، ونقص العمالة بسبب عمليات الترحيل، وعدم اليقين السياسي العام، سلبا على ثقة الشركات والمستهلكين، مما يؤدي إلى انخفاض الإنفاق وتباطؤ النمو ومن ثم انخفاض أسعار الفائدة. ونتيجة لسياسات ترامب إلى حد كبير، تفوقت الأسهم الأوروبية على مؤشر الأسهم الأميركي الرائد بنحو 20% خلال الربع الأول من عام 2025، وهو أكبر هامش من نوعه منذ أكثر من 3 عقود.

وإذا تجاوزنا هذه الآثار القريبة إلى نظرة أكثر عمقا سوف تتبين مخاطر أكبر بكثير لهذه السياسات. بادئ ذي بدء، وبالإضافة إلى تأثيرها المزعزع على الاقتصاد الأميركي سوف تُلحق الرسوم الجمركية العالمية الهائلة التي فرضها ترامب ضررا لا يمكن إصلاحه بمصداقية الولايات المتحدة كشريك تجاري، وهذا بدوره سيقوض الحاجة إلى الدولار ويتسبب في تراجع استخدامه مستقبلا (ربما يفسر ذلك قرار الإدارة الأميركية تعليق فرض الرسوم الجديدة لمدة 90 يوما على جميع دول العالم باستثناء الصين ما يمنح فرصة لدراسة أكثر تأنيا لتأثيراتها بعيدة المدى)*.

وللمفارقة سوف يُعاني حلفاء الولايات المتحدة الضرر الأكبر، إذ سيواجه العديد منهم تعريفات جمركية أعلى من تلك التي يواجهها خصوم واشنطن. على سبيل المثال، تخضع إسرائيل واليابان والاتحاد الأوروبي جميعا لمعدلات تعريفات أعلى من تلك المفروضة على إيران أو روسيا، وقد أوضح الاقتصاديون أن الدول تكون أكثر ميلا للاحتفاظ باحتياطيات نقدية من عملات شركائها الجيوسياسيين مما يعني أن قرارات ترامب تنفر بالأساس تلك الدول التي كانت الأكثر استعدادا للاعتماد على التجارة بالدولار.

ويحدث ذلك كله وسط أجواء ملبدة بالشكوك بالفعل بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين بفعل تحول ترامب ضد أوكرانيا في صراعها مع روسيا وتشكيكه العلني في المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي "الناتو" المتعلقة بالدفاع المشترك، مما يُفاقم المخاوف بشأن استعداد الولايات المتحدة للوفاء بوعودها.

إعلان

وبينما تبحث الدول عن سبل للحد من تأثرها بأهواء ترامب، من غير المرجح أن تُقلل سريعا من اعتمادها على الدولار، ولكن مع مرور الوقت، قد تُحفز العلاقات التجارية المتنامية مع الصين وغيرها من الاقتصادات الكبرى الشركات والدول على استبدال الدولار في بعض المعاملات.

وتوفر العقوبات سببا آخر للبحث عن بدائل للدولار، حيث تشير حملة الضغط الأقصى ضد إيران، والإجراءات الصارمة التي اتخذتها الإدارة الأميركية ضد فنزويلا، إلى أن الاستخدام واسع النطاق للعقوبات ربما يتصاعد أكثر في ولاية ترامب الثانية. ومع خضوع المزيد من الدول للعقوبات فسوف تتشجع على اتباع نهج روسيا بعد عام 2018، وتقليل اعتمادها على الدولار في التجارة العابرة للحدود واحتياطيات العملات.

وحتى لو لم تتخل هذه الدول عن الدولار كليا أو تستبدله ببديل مهيمن وحيد، فقد تبدو أنظمة دفع أخرى مثل نظام "سيبس" أكثر جاذبية بالنسبة إليها.

وتُعدّ الصين بالفعل أكبر شريك تجاري لنحو ثلثي دول العالم، وإذا أصبح نظام "سيبس" هو السبيل الوحيد للتعامل التجاري مع الشركات الصينية، فسيكون لدى المؤسسات المالية في تلك الدول حافز قوي للانضمام إليه. وبدلا من إعادة تشكيل أنماط تجارتها لتتناسب مع تفضيلات الولايات المتحدة، ستعيد الدول تشكيل بنيتها التحتية المالية للحفاظ على تدفقاتها التجارية البديلة.

في مواجهة الفدرالي

لكن الخطر الأكبر على هيمنة الدولار يأتي من تهديدات ترامب لسيادة القانون، والتي ستقوض الأساس الذي ترتكز إليه مكانة الدولار. ولا يقتصر الخطر على أن تُعجّل الإدارة بأزمة دستورية من خلال تحديها للمحاكم، بل يمتد إلى احتمالية ترسيخ شكل أكثر فسادا وفردانية من الحكم في ظلّ رئيس يميل إلى عقد الصفقات مع أصدقائه ومعاقبة أعدائه.

ودعونا نذكر أن سيادة القانون، أو بالأحرى غيابها، هي العائق الأكبر أمام توسيع المعاملات بالعملة الصينية، فالشركات تُفضّل المثول أمام محكمة أميركية بدلا من محكمة صينية وإذا ما تآكلت هذه الميزة الأميركية فسوف تكون النتائج كارثية بكل المقاييس.

إعلان

ويُشكّل دين الحكومة الأميركية ، الذي توقع مكتب الميزانية في الكونغرس ارتفاعه من 100% من الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يقارب 150% بحلول عام 2050، خطرا إضافيا، ففي حال تبني الكونغرس المزيد من التخفيضات الضريبية دون كبح مناظر للإنفاق (بغض النظر عن الطريقة التي سيفعل بها ذلك) فإن الفجوة الناجمة عن ذلك سوف تعني أن حصة أكبر من الإيرادات الحكومية ستُخصّص لسداد الفوائد بدلا من أولويات الإنفاق الأخرى، مما يُلحق الضرر بالنمو الاقتصادي طويل الأجل وجاذبية الأصول الأميركية.

وقد طرح بعض المسؤولين في إدارة ترامب أفكارا من شأنها أن تفاقم هذه المشكلة إلى حد بعيد على شاكلة إجبار المستثمرين الأجانب على مبادلة حيازاتهم من سندات الخزانة بسندات جديدة بفائدة صفرية لأجل 100 عام، مما سيُضرّ بمصداقية الولايات المتحدة كمقترض، وبالتالي، بمكانة الدولار. ومن شأن إجبار الدول على تحمّل خسارة في حيازاتها من السندات الأميركية أن يُخيف المشترين المستقبليين، وإذا كانت تلك "المبادلة" المقترحة غير طوعية، فقد تُصنّفها وكالات التصنيف الائتماني على أنها "تخلف عن السداد".

وأخيرا، إذا ضعف الاقتصاد الأميركي كما تتوقع العديد من بنوك وول ستريت الآن، فقد يجد ترامب نفسه في مسار تصادمي مع بنك الاحتياطي الفدرالي، كما حدث في ولايته الأولى. وقد أشار الاحتياطي الفدرالي بالفعل إلى أنه يحتاج إلى مزيد من الوضوح بشأن التأثير التضخمي لرسوم ترامب الجمركية قبل خفض أسعار الفائدة أكثر، في حين يطالب ترامب بالفعل بسياسة نقدية أكثر مرونة لتحفيز الاقتصاد المتباطئ، وهو ضغط من المرجح أن يزداد مع الوقت.

وإذا نجح ضغط ترامب، فإنه سيضر باستقلال الاحتياطي الفدرالي ومصداقيته، مما يؤثر بالتبعية على مكانة الدولار العالمية، حيث تبدأ الدول في الخوف من أن السياسة، وليس الاقتصاد، هي التي توجه السياسة النقدية الأميركية.

إعلان

يُرسّخ الاحتياطي الفدرالي النظام القائم على الدولار بأكمله، وبمجرد تسييسه لسبب ما، سيسهل تسييس عملياته لأي سبب آخر وسوف يكون من الصعب الرجوع عن هذا الطريق. على سبيل المثال، ستُقلق البنوك المركزية في بلدان مثل كندا واليابان وأوروبا، عن حق، من أن الاحتياطي الفدرالي المُسيّس قد يحد من قدرتها على اقتراض الدولار عبر خطوط المبادلة في أوقات الأزمات، في محاولة لانتزاع تنازلات سياسية.

وحتى لو لم تُطح هذه التهديدات بالدولار تماما، فإن أي تراجع في مكانته ستكون له عواقب وخيمة على الولايات المتحدة والعالم بأسره. يُوفّر وضع الدولار كعملة احتياط فوائد هائلة لواشنطن، بما في ذلك انخفاض أسعار الفائدة على الديون الحكومية والقدرة على فرض عقوبات اقتصادية. كما تجد الدول الأخرى الاندماج والعمل ضمن منظومة الاقتصاد العالمي أكثر سهولة بوجود عملة سهلة التحويل، عالية السيولة، وموثوقة، تستخدمها معظم الجهات الفاعلة.

وستكون نتيجة تراجع الدولار ارتفاعا باهظا للتكاليف، وتجارة أكثر تعقيدا، وانخفاضا في مستويات المعيشة، على الأقل حتى تظهر عملة أخرى لتحل محله.

لم يكن الدولار دائما عملة الاحتياطي العالمي أو العملة المُفضّلة للتجارة الدولية، ففي القرن الـ19، كان الجنيه الإسترليني هو صاحب هذه المكانة، وكان الممولون البريطانيون يشعرون بالأمان في ظل حكمه، وكانت أسواق رأس المال في المملكة المتحدة غنية بالسيولة، وكانت الإمبراطورية البريطانية أكبر اقتصاد في العالم واللاعب المحوري في التجارة العالمية.

ومع ذلك، بعد حربين عالميتين وعقود من التراجع السياسي والاقتصادي في لندن، تراجعت مكانة العملة البريطانية. ولم يكن تراجع الإسترليني وصعود الدولار مسألة حتمية أو قدرية، تماما كما لا يوجد ما هو حتمي في زوال الدولار المحتمل اليوم. فالخيارات، وليس القدر، هي التي تحدد مصير العملات الاحتياطية، وإذا ما أُطيح بالدولار من فوق عرشه أخيرا، فستكون تلك كارثة من صنع إدارة ترامب.

إعلان
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا