تشير أبحاث جديدة إلى أن تلوث الهواء بالجسيمات الدقيقة يمكن أن يؤدي إلى أشكال مدمرة من الخرف، من خلال تحفيز تكوين كتل سامة من البروتين تدمر الخلايا العصبية أثناء انتشارها في الدماغ.
ويتسبب التعرض للجسيمات الدقيقة (PM2.5) المحمولة جوا في تشوه بروتينات الدماغ وتكوينها كتلا تعرف باسم "أجسام لوي" (Lewy bodies)، والتي تمثل السمة المميزة للخرف الجسيمي (Lewy body dementia)، ثالث أكثر أشكال الخرف شيوعا بعد مرض ألزهايمر والخرف الوعائي.
ووفقا للدراسة المنشورة في مجلة Science، فإن التعرض طويل المدى لهذه الجسيمات الدقيقة - التي يقل قطرها عن 2.5 ميكرومتر - يؤدي إلى تشوه البروتينات في الدماغ، وتحديدا بروتين alpha-synuclein الذي يلعب دورا حيويا في الوظائف الدماغية الطبيعية.
وعندما يتعرض هذا البروتين للتشوه، فإنه يفقد شكله الطبيعي الصحيح (في عملية تسمى misfolding) ويبدأ في الالتصاق ببروتينات أخرى مشوهة مثله. وهذه البروتينات المتشابهة في تشوهها تتجمع معا مكونة كتلا لزجة وسامة، تشبه إلى حد ما كرة من الخيوط المتشابكة بشكل عشوائي. وتتراكم هذه الكتل السامة داخل الخلايا العصبية في الدماغ، حيث تعطل عملها الطبيعي وتمنعها من التواصل مع الخلايا الأخرى، ما يؤدي في النهاية إلى تلف الخلايا وموتها. والأسوأ من ذلك أن هذه الكتل السامة تنتشر من خلية إلى أخرى، مثل سلسلة من الدومينو المتساقط، مما يتسبب في تدمير تدريجي لخلايا الدماغ ويؤدي إلى تطور مرض الخرف.
ولإثبات هذه العلاقة السببية، قام فريق البحث من جامعة جونز هوبكنز بتحليل بيانات 56.5 مليون مريض في برنامج الرعاية الصحية الأمريكي (Medicare)، حيث تتبعوا الحالات الجديدة للخرف الجسيمي بين عامي 2000 و2014. وباستخدام الرموز البريدية للمرضى، تمكن الباحثون من تقدير مستوى تعرض كل مريض لتلوث PM2.5 على المدى الطويل.
وكانت النتائج واضحة: كلما ارتفع مستوى التعرض للتلوث، زادت نسبة الإصابة بالخرف الجسيمي.
ولتأكيد هذه النتائج، أجرى الباحثون تجارب على الفئران، حيث تعرضت مجموعة منها لجسيمات PM2.5 كل يومين لمدة 10 أشهر. وكانت النتائج صادمة، حيث عانت الفئران الطبيعية من موت الخلايا العصبية، وانكماش حجم الدماغ، وتدهور الوظائف الإدراكية. أما الفئران المعدلة وراثيا (التي منعت من إنتاج بروتين alpha-synuclein) فقد ظلت محمية إلى حد كبير من هذه الآثار المدمرة.
والأكثر إثارة للقلق أن البحث أظهر أن الجسيمات الدقيقة لا تسبب فقط تشوه البروتينات، بل تحفز أيضا تكوين كتل بروتينية عدوانية وقوية السمية تشبه إلى حد كبير تلك الموجودة في أدمغة البشر المصابين بالخرف الجسيمي.
ولهذه الاكتشافات تداعيات عميقة على الصحة العامة، كما يؤكد الباحثون. فبينما لا يمكننا تغيير عوامل الخطر التقليدية للخرف مثل العمر والجينات الوراثية، يظل تلوث الهواء عاملا قابلا للتعديل.
وتقول الدكتورة شياوبو ماو، قائدة البحث: "الاستنتاج المباشر هو أن سياسات الهواء النظيف هي في جوهرها سياسات لصحة الدماغ".
ويدعو الباحثون إلى جهود منسقة لتحسين جودة الهواء من خلال خفض الانبعاثات الصناعية وعوادم المركبات، وتحسين إدارة حرائق الغابات، والحد من حرق الأخشاب في المنازل. كما يشددون على أن خفض التعرض الجماعي لتلوث الهواء يمكن أن يقلل بشكل ملموس من عبء الأمراض التنكسية العصبية على مستوى السكان.
وهذه الدراسة لا تعزز فقط فهمنا لآليات تلوث الهواء في إحداث الأمراض التنكسية العصبية، بل تفتح أيضا آفاقا جديدة للوقاية والعلاج.
المصدر: الغارديان