آخر الأخبار

رحيل المفكر السوداني جعفر شيخ إدريس الذي بنى جسرًا بين الأصالة والمعاصرة

شارك

توفي في العاصمة السعودية الرياض، صباح أمس الجمعة، المفكر الإسلامي السوداني البروفيسور جعفر شيخ إدريس، الذي وافته المنية عن عمر ناهز 94 عامًا، بعد مسيرة علمية وفكرية حافلة امتدت لعقود، أثرى خلالها الساحة الفكرية بجهوده الرائدة في التوفيق بين الأصالة والمعاصرة.

وقد نعت العديد من المؤسسات الإسلامية حول العالم الفقيد، واصفة إياه بالعالِم والداعية الذي جمع بين عمق العلوم الشرعية ودقة الفهم للفلسفة الغربية، وبقي ثابتًا على منهجه المعتدل حتى آخر أيامه.

النشأة والتكوين الفكري

وُلد جعفر شيخ إدريس عام 1931 في مدينة بورتسودان شرقي السودان، لأسرة متدينة تعود جذورها إلى منطقة نوري شمالي البلاد. ونشأ في بيئة علمية، حيث أتمّ حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وتلقى تعليمه النظامي الذي تُوّج بتخرجه في جامعة الخرطوم، وهناك برز نبوغه العلمي وشخصيته القيادية بتوليه رئاسة اتحاد الطلبة.

في خطوة كانت نادرة في ذلك الوقت، انطلق في رحلته الأكاديمية العليا ليحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة عام 1970 من جامعة الخرطوم، بعد دراسة بحثية في جامعة لندن، وكانت أطروحته حول "مفهوم السببية في الإسلام". بهذا الإنجاز، أصبح من أوائل الأكاديميين السودانيين الذين يجمعون بين علوم الشريعة الإسلامية والفلسفة الغربية الحديثة بمنهجية علمية رصينة.

وخلال دراسته الثانوية في مطلع خمسينيات القرن العشرين، انضم إلى حركة التحرير الإسلامي، وكان عضوًا نشطًا في صفوفها، يلقي الدروس والمحاضرات في مواجهة المد الفكري الشيوعي آنذاك، مما يجعله من الجيل المؤسس للحركة الإسلامية السودانية. هذا المزج المبكر بين النشاط الدعوي والعمق الفلسفي شكّل ملامح مشروعه الفكري فيما بعد.

مسيرة أكاديمية عابرة للقارات

بدأ البروفيسور جعفر شيخ إدريس مسيرته في التدريس الجامعي أواخر الستينيات، متنقلا بين مؤسسات علمية مرموقة. عمل مدرسًا للفلسفة في جامعة الخرطوم بين عامي 1967 و1973، ثم انتقل إلى المملكة العربية السعودية حيث عمل أستاذًا بقسم الثقافة الإسلامية في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود حاليًا)، قبل أن ينضم إلى هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.

إعلان

في جامعة الإمام، تقلّد عدة مناصب علمية، ودرّس مواد العقيدة الإسلامية والمذاهب المعاصرة، وأسهم في تأسيس مركز البحوث بالجامعة. تدرج في مسيرته حتى أصبح من أبرز أساتذتها، وأشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه. وقد تقاعد من العمل الأكاديمي الرسمي في جامعة الإمام عام 1997، بعد مسيرة حافلة امتدت 30 عامًا.

ولم يقتصر عطاؤه على العالم العربي، بل امتد إلى الغرب، حيث تولى إدارة معهد العلوم الإسلامية والعربية في ولاية فرجينيا بالولايات المتحدة، التابع لجامعة الإمام، وشغل منصب مدير قسم البحث العلمي ثم مستشارًا للمعهد في التسعينيات.

وفي خطوة رائدة، أسس مع نخبة من العلماء الجامعة الأميركية المفتوحة في واشنطن عام 1995، وأصبح رئيس مجلسها التأسيسي، بهدف نشر المعرفة الإسلامية بأساليب التعليم عن بُعد. كما عمل مستشارًا للعديد من المراكز الإسلامية حول العالم، مما يعكس مكانته الدولية كمرجع فكري وتربوي.

حوار العقل والإيمان

امتاز البروفيسور جعفر شيخ إدريس ببصمة فكرية فريدة، تمثلت في قدرته الفائقة على الربط بين الفلسفة الغربية ومفاهيم العقيدة الإسلامية بلغة عقلانية سلسة. وقد ساعده على ذلك إتقانه التام للغتين العربية والإنجليزية، مما جعله قادرًا على مخاطبة العقول الغربية بمنطقها ولغتها دون التنازل عن ثوابت العقيدة.

ركّز في طرحه الفكري على مركزية التوحيد وتنقية العقيدة من الشوائب، وعُرف بنقده الموضوعي والهادئ للتيارات الإلحادية والعقلانية المتطرفة، مؤمنًا بضرورة مواجهة موجات التغريب بالفكر العميق والحوار الرصين بدلًا من الشعارات. وأسهمت مقالاته وأبحاثه في ترشيد الخطاب الإسلامي، داعيا إلى تقديم الإسلام بصورة تتناسب مع العصر الحديث، مما أكسبه لقب "صوت العقل الإسلامي" لدى محبيه وتلاميذه.

ترك البروفيسور جعفر شيخ إدريس إرثًا علميًّا كبيرًا من الكتب والبحوث التي أثرت في أجيال من المفكرين. وتميزت مؤلفاته بالإيجاز والتركيز على الأطر الفكرية العامة.

من أبرز كتبه باللغة العربية: "الفيزياء ووجود الخالق"، "نظرات في منهج العمل الإسلامي"، و"الإسلام لعصرنا". وباللغة الإنجليزية، ألف كتبًا مهمة منها: (The Pillars of Faith) "أعمدة الإيمان"، و"Islamization: Its Philosophy & Methodology) "أسلمة المعرفة: فلسفتها ومنهجيتها".

ويُعدّ من أوائل من كتبوا في موضوع "أسلمة العلوم" خلال السبعينيات، حيث قدم أوراقًا تأسيسية أصبحت مرجعًا لمن جاء بعده. وقد تتلمذ على يديه عدد كبير من الطلاب والباحثين الذين يحملون فكره اليوم في أنحاء العالم.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار