آخر الأخبار

القلعة الحمراء في الهند: قصة القلعة التي يجري فيها نهر "الجنة"

شارك
مصدر الصورة

شهدت العاصمة الهندية دلهي مؤخراً انفجاراً كبيراً وقع بالقرب من القلعة الحمراء، والتي تُعرف أيضاً بالقلعة المباركة أو لال قلعة، والتي تقع في قلب دلهي القديمة، وهي أحد أهم الرموز التاريخية في البلاد، فضلاً عن أنها من أبرز مواقع الهند التراثية.

فقد انفجرت سيارة في منطقة مكتظة بالسكان ملاصقة لأسوار القلعة، وهو انفجار نادر الحدوث في مدينة تخضع لتشديدات أمنية عالية وتضم أكثر من 30 مليون نسمة.

وأسفر الانفجار في لحظاته الأولى عن مقتل ثمانية أشخاص وإصابة عشرين، ثم أعلنت السلطات بعد يومين أن الحصيلة النهائية بلغت 12 قتيلاً وأكثر من 30 جريحاً، بعد أن فارق عدد من المصابين الحياة متأثرين بجراحهم.

ووصف رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي الحادث بأنه "مؤامرة"، فيما أكدت الحكومة رسمياً أنه حادث إرهابي نفذته قوى معادية للوطن، ليكون أول هجوم تتعرض له دلهي منذ عام 2011.

وأعلنت أجهزة الأمن حالة تأهب قصوى في أنحاء البلاد، وخصوصاً في محطات القطارات والطرق الرئيسية، بينما تولى جهاز مكافحة الإرهاب التحقيقات الميدانية في المنطقة المحيطة بالقلعة.

تاريخ القلعة

مصدر الصورة

جاء هذا الانفجار ليعيد إلى الواجهة المكانة الرمزية والتاريخية للقلعة الحمراء التي تُعد قلب العاصمة التاريخية القديمة، ومعلماً معمارياً يجسد الثراء الثقافي والفني للعصر المغولي، ليس ذلك فحسب فالقلعة الحمراء حاضرة دائماً في ذاكرة الهند الوطنية، ومركز الاحتفال السنوي بعيد الاستقلال، ومنصة خطاب رئيس الوزراء في 15 من أغسطس/ آب من كل عام.

وقد بُنيت القلعة في منتصف القرن السابع عشر على يد الإمبراطور شاه جهان، خامس أباطرة المغول، الذي أراد نقل العاصمة من أغرا وإنشاء عاصمة جديدة تحمل اسم شاهجهان آباد، وتعكس قوة الإمبراطورية وثراءها، وذلك بحسب ما ورد في موقع اليونسكو عن القلعة.

وقد أقام شاه جهان المدينة الجديدة في موقع دلهي القديمة على ضفاف نهر يامونا، وبدأت عملية البناء في عام 1638 واستغرقت نحو 10 سنوات، وامتدت على مساحة 246 فداناً. ووفقاً للأسطورة، قد يكون تشييد القلعة الحمراء استُلهم من حلمٍ راود الإمبراطور شاه جهان، ظهرت فيه شارة مملكته فوق حصنٍ مهيب.

وسُمّيت القلعة بالحمراء نسبةً إلى أسوارها الضخمة المشيدة من الحجر الرملي الأحمر والتي تمتد بطول 2.4 كيلومتر، والتي يمكن رؤيتها من مسافات بعيدة، نظراً لارتفاعها الذي يبلغ نحو 23 متراً، ولم تشكل هذه الأسوار حاجزاً دفاعياً كبيرا فقط، بل حافظت في الوقت نفسه على طابع جمالي واضح، إذ دمج المهندسون بين الهندسة الدفاعية والإبداع الزخرفي الذي عُرف به الفن المعماري المغولي.

وللقلعة بوابتان رئيسيتان الأولى هي بوابة لاهوري وهي المدخل الرئيسي المواجه للاتجاه نحو لاهور، والثانية بوابة دلهي التي كانت تُستخدم عادة في الزيارات الرسمية، وهناك أيضاً بوابات أصغر ولكنها أقل شهرة مقارنة بالبوابتين الرئيسيتين.

ولم يكن المشروع مجرد حصن دفاعي، بل مُجمّعاً ملكياً متكاملاً يضم القصور والحدائق والحمامات وقاعات الاستقبال ومساحات واسعة للاحتفالات، مما جعلها نموذجاً فريداً للجمع بين القوة العسكرية والفخامة المعمارية.

ويجاور القلعة حصن ساليمجاره الأقدم تاريخياً، والذي بُني عام 1546 في عهد إسلام شاه سوري، وقد جرى دمج الموقعين لاحقاً في مجمّع واحد بات يُعرف اليوم بمجمع القلعة الحمراء.

ويُعتقد أن أستاذ أحمد لاهوري، كبير معماريي شاه جهان والعبقري الذي ابتكر تصميم تاج محل، كان هو المصمّم الرئيسي للقلعة، والحجر الرملي الأحمر المستخدم في البناء هو نفسه الحجر الذي اختاره الإمبراطور أكبر، جد شاه جهان الأكبر، لعاصمته العظيمة في فاتحبور سيكري، والذي استُخدم أيضاً في بناء قلعة المغول في أغرا، وكما هو الحال في هذين المعلمين القديمين، استخدمت القلعة الحمراء في دلهي الرخام الأبيض بكثرة في المباني الداخلية.

وبعد وفاة شاه جهان، أضاف الأباطرة المغول اللاحقون تعديلات على القلعة، وأجروا توسعات على الممرات والقصور الداخلية وظلوا يستخدمونها مقراً لحكمهم لنحو 200 عام حتى نهاية عهد الإمبراطور المغولي بهادر شاه ظفر عام 1857.

القلعة من الداخل

مصدر الصورة

من الخارج، لا تدعك الأسوار الشاهقة والمرتفعات المتعرجة والبوابات المحصنة تشك لحظة في أن هذا البناء صُمم لصد الهجمات، لكن في الداخل، تحكي العمارة قصة مختلفة تماماً، فقد شُيدت بعضٌ من أرقى وأجمل المباني في العالم ذلك الوقت من أجل الإمبراطور وزوجاته وأطفاله وحاشيته وخدمه، وهي مجموعة تعد بالآلاف، عاش معظمها في رفاهية لا تُصدَّق وسط السجاد الحريري والفنون البديعة.

ويمثل تخطيط القلعة الحمراء وعمارتها ذروة تطور الفن المغولي الذي بدأ منذ القرن السادس عشر مع بزوغ الإمبراطورية المغولية في الهند، وتطور عبر أجيال حتى بلغ قمّته في عهد شاه جهان.

وقد انعكس هذا التطور في المزج المدهش بين التقاليد المعمارية المتنوعة، فالمهندسون جمعوا بين الفنون الإسلامية والفارسية والتيمورية والهندية في بناء واحد، ليقدموا نموذجاً معمارياً متطوراً ومبتكراً أثّر لاحقاً في تصميم القصور والحدائق في مناطق راجستان ودلهي وأغرا وغيرها، وقد أصبح تخطيط القلعة ومعاييرها الجمالية نموذجاً يحتذيه المعماريون في أنحاء الهند.

وتبرز الأجنحة الخاصة التي شيّدها شاه جهان باعتبارها مزيجاً بين الرشاقة الهندسية والزخارف الفاخرة، وقد ربطت هذه الأجنحة قناة مائية داخلية عُرفت باسم نهر بهشت (نهر الجنة) يصلها الماء من خلال نهر يمونا، في تصميم مستوحى من وصف أنهار الجنة في التراث الإسلامي، مما منح المكان نضارة وجمالاً.

وتُظهر اللوحات المصغّرة من تلك الحقبة الموسيقى والرقص والشعر الذي كان يُقام في حدائق القلعة، إضافة إلى المواكب الفخمة للفيلة المزيّنة وهي تسير بين جنباتها.

وتقول دائرة المعارف البريطانية إنه من أشهر مباني القلعة قاعة الجمهور العام (الديوان العام)، التي أقيمت على ستين عموداً من الحجر الرملي الأحمر، وكان الإمبراطور يستقبل فيها عامة الناس ويستمع إلى شكواهم ويصدر أوامره.

أما قاعة الجمهور الخاص (الديوان الخاص)، فقد بُنيت ليستقبل فيها كبار الضيوف والوفود الرسمية، وقد صُممت بالكامل من الرخام الأبيض، وزُينت بزخارف دقيقة تجسّد قمّة الجمال الهندسي في تلك الحقبة، وكانت القاعة تضم عرش الطاووس الشهير في أحد عصورها، وهو أحد أثمن التحف المغولية التي نُقلت لاحقاً إلى إيران، وقد كُتب فوق العرش هذان البيتان من الشعر: "إذا كان من جنة على الأرض، فإنها هنا، إنها هنا".

كما تضم القلعة مسجداً صغيراً بديع التصميم يُعرف بموتى مسجد (مسجد اللؤلؤ) الذي يعكس تأثير العمارة الإسلامية والفارسية والهندوسية، وقد استخدمه أفراد الأسرة الإمبراطورية وكبار الموظفين.

ويوجد أيضاً في ساحة القلعة الحمراء قصر الألوان خلف الديوان العام وكان خاصاً بالنساء، وقد سماه شاه جهان قصر امتياز محل (القصر الممتاز)، وهناك أيضاً هيرا محل (قصر الألماس) الذي بناه الإمبراطور المغولي بهادر شاه ظفر عام 1842 والذي يعد من أجمل المباني الملكية من حيث التصميم والزخرفة، وذلك فضلاً عن الحمام الملكي الفاخر حيث كان أفراد العائلة المالكة يستمتعون بالاسترخاء، والباولي (البئر المدرّجة)، وهي تحفة من الهندسة الهندية القديمة.

وتحيط بالمسجد والقصور حدائق ملكية واسعة ذات طابع هندسي دقيق، أشهرها حديقة حياة بخش باغ (حديقة منارة الحياة)، التي امتلأت بالنافورات وقنوات المياه والأحواض المزخرفة بشكل يتماشى مع الفلسفة المغولية في توظيف الطبيعة داخل المجمعات السكنية والملكية.

إلى جانب ذلك، تضم القلعة عدداً من المتاحف والأجنحة التي تحفظ آثار الإمبراطورية المغولية، ومنها متحف في قصر ممتاز محل، الذي كان في السابق القصر الخاص بالنساء، ويحتوي هذا المتحف على مخطوطات ومنمنمات ومجوهرات وأقمشة تعكس الحياة اليومية والطقوس الملكية داخل القصور المغولية.

نهاية العصر المغولي

مصدر الصورة

كانت القلعة الحمراء قد تعرضت عبر تاريخها لهجمات عديدة، ولعل الهجوم الأكثر كارثية كان على يد أمير الحرب الفارسي نادر شاه عام 1739، فقد نهب الفرس العرش الطاووسي المرصّع بالجواهر (الذي كان يضم ماسة الكوهينور الشهيرة) إلى جانب معظم ثروات المدينة وكانت ضربة لم تتعافَ منها سلالة المغول أبداً.

وفي فترات لاحقة، تعرضت القلعة الحمراء للسيطرة المتعاقبة من قبل قوى مختلفة، حيث استولى عليها الروهيلا الأفغان أولاً، ثم الماراثا، الذين أسسوا الإمبراطورية الماراثية في غرب ووسط الهند خلال القرن السابع عشر والثامن عشر، لاحقاً، وفي نهاية المطاف، أصبحت تحت سيطرة شركة الهند الشرقية البريطانية.

وترتبط القلعة الحمراء أيضاً بالانتفاضة التي اندلعت عام 1857 فيما يُعرف بتمرد السيبويين الذين جعلوا من الإمبراطور المغولي بهادر شاه ظفر رمزاً للثورة المناهضة للاستعمار.

لكنّ الانتفاضة قُمعت في النهاية، وأعاد البريطانيون بهادر شاه ظفر إلى القلعة الحمراء بعد أن كان قد هرب منها أثناء حصار دلهي حيث جرت محاكمته في قاعة الديوان الخاص، وبعدها نُفي آخر أباطرة المغول مع عائلته إلى بورما في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1858 حيث مات قيد الإقامة الجبرية.

وبعد ذلك، هدمت القوات البريطانية الكثير من أجنحة القلعة الداخلية لإفساح المجال لثكنات عسكرية، وقد اختفى نحو ثلثي المباني التي كانت توجد داخل القصر خلال فترة الاحتلال البريطاني.

وقد ظلت القوات البريطانية تستخدم القلعة الحمراء كمعسكر للجيش حتى استقلال الهند عام 1947، وقد حولوا معظم أجزائها إلى ثكنات عسكرية، وهدموا عدداً من الأبنية الداخلية، وأضافوا هياكل جديدة فوق الأساسات القديمة، مما أدى إلى تغيّر ملموس في شكل المجمّع الأصلي، ورغم ذلك، بقيت القلعة رمزاً مركزياً للقوة والنفوذ، سواء في العهد المغولي أو الحقبة البريطانية.

الهوية الوطنية والتحديات

ومع منتصف القرن العشرين، بدأت القلعة تكتسب معنى جديداً تماماً، إذ أصبحت إحدى أهم ساحات الحركة الوطنية الهندية المناهضة للاستعمار.

وشهدت أسوارها في عام 1947 رفع العلم الهندي لأول مرة بعد استقلال البلاد، وألقى جواهر لال نهرو خطابه الشهير من فوق بوابتها، وهو تقليد ظل قائماً حتى اليوم، حيث يتولى رئيس الوزراء كل عام إلقاء خطاب الاستقلال من المكان ذاته، وبذلك تحولت القلعة من رمز إمبراطوري مغولي إلى رمز وطني يعكس الهوية الهندية الحديثة.

مصدر الصورة

وهكذا، باتت القلعة الحمراء تتربع في قلب الهوية الهندية، رمزاً للفخر الوطني ومركزاً للاحتفال العام، كما تمثل وجهة سياحية وثقافية رئيسية تستقبل ملايين الزوار سنوياً، وتقدم لهم تجربة فريدة تجمع بين التاريخ، والسياسة، والفن، والهندسة.

ويخضع مجمع القلعة الحمراء لإدارة مباشرة من هيئة المسح الأثري في الهند، وهي الجهة المسؤولة أيضاً عن حماية جميع المواقع التراثية الوطنية في الهند والممتلكات الثقافية الهندية المدرجة في قائمة التراث العالمي.

وقد أُعلن أن الموقع معلم ذو أهمية وطنية بموجب قانون الآثار القديمة والمواقع الأثرية لعام 1959، وتم إنشاء منطقة عازلة حوله، وعلى الرغم من تحسن حالة حفظ الموقع خلال السنوات العشر الماضية، فإن الكثير من العمل لا يزال مطلوباً لضمان منع الزوار من الإسهام في تدهوره.

وتواجه القلعة اليوم تحديات كبيرة تتعلق بالحفاظ على بنائها التاريخي، إذ تشكل معدلات التلوث العالية في دلهي خطراً مباشراً على جدران الحجر الرملي، التي تتعرض لتراكم الرواسب السوداء والتآكل.

كما أن الضغط السياحي الهائل يجبر السلطات على تنظيم الزيارات بدقة للحيلولة دون تدهور القاعات والحدائق، وتقوم هيئة المسح الأثري في الهند بعمليات ترميم مستمرة تشمل تنظيف الجدران وإصلاح الأضرار وصيانة الحدائق والقنوات المائية، من أجل الحفاظ على أصالة المجمع.

ورغم التحديات، ما زالت القلعة الحمراء محتفظة بأصالتها التاريخية، سواء في مبانيها المغولية أو الهياكل التي أضافها البريطانيون لاحقاً، مما يجعلها سجلاً مفتوحاً لقرون من تاريخ الهند السياسي والثقافي.

وقد اعترفت اليونسكو عام 2007 بالقيمة العالمية الاستثنائية للقلعة التي صارت ضمن التراث العالمي، مؤكدة أنها تعبر عن مراحل مختلفة من تاريخ الهند، وتتضمن مزيجاً معمارياً نادراً، وأنها أثّرت في عمران مدن عدة عبر القرون.

وبهذا المعنى، لم يكن الانفجار الأخير مجرد حادث أمني عابر حيث استهدف مكاناً يحمل في جدرانه حكاية الهند كلها، فالقلعة التي كانت شاهداً على صعود الإمبراطورية المغولية وتفككها، وعلى الاستعمار ومقاومته، وعلى ميلاد الدولة الحديثة، تقف اليوم في قلب الجدل الأمني والسياسي مرة أخرى.

بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار