آخر الأخبار

الشهرة المبكرة: كيف ينجو الأطفال النجوم من آثارها النفسية والاجتماعية "بلا غطاء قانوني"؟

شارك
مصدر الصورة

قبل عشر سنوات، تابعتُ برنامجاً للمواهب الغنائية للأطفال. شدّني طفل صغير، وجهه بريء، صوته صافٍ، وملامحه تشي بالثقة والالتزام.

غنّى أمام الجمهور حينها، وكأنه وُلد تحت الأضواء، ظننته يومها مثالاً للموهبة التي تنمو في بيئة سليمة.

لكن قبل أيام، صادفت حسابه على "إنستغرام"، وبالكاد تعرّفت إليه؛ بدا شاباً غريب المظهر، عيناه ذابلتان، على ذراعيه وشوم، وفي رقبته ومعصميه سلاسل ملوّنة، يتلقى سيلًا من التعليقات القاسية، لمّحت بعضها إلى "اضطرابٍ" ما.

لم يبقَ من ذلك الطفل القديم سوى الصوت، الصوت وحده، وكأنه آخر ما نجا به من سنواته الأولى.

دفعتني هذه الصدفة لأن أبحث عن أطفال آخرين شاركوه تلك التجربة، وقد أصبحوا اليوم مراهقين.

وجدت بعضهم متّزنين في هيئتهم ونضجهم، ينمّون موهبتهم بوعيٍ وهدوء، على النقيض من ذلك الشاب الذي كان يوماً نجماً صغيراً.

منذ تلك اللحظة، بدأت أراقب وجوه الأطفال الذين يطلّون حتى في المسلسلات الجماهيرية، أو الإعلانات الرقميّة؛ وجوه صغيرة تتصدر الشاشات، وتُجرى معها المقابلات كأنهم نجوم.

لكن خلف هذا البريق، يبرز سؤال: هل يدرك هؤلاء الصغار - ومن حولهم - ثمن الأضواء؟

في ثنايا هذا المقال، حكاية واحد من أشهر الأطفال الذين عرفهم الجمهور، وهي حكاية تكشف ما لا تلتقطه الكاميرات؛ إنها قصة جورج عاصي، الوجه "الأجمل" للشهرة المبكرة.

حاولت خلال حديثي مع عاصي البحث عن إجابات لأسئلة عديدة: كيف تُعيد الشهرة المبكرة تشكيل شخصية الطفل وعلاقاته؟ وهل يمكن لطفل أن يحافظ على طفولته وهو يواجه جمهوراً يقدّر الموهبة أكثر من الإنسان نفسه؟.

"سلوكيات تمرد وعزلة تخفي أثراً نفسياً أعمق"

مصدر الصورة

تنبّه أسماء طوقان، الاختصاصية النفسية للأطفال والمراهقين، من الآثار النفسية العميقة التي تتركها الشهرة المبكرة على الأطفال عندما يصبحون في مرحلة المراهقة أو الشباب، مؤكدة أن كثيراً من هذه الآثار لا تظهر بشكل مباشر، بل تتخفّى خلف سلوكيات وتمردات قد تُفسَّر خطأً على أنها "مشاكل مراهقة عادية".

وتوضح طوقان في حديثها مع بي بي سي، أن الطفل الذي يكون تحت الأضواء في سن صغيرة يواجه تحديات طويلة المدى في بناء هويته واستقلاليته.

"بعض المراهقين الذين عاشوا تجربة الشهرة يميلون للتمرد أو العزلة أو المبالغة في لفت الانتباه، مع حساسية عالية تجاه النقد وصعوبة في بناء هوية مستقرة"، بحسب طوقان.

وتضيف أن الطفل الذي يكبر في وسط فني يعتاد على تقييم ذاته بناء على تفاعل الجمهور، وليس على إحساسه الداخلي بقيمته، ما يجعله أكثر عرضة للقلق وتزعزع الثقة بالنفس وتقلبات المزاج مع بداية الاندماج في الحياة الواقعية بعيداً عن الأضواء.

"فراغ ما بعد الشهرة": المرحلة الأصعب

مصدر الصورة

وفي ما يتعلق بالانتقال من "الطفل النجم" إلى "الشاب العادي"، تؤكد طوقان أن هذه المرحلة تُعد الأخطر، وتقول: "هذا الانتقال قد يصنع صدمة نفسية، لأن الشاب ينتقل من عالم ممتلئ بالاهتمام إلى حياة عادية لا تمنحه القدر نفسه من الضوء".

وتشير إلى أن كثيراً من هؤلاء الشباب يمرّون بما تسميه "فراغ ما بعد الشهرة"، وهو شعور بالفقد واللاجدوى، ويدفع المراهق إلى التساؤل: "من أنا اليوم بدون كل هذا الضوء؟".

وتضيف: "عندما لا يجد الشاب دعماً حقيقياً، قد تظهر مشكلات مثل الاكتئاب والقلق أو التعلق المرضي بالماضي ومحاولة استرجاع الأضواء بأي طريقة".

وتشدد الاختصاصية النفسيّة على أن الأسرة تتحمل دوراً محورياً بعد انحسار الشهرة عن الطفل، من خلال "تشجيع الطفل على الاندماج في الرياضة والتطوع والأنشطة الجماعية، وتكوين صداقات خارج الوسط الفني".

كما دعت إلى مراقبة المؤشرات التي قد تنذر بوجود أزمة نفسية، مثل: الانسحاب الاجتماعي، اضطرابات النوم أو الشهية، تقلبات المزاج الحادة، سلوك مبالغ في لفت الانتباه، مقارنة مستمرة بين "أنا قبل" و"أنا الآن".

وتؤكد طوقان أن أخطر ما يمكن أن تفعله الأسرة هو دفع الطفل لإعادة تجربة الشهرة لإحياء نجاحات الماضي، مشددة على أن "الأولوية يجب أن تكون لصحة الطفل، وليس لاستمرار صورته السابقة".

وتختم بالتأكيد على أهمية الحوار المفتوح مع الطفل أو المراهق، قائلة: "من الطبيعي أن يشعر بالفراغ أو التغيير. الأهم أن نمنحه مساحة آمنة للتعبير، وفي بعض الحالات يكون اللجوء للمعالج النفسي خطوة ضرورية لا تعني الضعف، بل وسيلة لحماية الطفل من تراكم مشاعر لا يستطيع التعبير عنها".

قصة جورج: الوجه الآخر للشهرة المبكرة

مصدر الصورة

بعد سنوات من ظهوره في "ذا فويس كيدز" بعمر لا يتجاوز الثانية عشرة، لا يزال الشاب اللبناني جورج عاصي ينظر إلى تلك المرحلة كمدرسة شكّلت شخصيته الفنية، لكنها في الوقت نفسه حملت تحديات نفسية واجتماعية شبيهة بتلك التي يعيشها الأطفال الذين يدخلون مبكراً عالم الشهرة.

جورج، الذي يتابع اليوم دراسته الجامعية في مجال التسويق، يتحدث لبي بي سي مستذكراً تلك التجربة بوصفها نقطة انطلاق صنعت بداياته، لكنها فرضت عليه أيضاً مسؤوليات لم تكن سهلة في هذا العمر.

يتذكّر اللحظة الأولى التي واجه فيها جمهوراً واسعاً، ويصفها بأنها كانت مزيجاً من الرهبة والاكتشاف.

فبينما بدا الأمر في بدايته "صعباً وغير مألوف"، كما يقول، إلاّ أنه تعلّم سريعاً كيف يحوّل التوتر إلى طاقة إيجابية. ومع توالي الوقوف على المسرح، بدأت الثقة بالنمو، لتصبح تلك المرحلة لاحقاً "تجربة لا تُنسى" ساهمت في نضجه المبكر.

ورغم النجاح الفني، حافظ جورج على تحصيل أكاديمي جيّد جداً، ما سهّل لاحقاً انتقاله للحياة الجامعية بعيداً عن ضغط الهوية الفنية التي التصقت به منذ طفولته.

ويشير إلى أن مرحلة المراهقة حملت معها تغييراً طبيعياً في صوته، وهو ما دفعه إلى اتخاذ قرار بالابتعاد قليلاً عن الغناء. ولم يكن الأمر انسحاباً بقدر ما كان محاولة لإعادة تنظيم الأولويات على حد وصفه.

ويقول جورج إن صوته كان "ينضج ويتغيّر"، لذلك اختار منح نفسه الوقت الكافي، والتركيز على دراسته كي يعود لاحقاً بخطوة أكثر ثباتاً، وهو خيار يعكس أيضاً الحاجة لالتقاط الأنفاس بعد ضوءٍ بدأ في عمر مبكر.

اليوم، يُطلق جورج أغنيته الخاصة الأولى بعنوان "يا قمر"، التي تجاوزت المليون مشاهدة على يوتيوب خلال شهر واحد، ويظهر فيها شاباً يافعاً أكثر اتزاناً، كما أراد لنفسه أن يكون.

ويكشف جورج أن أحد التحديات النفسية التي رافقته بعد البرنامج هو محاولة التحرر من الصورة القديمة التي بقيت راسخة لدى الجمهور، ويعترف بأنه واجه مواقف شعر فيها بأن البعض ما زال ينظر إليه كـ"الطفل الذي عرفوه"، لكنه يرى في ذلك جانباً إيجابياً، لأنه يعكس محبة لم تُمحَ رغم السنوات.

ولإعادة تقديم نفسه، لجأ إلى نشر محتوى يُظهر التطوّر الذي شهده، قائلاً إنها خطوة ساعدت الناس على "التعرّف إلى صورته الحالية"، ما فتح أمامه مساحة أوسع للتواصل مع الجمهور كشاب لا كطفل.

أما العائلة فتبقى الركيزة الأساسية في مسيرته، إذ رافقته منذ دخوله تجربة البرنامج وحتى اليوم.

ويصف دعمهم بأنه كان عاملاً حاسماً في تخفيف ضغوط الشهرة والتوقعات، مؤكداً أنهم وقفوا إلى جانبه "من البداية حتى الآن"، وهو ما ساعده على عبور مراحل حساسة من دون صدمات كبيرة.

"لا سياسات واضحة تحمي الأطفال"

مصدر الصورة

بين غياب السياسات الواضحة واتساع نفوذ المنصات الرقمية، يجد الأطفال المشاركون في البرامج الفنية أو المسلسلات أنفسهم معرّضين لمخاطر لا يدركونها، كما يبرز سؤال ملحّ حول قدرة المؤسسات على حماية الصغار من تبعات الظهور الإعلامي.

في هذا السياق، تحذر نادين نمري، مديرة الإعلام والمناصرة في مؤسسة إنقاذ الطفل في الأردن، من اتساع الفجوة التشريعية والمؤسسية في العالم العربي فيما يتعلق بحماية الأطفال المشاركين في البرامج الفنية أو المسلسلات أو المحتوى الرقمي، مؤكدة أن الشهرة المبكرة قد تتحول إلى عبء نفسي واجتماعي يهدد مستقبل الأطفال ما لم تُعالج هذه الثغرات بشكل جاد.

وتوضح نمري في حديثها لبي بي سي أن المؤسسات الإعلامية في معظم الدول العربية تستند إلى مواثيق عامة مثل ميثاق الشرف الصحفي، لكنها تفتقر إلى سياسات واضحة ومحدَّثة تنظم آليات التعامل مع الأطفال خلال التصوير والإنتاج وإدارة الشهرة الرقمية.

وتضيف أن غياب هذه السياسات يدفع الجهات الإعلامية للاعتماد على قوانين غير مخصصة لهذا المجال، مثل قانون الجرائم الإلكترونية، ما يفتح الباب لاختراقات خطرة.

وترى أن التشريعات العربية الحالية توفّر حماية جزئية فقط، خاصة في ما يتعلق بالاستغلال الجنسي عبر الإنترنت، على سبيل المثال، لكنها لا تمتد لتغطية أشكال الشهرة الرقمية الجديدة. كما تشير إلى أن مشاركة الأطفال في الإعلانات أو المحتوى المدفوع عبر منصات التواصل لا تزال مناطق رمادية قانونياً.

هنا، بحثنا في معظم القوانين العربية المتخصصة بحماية الطفل، لكن النتائج أظهرت أن معظمها يفتقر إلى إطار واضح ينظم ظهور الأطفال إعلامياً، ما يجعلهم عرضة للاستغلال والضغط النفسي.

تقول نمري: "ظهور الطفل في محتوى تجاري مع أسرته أو كـ"مؤثر صغير" يحتاج إلى مراجعة واضحة: هل يُعد ذلك شكلاً من عمالة الأطفال؟ وهل يؤثر على دراسته أو يعرضه للتنمر أو لانتهاك الخصوصية؟".

وترى النمري أن الدولة تتحمل المسؤولية الكبرى في حماية الطفل المشهور، قائلة: "نحتاج لأطر تشريعية وخطط وطنية للسلامة الرقمية، ورفع وعي الأهالي، وتضمين مفاهيم الحماية في المناهج، لضمان ألا يتحوّل الأطفال إلى سلعة إعلامية".

قد تبدو التجربة في جوهرها نفسية – اجتماعية أكثر مما هي قانونية، ورغم أننا لا نملك القدرة على إطفاء أضواء العالم، يمكننا على الأقل خفض سطوعها قليلاً كي يرى الأطفال طريقهم بوضوح.

فكل طفل لمع أمام كاميرا أكبر من حجمه، يستحق أن يعود في المساء إلى حياته البسيطة: إلى لعبته المفضلة، وغرفته غير المرتبة، وإلى ضحكة لا تحتاج جمهوراً ليصفّق لها.

وإن كان بعض الأطفال قد خرجوا من الشهرة مثقلين، فإن آخرين - مثل جورج - يثبتون أن الطريق لا ينتهي بانطفاء الكاميرات، بل ربما يبدأ هناك.

في النهاية، لعل أجمل نصيحة تُقال: كونوا أطفالاً، والباقي يأتي لاحقاً، أما النجومية؟ فيمكنها أن تنتظر قليلاً، فهي لا تهرب.

بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار