في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي فوجئ العالم بهجوم إسرائيلي على المفاعل النووي العراقي، الذي أسفر عن تدمير المشروع بشكل كامل بعد سنوات طويلة من العمل عليه وإعادته إلى نقطة الصفر.
واليوم تهدد إسرائيل البرنامج النووي الإيراني بمصير نظيره العراقي وهو أحد الأسباب الرئيسية للتوتر في المنطقة منذ عقود، ولكن في المقابل استطاع البرنامج النووي الباكستاني بعد كثير من المخاطر أن ينجو من الهجمات الإسرائيلية، التي اقترب بعضها من المفاعل النووي في كاهوتا القريبة من الحدود الهندية، وكاد أن يدمر المشروع 706.
فما قصة هذا المشروع؟ وكيف تمكن الباكستانيون من إفشال مخططات الإسرائيليين لتحقيق هدفهم؟
بدأت باكستان اهتمامها بالعلوم والمعارف النووية منذ أواخر عام 1948 بعد عام واحد عن استقلالها وانفصالها عن الهند، وذلك عندما انتقل عدد من العلماء الباكستانيين من الهند بناء على طلب رئيس الوزراء لياقت علي خان.
وكان من أبرز هؤلاء العلماء رافي محمد تشودري الذي أسس مختبر التوتر العالي في 1952، وفي العام التالي أطلق الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور برنامج "الذرة من أجل السلام"، وكانت باكستان من أوائل الدول التي وقعت على المعاهدة المتعلقة به، رغم أن وزير خارجيتها آنذاك محمد ظافر الله خان صرح بأنه لا توجد نيّة باكستانية تجاه امتلاك القنبلة الذرية.
وفي عام 1956، تأسست الهيئة الباكستانية للطاقة الذرية "بي إيه إي سي" (PAEC)، وكان نذير أحمد أول رئيس لها، وفي عام 1958 اقترحت هيئة الطاقة الباكستانية إنشاء مفاعل نووي يعمل بالماء الثقيل، لكن الحكومة العسكرية حينها بقيادة المشير أيوب خان رفضت هذا المقترح.
وعقب الحرب الباكستانية الهندية -التي اشتعلت عام 1971، وأسفرت عن انفصال بنغلاديش عن باكستان وتولي ذو الفقار علي بوتو رئاسة الحكومة- فقد شرع في العام التالي مباشرة تطوير البرنامج النووي الباكستاني وتسريع خطواته، ولا سيما حين علمت المخابرات الباكستانية أن الهند على وشك تطوير قنبلة نووية.
وقد انبثقت هذه الجهود عن مشروع 706، وهو المشروع الذي يمثل البرنامج الباكستاني السري والمركزي لتطوير الأسلحة النووية، وقد تولى تنفيذ هذا البرنامج علماء بارزون مثل منير أحمد خان و عبد القدير خان الذي سيُوصف فيما بعد بـ"أبو القنبلة النووية الباكستانية".
وشهد هذا المشروع جهدا علميا ضخما وتطورا مستمرا في الفترة ما بين عامي 1974 حتى 1983، وتزامن ذلك مع تحركات سياسية داخلية حيث تولى الجنرال محمد ضياء الحق السلطة بعد انقلاب عسكري أطاح بحكومة بوتو وهو ما أدى إلى تسريع هذا البرنامج.
وأسفر المشروع عن إنشاء العديد من المراكز والمنشآت البحثية والإنتاجية النووية التي عملت في سرية تامة، وبالفعل تحقق نجاح أول اختبار بارد لجهاز نووي في 11 مارس/آذار 1983، ونال العلماء والضباط العسكريون الذين شاركوا فيه تقدير الحكومة الباكستانية عبر منحهم أوسمة مدنية رفيعة تقديرا لجهودهم في تحقيق هذا الإنجاز الإستراتيجي المهم.
واعتبرت مجلة "تايم" الأميركية أن مشروع 706 بمثابة المكافئ لمشروع مانهاتن الأميركي لإنتاج القنبلة النووية في الأربعينيات من القرن الـ20، نظرا للحجم الهائل من البحث والتطوير الذي شهدته باكستان في هذا المجال.
أدركت الحكومة الباكستانية اهتمام الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ووكالات استخبارات دولية أخرى بهذا البرنامج، فجعلت مواقع المنشآت النووية في سرية مطلقة وتحت حراسة مشددة.
ووفقا لبعض العسكريين الباكستانيين مثل العميد امتياز أحمد، فإن الولايات المتحدة كانت لديها معلومات استخباراتية على الأرض في باكستان، وفي المقابل نجحت الاستخبارات الباكستانية في اعتقال عدد من الجواسيس الأميركيين والسوفيات وذلك عام 1976.
وأشار أحمد في مقابلة صحفية إلى تنفيذه شخصيا عملية سرية عام 1979، التي تم فيها إحباط خطة لوكالة المخابرات المركزية لاستهداف العلماء والمهندسين المرتبطين بالبرنامج النووي الباكستاني، وأسفرت العملية عن اعتقال مهندس نووي باكستاني اسمه رفيق صافي مونشي، كان يُشتبه في محاولته نقل وثائق سرية إلى القنصلية الأميركية بكراتشي.
وفي العام نفسه، قامت الاستخبارات الباكستانية باعتقال السفير الفرنسي في باكستان بول لوغوريريك، وسكرتيره الأول جان فورلوت، بالقرب من منشأة كاهوتا النووية، حيث صودرت منهما كاميرات ومعدات حساسة أخرى، وأشارت وثائق لاحقة إلى أنهما كانا يعملان لصالح وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه).
في تلك الأثناء، كتب رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن إلى نظيرته البريطانية مارغريت تاتشر معبّرا عن مخاوفه بشأن تطوير باكستان لأسلحة نووية، وأشار إلى العلاقات الوثيقة بين إسلام آباد والرئيس الليبي العقيد معمر القذافي الذي كانت تعتبره إسرائيل تهديدا مباشرا لها.
كما حذَّر بيغن تاتشر مما قد يحدث في الشرق الأوسط، وخاصة للرجال والنساء والأطفال في إسرائيل، لا سيما إذا وقعت الأسلحة النووية في أي وقت في أيدي حاكم مطلق مثل العقيد القذافي.
وفي كتابه الصادر عام 2012 بعنوان "أكل العشب، صنع القنبلة الباكستانية"، استعرض العميد السابق في الجيش الباكستاني فيروز حسن خان رحلة باكستان نحو امتلاك الأسلحة النووية، واستوحى عنوان الكتاب من كلمات السياسي الباكستاني ذو الفقار علي بوتو الذي قال "إذا صنعت الهند القنبلة، سنأكل العشب أو أوراق الشجر، حتى لو جعنا، لكننا سنحصل على واحدة خاصة بنا".
وأشار خان في الكتاب إلى أن مخاوف باكستان من هجوم إسرائيلي على منشآتها النووية تصاعدت بسبب حادثة هجوم الطائرات المقاتلة الإسرائيلية من طراز "إف 16" على المفاعل النووي العراقي الذي كان قيد الإنشاء بالقرب من بغداد، وأُطلق عليه اسم أوزيراك، مما عرقل طموحات الرئيس العراقي الراحل صدام حسين النووية بشكل لا رجعة فيه.
وأشار خان في كتابه إلى خطط كانت قد أُعدّت بين الهند وإسرائيل لمهاجمة المنشآت النووية الباكستانية، وخصوصا منشأة تخصيب اليورانيوم والأبحاث في كاهوتا في أوائل الثمانينيات.
كما ذكر تفاصيل مهمة أخرى، إذ اكتشفت الاستخبارات الباكستانية أن سلاح الجو الهندي كان قد بدأ في التخطيط لهجوم على المنشآت النووية الباكستانية، وأجرت الهند خطة مفصّلة حول تنفيذ هجوم مشابه لهجوم أوزيراك ضد باكستان في كلية الحرب الهندية.
وأضاف أن سلاح الجو الهندي نفذ سلسلة من التمارين المتعلقة بهذا التخطيط، بعضها باستخدام طائرات جاكوار المتطورة، وفي غضون ذلك قدمت إسرائيل اقتراحا جديدا يحقّق أهداف نيودلهي.
ووفقا لتلك الخطة كانت الطائرات الإسرائيلية ستقلع من قاعدة تابعة لسلاح الجو الهندي في جامناجار بولاية كجرات، وتعيد التزود بالوقود في مطار فرعي في شمال الهند، وفي المرحلة الأخيرة ستتبع الطائرات مسار جبال الهيمالايا لتجنب اكتشاف الرادار المبكر قبل دخولها المجال الجوي الباكستاني.
وذكر خان أن رئيسة الوزراء الهندية آنذاك أنديرا غاندي وافقت على العملية، لكن الحكومة الأميركية بقيادة الرئيس رونالد ريغان حذرت الهند وإسرائيل من المضي قدما، ولكن يبدو أن سلاح الجو الإسرائيلي تجاهل تلك التحذيرات واقترب بالفعل من الحدود الباكستانية، على أن سلاح الجو الباكستاني كان يقظا ومستعدا لهذا الهجوم المرتقب وأجبر "السرب 11" الباكستاني الطائرات الإسرائيلية على التراجع.