في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في عام 1993، عقد عالم السياسة الأميركي الشهير والأستاذ في جامعة هارفارد صامويل هنتنغتون العزم على الرد على أطروحة تلميذه فرانسيس فوكوياما التي أصدرها في العام السابق في كتاب بعنوان "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، وحازت اهتماما عالميا كبيرا وأثارت حولها جدلا واسعا.
وقد نسج فوكوياما نظريته حول استنتاج مثير مفاده أن الليبرالية الغربية قد انتصرت بشكل نهائي على كل الأيديولوجيات الأخرى بانتهاء الحرب الباردة، وأنها ستسود العالم في السنوات القادمة، لأنها ذروة التطور الفكري الإنساني وتمثل نهاية التاريخ.
جاء رد هنتنغتون ضمن نظرية عرفت باسم "صراع الحضارات"، نشرها أولا في مقال مطول في مجلة "فورين أفيرز"، ثم في كتاب يحمل الاسم نفسه عام 1996، وأثار من خلالها جدلا لا يقل عن نظيره الذي حفزته أطروحة فوكوياما، ولكن مع روح مختلفة تماما. وبعكس نظرية فوكوياما المتفائلة بشأن السيادة النهائية لليبرالية الغربية في عالم مستسلم بلا منازعة، توقع هنتنغتون صراعات عديدة ستملأ العالم، ليس بسبب القومية والاختلافات السياسية والاقتصادية، ولكن بفعل الهوية والثقافة.
ما توقعه هنتنغتون هو أن العولمة لن تؤدي إلى تآلف العالم تحت مظلة ليبرالية سعيدة، وإنما ستؤدي إلى عودة المجتمعات لجذورها الهوياتية، ما يؤدي إلى "بلورة" الاختلافات بين الثقافات وتعميقها أكثر وأكثر، كما تنبأ أن الغرب سيظل متقدما اقتصاديا بفارق ملحوظ على نحو سيثير استياء المجتمعات الأخرى، وستجد المجتمعات نفسها تتآلف بروابط الدين والثقافة واللغة والتقاليد والتاريخ المشترك مع أبناء حضارتها في مواجهة الآخرين، ومن ثم سيعاد تشكيل خريطة العالم الحضارية، ممهدة لنشوب صراعات ربما تكون دموية بين الحضارات المختلفة، والتي لن تكون الحضارة الغربية سوى واحدة منها.
واحد من أهم الصراعات التي أشار إليها هنتنغتون هو ذلك الصراع الذي سينشأ بين الحضارة الإسلامية وبين الحضارة الغربية بوصفها تجليا "مسيحيا بروتستانتيا"، وذلك ببساطة لأن كلتا الحضارتين متمركز حول اعتقاد جازم بالتبشير لنموذجه ومحاولة جعل الآخرين يتبعه، كما أن كلتا الحضارتين مؤمنة بأن غاية التاريخ هو انتصارها.
فمن ناحية، يسود الاعتقاد في الغرب البروتستانتي بأن النموذج الليبرالي هو أعلى مراتب الكمال الفكري، وهو الذي حمى حقوق الإنسان ووفر التقدم كما لم توفره فكرة أو حضارة أخرى في التاريخ، وعلى الجانب الآخر ورغم أن المسلمين لا يتمتعون بالتمثيل السياسي الكافي عالميا، ورغم ظروف بلادهم الصعبة والصراعات الطاحنة التي تشهدها منطقتهم، فإن عقيدتهم الدينية الراسخة في مجتمعاتهم وقوتهم البشرية (السكانية) المتزايدة تجعلهم تحديا هائلا للحضارة الغربية.
حين أصدر هنتغتون نظريته، لم يكن هناك الكثير من المثقفين الراغبين في تصديق نبوءة متشائمة تتوقع صراعات مريرة شبيهة بصراعات القرون الوسطى، ومن ثم واجهت أطروحته هجوما كبيرا رغم اعتناقها من قبل العديد من السياسيين اليمينيين في الغرب، لكن بعد مرور أكثر من 30 عاما على النظرية يمكن القول الآن إن توقعاتها كانت أقرب إلى الدقة من توقعات فوكوياما حول نهاية التاريخ.
فمن صعود تيارات أقصى اليمين في الغرب، إلى انسحاب أمريكا من أفغانستان وعودة طالبان لسدة الحكم، وصولا إلى حرب روسيا وأوكرانيا التي يرى الكثير من المراقبين أن موسكو في طريقها لتحقيق نوع من النصر فيها، وليس انتهاء بحرب غزة التي يدعم فيها الغرب حكومة الاحتلال اليمينية الدينية المتطرفة في حرب إبادتها ضد الفلسطينيين، لا يبدو بأي حال أن الليبرالية قد سادت، وإنما تشير الكثير من المشاهد إلى صراعات متزايدة على خطوط الصدع بين "الحضارات المختلفة".
ويأتي الفصل الأخير في هذا المشهد العالمي، الذي يتجه نحو ترسيخ الجذور الثقافية لكل حضارة وتعزيز شعورها بالمواجهة مع الحضارات الأخرى، من قلب الولايات المتحدة الأميركية ذاتها التي اعتقد فوكوياما قبل 30 عاما أنها ستقود العالم في اتجاه الليبرالية السياسية، فقد جرت الانتخابات الأميركية الأخيرة في نوفمبر/تشرين الأول الماضي وسط أجواء ساد فيها الخطاب المسيحي واستخدام الدين في الدعاية السياسية ربما أكثر من أي انتخابات قريبة، وسط وعود من الحزب الجمهوري بتقوية النزعة الدينية المسيحية وتمكين المؤثرين المسيحيين في البلاد في حال فوزه.
أكثر من ذلك، وبحسب نيويورك تايمز، ساد خطاب مشحون بين المؤثرين المسيحيين المعارضين للحزب الديمقراطي في تلك الانتخابات وصل إلى حد تشبيه المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس بشخصية الملكة إيزابل التي صارعت النبي إيليا واضطهدت المؤمنين وفق رواية الكتاب المقدس. وقد كتب مارك دريسكول، القس الإنجيلي المؤثر في ولاية أريزونا، قبل الانتخابات على صفحاته بمواقع التواصل الاجتماعي: "نحن بصفتنا مسيحيين ملزمون ببذل كل ما في وسعنا لمنع (إيزابل) من تولي السلطة".
أثمرت الانتخابات في النهاية فوز الحزب الجمهوري باكتساح ثلاثي: رئاسة الجمهورية وأغلبية مجلس الشيوخ ومجلس النواب، وسط وعود دينية سياسية كبيرة من الرئيس المنتخب دونالد ترامب وحزبه، ووسط تخوفات ليبرالية كبيرة من تنامي المشروع المسيحي القومي الأبيض في الولايات المتحدة بصورة غير مسبوقة، وهو ما يدفعنا لاستكشاف تلك النزعة المسيحية الصاعدة في خطاب ترامب والحزب الجمهوري، ودلالاتها وتأثيراتها المحتملة على المدى الطويل.
"لا يمكنك أن تكون مسيحيا مخلصا بحق وتصوت للحزب الديمقراطي الذي يدعم أشياء تعارض تماما ما يقوله الكتاب المقدس…، لقد شهدت تلك البلاد صحوة ضد المسيح قادها باراك حسين أوباما وهيلاري كلينتون ونانسي بيلوسي وكامالا هاريس"
حين اجتمع بعض أنصار دونالد ترامب من "مثيري الشغب" في 6 يناير/كانون الثاني 2021 واقتحموا مبنى "الكابيتول" في واشنطن من أجل منع التصديق على نتائج الانتخابات التي فاز بها جو بايدن آنذاك، كانت الرموز المسيحية حاضرة في المشهد بشكل لا يمكن تجاهله، إذ صلى مثلا أحد الحاضرين في مبنى مجلس الشيوخ قائلا: "حمدا للرب الذي ملأ هذه الغرفة بالوطنيين المحبين للمسيح"، كما رفع أحدهم لافتة يظهر فيها يسوع مرتديا قبعة "ماغا"، الشعار الشهير لحملة ترامب الذي يرمز إلى عبارة "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى".
كان ذلك المشهد مجرد علامة على المدى الذي بلغه تحالف الرئيس ترامب مع الإنجيليين البيض بحلول نهاية ولايته الأولى. المفارقة هنا أن ترامب لم يُعرف قبل دخوله المعترك السياسي بأنه كان شخصا متدينا قط، بل على النقيض تماما، فشخصيته التي عرفها المجتمع الأميركي كانت تناقض العديد من القيم المسيحية الظاهرة، إذ كثيرا ما يستخدم الألفاظ النابية، ولديه قدر غير قليل من الفظاظة في وصف خصومه، كما أن بعض الممارسات في حياته الشخصية تناقض النصوص والمبادئ المسيحية كما ينقل تقرير لصحيفة الغارديان.
غير أن ترامب استطاع من خلال العلاقات العامة أن يعزز علاقاته مع القادة الكبار في الحركة الإنجيلية ويقنعهم بأن الامتيازات التي سيحصل عليها الإنجيليون في عهده ستكون غير مسبوقة، ومن ثم قدم ترامب نفسه للمجتمع المسيحي بوصفه رجلا يرتكب المعاصي، لكنه أيضا جزء من خطة الرب لإنقاذ الولايات المتحدة وإعادتها إلى مسارها المسيحي الغربي القويم، وهكذا بدأ القادة المسيحيون يقدمونه لجمهورهم بوصفه أشبه بالملوك في العهد القديم الذين لم يكونوا مؤمنين بشدة، لكن الله يسر لهم أمرهم لينقذوا المؤمنين فكانوا أداة في خطة الرب.
آتت هذه الدعاية ثمارها على ما يبدو، ونجحت في جذب كتلة لا بأس بها من أصوات المتدينين لصالح ترامب، الذي كان بالنسبة إليهم خيارا أفضل حالا من منافسته آنذاك هيلاري كلينتون. وخلال ولاية ترامب الأولى، منح الرئيس المسيحيين الإنجيليين امتيازات فائقة، على رأسها تغيير تركيبة المحكمة العليا التي أصبح غالبية أعضائها من القضاة المحافظين بنسبة 6-3، كما دأب ترامب على استقبال رجال الدين الإنجيليين وقادة الطائفة الإنجيلية في البيت الأبيض بشكل أسبوعي لأداء الصلاة، كما أنه عيّن في إدارته رجالا عُرفوا بتمسكهم الشديد بالتعاليم المسيحية، مثل نائبه مايك بنس، ووزير خارجيته مايك بومبيو الذي أنشأ لجنة فيدرالية عرفت حقوق الإنسان على أساس أنها "الحقوق الطبيعية المستمدة من الله".
وأخيرا، اتخذ ترامب في ولايته الأولى موقفا شديد الجرأة بنقل السفارة الأميركية للقدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، وهي مسألة مهمة للغاية بالنسبة للإنجيليين الذين يعتقدون أن سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية هي تمهيد أساسي لعودة المسيح.
وفق جميع الاعتبارات الممكنة، كانت ولاية ترامب الأولى حقبة ذهبية للمسيحيين الإنجيليين، فيما لم يخجل الرئيس في التعبير بصراحة عن ذلك التوجه عمدا بالعديد من الطرق. ففي عام 2020، وبينما كان العملاء الفيدراليون يفضّون تظاهرات المطالبين بالمساواة العرقية إثر حادثة مقتل جورج فلويد، خرج دونالد ترامب ملوحا بالإنجيل أمام كنيسة قريبة، في إشارة رمزية إلى التزاوج بين المسيحية والحكم في إدارته. وقد استمر ترامب في حصد ثمار هذا التزاوج حتى في انتخابات 2020 التي خسرها أمام بايدن، التي حصل خلالها ترامب على 84% من أصوات الإنجيليين البيض.
والغريب أن ذلك "البريق" المحافظ استمر في اللمعان حتى بعد رحيله عن السلطة، خاصة في الولايات الجمهورية، كما ظهر مثلا في استشهاد رئيس المحكمة العليا في ولاية ألاباما بالله في حكم تاريخي في فبراير/شباط الماضي أعلن فيه أن الأجنة المجمدة لديها نفس حقوق الأطفال، ومطالبة ولاية أوكلاهوما المدارس العامة بتدريس الكتاب المقدس، في خلط غير معتاد في أميركا بين التعليم الديني والتعليم العام، وهو مزج يوافق هوى أقلية، تتزايد قوتها باستمرار في أميركا، باتت ترى حتمية إلغاء الفصل بين الكنيسة والدولة، وتقديم تعاليم الكتاب المقدس على إرادة الشعب حال تعارض الأمران.
لكن يظل إنجاز ترامب الديني الأكبر، وهو إنجاز حدث للمفارقة بعد مغادرته للسلطة أيضا، هو قرار المحكمة العليا في عام 2022، بأغلبية قضاتها المحافظين الذين عينهم ترامب خلال ولايته، بإسقاط حكم تاريخي يقضي على نصف قرن من الحماية الدستورية للإجهاض في قضية "رو ضد وايد" الشهيرة، ما يفتح الطريق أمام كل ولاية أميركية لسنّ تشريع خاص بها للسماح بالإجهاض أو حظره، ويُعتقَد أن نحو 26 ولاية سوف تتجه لحظر الإجهاض قطعا أو ترجيحا.
لكن الجرعة الدينية خلال ولاية ترامب الأولى بأسرها تتضاءل بما أظهره الرئيس المنتخب خلال حملته الانتخابية الأخيرة، بما يشي أن النزوع المسيحي في ولاية ترامب الحالية مرشح بشدة للتصاعد، ولا أدل على ذل ....