لطالما شكّلت الأتمتة قوةً محركة في التاريخ الاقتصادي منذ الثورة الصناعية الأولى، إذ أسهمت في استبدال العمل البدني بالآلات، غير أن الموجة الحالية من التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي تختلف جذريًا عن سابقاتها.
فبدلًا من التأثير على الوظائف الروتينية أو المنخفضة المهارات فقط، يتوقع الخبراء أن تمتد آثار الذكاء الاصطناعي إلى الوظائف المهنية عالية المهارة، التي تُعد العمود الفقري لاقتصاد المعرفة في القرن الـ21.
وتشير التوقعات إلى أن التغييرات المقبلة ستكون عميقة وغير مسبوقة من حيث نطاقها وتأثيرها.
وسيطال الذكاء الاصطناعي طيفًا واسعًا من الوظائف، ليس فقط عبر أتمتة المهام، بل أيضًا من خلال تعزيز إنتاجية الموظفين وإعادة تعريف الأدوار الوظيفية نفسها.
ويشير تقرير "مستقبل الوظائف 2023" الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن ما يقرب من ربع الوظائف عالميًا، أي نحو 23%، ستشهد تغيرات خلال السنوات الخمس المقبلة.
وفي 45 اقتصادًا تضم 673 مليون عامل، يُتوقع استحداث 69 مليون وظيفة جديدة، في مقابل إلغاء 83 مليون وظيفة، مما يعني انخفاضًا صافيًا قدره 14 مليون وظيفة، أي ما يعادل 2% من إجمالي الوظائف الحالية.
وفي ظل هذه التحولات، يبرز السؤال أو التحدي الأكبر الذي يطرحه الذكاء الاصطناعي على الموظفين في عام 2026: كيف تنقذ وظيفتك في عصر الذكاء الاصطناعي، خصوصًا مع دخول هذه التقنية إلى مختلف المجالات والقطاعات والمهن؟
هذا ما يسعى هذا التقرير إلى الإجابة عنه.
يؤكد تقرير لمعهد ماكينزي العالمي أن الذكاء الاصطناعي، وفقًا لمتوسط مستوى تبنيه واستيعابه عالميًا ومع التقدم المتسارع في تطويره، سيُحدث أثرًا بالغًا في تعزيز النشاط الاقتصادي العالمي بنحو 13 تريليون دولار في المستقبل المنظور. وبحلول عام 2030، يُتوقع أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي التراكمي بنحو 16% مقارنة بالوضع الحالي.
ويذكر التقرير نفسه أنه بحلول عام 2030، ستكون نحو 70% من الشركات قد تبنت ثورة الذكاء الاصطناعي واعتمدت نوعًا واحدًا على الأقل من تقنياته في عملياتها.
وفي السياق ذاته، تؤكد مجلة فوربس أن الذكاء الاصطناعي يمتلك القدرة على أن يكون من بين أكثر التقنيات تأثيرًا على الاقتصادات العالمية على الإطلاق.
أفاد تقرير صادر عن بنك غولدمان ساكس بأن الذكاء الاصطناعي قد يحل محل نحو 300 مليون وظيفة بدوام كامل حول العالم، مع قدرته على أتمتة ما يقرب من ربع مهام العمل في كل من الولايات المتحدة وأوروبا.
ووفقًا للتقرير، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يرفع القيمة السنوية الإجمالية للسلع والخدمات المنتجة عالميًا بنحو 7% على الأمد الطويل. كما يتوقع أن نحو ثلثي الوظائف في الولايات المتحدة وأوروبا ستتأثر بدرجات متفاوتة من الأتمتة، في حين قد تُؤدّى نحو ربع الوظائف بالكامل بواسطة تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وبحسب دراسة لمعهد ماكينزي العالمي، سيتراجع الطلب على الوظائف القائمة على المهام المتكررة والمهارات الرقمية المنخفضة، لتنخفض حصتها من إجمالي العمالة من نحو 40% إلى 30% بحلول عام 2030.
في المقابل، سيزداد الطلب على الوظائف غير المتكررة التي تتطلب مهارات معرفية واجتماعية ورقمية متقدمة، لترتفع حصتها من حوالي 40% إلى أكثر من 50%.
وستنعكس هذه التحولات بشكل مباشر على الأجور، إذ يُتوقع انتقال نحو 13% من إجمالي الأجور إلى فئات الوظائف ذات المهارات الرقمية العالية، مع ارتفاع الدخول فيها، مقابل ركود أو تراجع أجور العاملين في الوظائف المتكررة المنخفضة المهارات، وانخفاض حصتهم من الأجور من 33% إلى نحو 20%.
عودة إلى السؤال الرئيسي، يصبح من المهم جدًا لكل موظف، مهما كان مجال عمله، أن يبدأ فورًا بالتفكير في كيفية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتطوير أدائه والارتقاء بمساره المهني، بدل الاستسلام للخوف أو القلق الذي قد يعيق القدرة على التفكير والتكيف.
ومن الضروري إدراك أن الحد الأدنى من التعامل مع الذكاء الاصطناعي بات متاحًا لمعظم الأفراد، إذ يستخدم كثيرون بشكل يومي هواتف ذكية وتطبيقات تعتمد في جوهرها على تقنيات الذكاء الاصطناعي دون وعي مباشر بذلك.
وفي هذا السياق، يؤكد المنتدى الاقتصادي العالمي أن العاملين بحاجة إلى جهود مكثفة لإعادة تأهيل أنفسهم وتطوير مهاراتهم، بينما يحتاج العاملون في المجالات المتغيرة أو المتنامية إلى رفع مستوى مهاراتهم وتنمية قدرتهم على التعلم المستمر.
ويشير المنتدى إلى أن اكتساب المهارات يمكن أن يتم بسرعة، وأن التعلم عبر الإنترنت يوفر فرصًا متكافئة، إذ يستغرق العاملون من مختلف المستويات التعليمية، بمن فيهم من لم يحصلوا على شهادات جامعية أو دراسات عليا، المدة نفسها لاكتساب شهادات المهارات عبر الإنترنت.
وللبقاء في الصدارة في عصر الذكاء الاصطناعي، أصبح من الضروري على جميع الموظفين تطوير مهارات جديدة والتكيف المستمر مع التحولات المتسارعة في سوق العمل. ووفقًا لجامعة نكسفورد الأميركية، تبرز مجموعة من الإستراتيجيات الأساسية التي تساعد الأفراد على تعزيز قدرتهم التنافسية والحفاظ على وظائفهم والارتقاء بمسارهم المهني، من أبرزها:
يُعد التعلم المستمر حجر الأساس في عصر الذكاء الاصطناعي، إذ يتطلب مواكبة التقنيات الحديثة وأساليب العمل المتطورة، من خلال الالتحاق بالدورات التدريبية، وحضور ورش العمل والمؤتمرات، ومتابعة أحدث الاتجاهات في المجال المهني.
رغم تفوق الذكاء الاصطناعي في تنفيذ المهام الروتينية، فإنه لا يزال عاجزًا عن محاكاة الإبداع البشري والذكاء العاطفي، مما يزيد من أهمية المهارات الشخصية مثل التواصل الفعّال، وحل المشكلات، والعمل الجماعي.
تُعد القدرة على التكيف السريع مع المتغيرات سمة حاسمة في هذا العصر، ويشمل ذلك الاستعداد لاكتساب مهارات جديدة، وتحمل أدوار ومسؤوليات مختلفة، بل والانتقال إلى مسارات مهنية جديدة عند الحاجة.
مع توسع استخدام الذكاء الاصطناعي، يرتفع الطلب على الكفاءات ذات الخبرات المتخصصة، ويسهم التركيز على مجال محدد وبناء معرفة عميقة فيه في تعزيز القيمة المهنية والتميّز في سوق العمل.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة