قال موقع "أوريان 21" إن يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 كان بمثابة ثورة في منطقة الشرق الأوسط برمتها، وظهرت عواقبه في لبنان وسوريا إضافة إلى تداعياته على غزة.
وأجرى الموقع مقابلة مع بيتر هارلينغ مؤسس شركة ساينابس، وصاحب الخبرة الواسعة في المنطقة، الذي قال في تحليله إن الحرب الحالية في غزة بدت له مختلفة عن حروب أخرى شهدها في المنطقة، أولا بسبب الاختلال الهائل في توازن القوى، حيث أطلق حزب الله الصواريخ وشن هجمات على إسرائيل كانت نتائجها تافهة، في حين استخدمت إسرائيل قوة غير متناسبة، تحول مبنى كاملا إلى أنقاض بضربة واحدة.
وانتقد الكاتب ما اعتبره عالما بائسا، يتمتع فيه شخص ما في مكان ما، بالقدرة على هدم المباني السكنية واحدا تلو الآخر، بمجرد الضغط على الشاشة، مما جعل الناس في لبنان يشعرون بالعجز، وهو ضعف يصل إلى حد الشعور المرتبك بالعري في مواجهة هذه القوة المطلقة.
أما نحن في فرنسا -يقول الكاتب- فنتصور أن هذه الحرب لا تعنينا، فهي حرب غامضة وبعيدة، مع أن إسرائيل تحارب بسلاحنا وتستفيد من دعمنا الإعلامي والسياسي والدبلوماسي، في معركة تبدو على السطح ضد الإرهاب، ولكنها تُخاض ظاهريا باسمنا للدفاع عن المعسكر الغربي "في مواجهة الهمجية ولتعزيز المهمة الحضارية".
أما بالنسبة للذين يتابعون التفاصيل أو يعانون منها، يقول هارلينغ، فهي حرب فظائع، حيث يتم استهداف الصحفيين والعاملين في مجال الصحة، ويتم تدنيس المساجد والكنائس وهدم المقابر، من بين آلاف أعمال العنف غير المبررة، مما يظهر الفجوة بين هذه التجربة الحميمة والسرد المخفف الذي يهيمن في الخارج.
ولا يمكننا إلا أن نرى -كما يقول المحلل- كيف تتحول حكوماتنا إلى التطرف من خلال إسرائيل، إلى درجة تخريب القانون الإنساني الدولي الذي هو من أعظم وأجمل مساهمات أوروبا في استقرار العالم، وهكذا نشجع إسرائيل على القيام بما لا نجرؤ على القيام به بأنفسنا، وبالتالي فإن هذه الحرب تعمل بمثابة كاشف ومسرِّع للفاشية التي نعيشها، والتي تضرب بجذورها الآن في كل مكان في القارة الأوروبية.
وذكر هارلينغ أن حزب الله قد ضعف بالفعل، لكنه يحتفظ بقاعدة اجتماعية لا تتزعزع تقريبا، وسوف يستمر في الدفاع عن مكانته في النظام السياسي الذي كان جزءا لا يتجزأ منه، بما في ذلك الطائفية والفساد، وقد كشفت الحرب عن انحطاطه قبل أن تبدأ، بعد أن قوضت الغطرسة والتعصب مهاراته التحليلية، كما سيطرت المصالح التافهة عليه، فلم يفعل إلا أقل القليل لوقف الانهيار الاقتصادي الذي شهدته البلاد بل استفاد منه، كما أنه لم يتفاعل مع تهريب المخدرات الذي ابتليت به أحياؤه.
وتطرق للموضوع السوري قائلا إن أي تحول من هذا النوع يكون معقدا ومحفوفا بالمخاطر، ولكن اعتبار وسائل الإعلام وجزء من الجمهور في الغرب أن سقوط نظام عربي يعد نذير سوء، فيه تجاهل لمدى يأس الوضع في سوريا، وسوء فهم لما يعنيه أن يعود الناس لوطنهم بعد سنوات من المنفى كما أنه استسلام لرد الفعل المتغطرس في بلداننا التي تريد أن يكون التغيير نحو الأفضل مجرد وهم في بعض البلدان.
ويستمر هارلينغ قائلا: بدلا من الانغماس في هذه التصورات يستطيع الغرب أن يقدم تعاطفه ومساعدته في الوقت الذي تغتنم فيه إسرائيل الفرصة للتعدي على أراضي سوريا وتدمير ما تبقى من قدرتها العسكرية، وتقصف فيه الولايات المتحدة ما تراه مناسبا، وتهتم أوروبا بعودة كل اللاجئين إلى هذا البلد، ولا تعرب عن قلقها إلا على المجتمعات المسيحية كما لو أنه لا توجد أقليات أخرى في خطر وسكان معرضون للخطر.
وذكر هارلينغ -عند التطرق إلى شركته التي طوّرت عملا تحليليا يغطي المسائل المجتمعية التي لا تتناولها الأبحاث إلا قليلا- أنه اختار أن يبعد نفسه عن المواضيع المستهلكة كثيرا، يقول "كانت الانتفاضات الشعبية في عامي 2010 و2011 بمثابة نقطة تحول بالنسبة لي، إذ فهمت حينها أنه لم يعد بإمكاننا تجاهل مجتمعات المنطقة بعد الآن، خاصة أن هذه المجتمعات لم تكن مجهولة بالنسبة لي".
وفي أعقاب الانتفاضات، يضيف هارلينغ، من الضروري أن يتنحى الأجانب مثله، ممن ظهروا بشكل متكرر على شاشات التلفزيون للتعليق على الأحداث الجارية في المنطقة، لصالح شخصيات محلية تتحدث باسم شعوب المنطقة، وقد مكنه برنامج ساينابس من المساهمة في هذه العملية، من خلال تدريب الباحثين الشباب.
ويقول إنه ومع ذلك لا تزال المنطقة تُفهم من خلال ذخيرة العنف الرئيسية، كالحروب والمجازر واللاجئين والتطرف والقمع والأزمات والكوارث وما إلى ذلك، وتميل وجهة النظر هذه إلى تجريد السكان المحليين من إنسانيتهم، وتحويلهم إلى جماهير متحركة، أو ضحايا جانبيين أو تهديدات محتملة، سواء بسبب الإرهاب أو الهجرة.
غير أن هناك جانبا أكثر إيجابية في الخطاب حول الشرق الأوسط المعاصر، ينبع من رؤية اقتصادية مختزلة بطريقتها الخاصة، كجاذبية المغرب وقدرته التنافسية، والابتكار الإسرائيلي والإماراتي، والاستثمارات القطرية، وما إلى ذلك، وهذ هي المنطقة التي نمارس فيها أعمالنا، والتي تنتمي إلى خريطتنا العالمية للتبادلات المعولمة، ولكن هناك المنطقة الأخرى التي نسقط فيها القنابل والمساعدات الإنسانية ونرسل إليها المبعوثين الخاصين.
ومع ذلك، هناك شرق أوسط ثالث يكاد يكون غائبا تماما -كما يقول المحلل- ألا وهو الحياة اليومية لنصف مليار إنسان، بينهم العديد من الأشخاص الذين لا تشملهم صور الأوروبيين النمطية، ويمكن أن يتعلم منهم الكثير، كالمزارعين الذين يتكيفون مع تغير المناخ، ورائدات الأعمال المحافظات، وشبكات التضامن الكثيفة وغير الرسمية، والعمل الخيري التقليدي النشط للغاية، وغير ذلك.
ويختم بالقول إن هذه المجتمعات، التي لا تقل ثراء وتعقيدا عن المجتمعات الأوروبية بطبيعة الحال، تواجه العديد من المشاكل المألوفة بالنسبة للأوروبيين، بدءا من رداءة النخب السياسية، واعتداء الأثرياء، والتفكيك التدريجي للخدمات العامة، "ولكن عدم فهم بعضنا للبعض يحرمنا من قاعدة من التجارب المشتركة التي يمكن أن نبني عليها علاقات أكثر إنسانية، متحررة من جميع الأوهام التي تشكل محتواها اليوم".