"اترك الوظيفة، تحرر من العبودية، اصنع مشروعك الخاص" غالبا قد صادفتك مثل هذه العبارات كثيرا وأنت تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى الأغلب أيضا داعبت تلك العبارات أحلامك ومشاعرك، وربما فكرت أحيانا في ترك الوظيفة، لتتحرر من العبودية كما أخبروك.
لكن مهلا، هل حقا الوظيفة حاليا عبودية العصر الحديث؟ وهي المقولة التي حظيت بشهرة ربما لم تنلها أي من المقولات الكثيرة في مجال التنمية الذاتية.
وكيف تحولت الوظيفة من نعمة إلى نقمة، وكيف تحولت من حلم أغلب البشر وواقعهم اليومي، إلى وصف قبيح وكأنها وصمة عار على الإنسان أن يتخلص منها فورا؟
والسؤال المهم في هذا السياق: إذا ترك كل الناس وظائفهم، فمن سيقوم بالأعمال الضرورية لحياة البشر والتي تحتاج إلى جيوش من الموظفين، بل وكيف سيدير هؤلاء المتحررون الجدد أعمالهم دون موظفين؟
الحقيقة أن الوظيفة لم تكن يوما قيدا بحد ذاتها، بل هي تحالف اقتصادي واجتماعي ضروري يساهم في تسيير الحياة وتنمية الاقتصاد وتقليل البطالة، لكنها بالفعل قد تصبح قيدا حين تفقد معناها. حين يشعر الإنسان أنه يعمل ليعيش فقط، لا ليُنجز أو يتطور، حينها يتحول المكتب إلى زنزانة والراتب إلى فتات للنجاة.
ولكن هذا لا يعني أن الحل هو الهروب من الوظيفة، فليست كل أبواب الحرية تؤدي إلى الراحة. والحقيقة أن المشاعر السلبية لا تأتي من طبيعة العمل ذاته، بل من البيئة التي تقتل روح الإنسان بداخله وتغيب عنه معاني التقدير والتطور والإنجاز.
وكم من موظف يجلس على كرسيه لساعات طويلة لا أحد يسمع رأيه، ولا يُسأل عن فكرته، ولا يُقدَّر جهده؟ وحين يتحول الموظف إلى رقم في نظام، يوقع صباحا ويخرج مساء، يفقد إحساسه بالقيمة. وهنا، يبدأ وهم أن الحرية تعني ترك العمل، لا إصلاحه.
وقد تبدو جملة "اترك وظيفتك وابدأ مشروعك" مغرية، لكنها ليست وصفة صالحة للجميع وليست ناجعة في كل وقت. وإليك بعضا مما يقوله أصحاب العمل الحر:
مع هيمنة الثقافة المادية الاستهلاكية، بات النجاح كثيرا ما يُختزل في المناصب العليا والثراء السريع ومظاهر التفاخر والتباهي باستهلاك الكثير من الرفاهيات والكماليات.
ولكن لو سألت من شيّبتهم الحياة وعركتهم، سيقولون لك إن النجاح الحقيقي هو التوازن بين الصحة والعمل والأسرة والأصدقاء وخدمة المجتمع، وسيخبرونك بأن النجاح هو أن تشعر بأنك استنفدت وسعك وأديت ما عليك وتحملت المسؤولية كاملة دون إفراط أو تفريط.
ووفقا لهذا التعريف المتوازن للنجاح، يشهد واقعنا نجاح موظفين في حياتهم، مقابل فشل لرواد أعمال، وبالتالي فإن التعميم والإطلاق هو جوهر مشكلة المقولات الشائعة دون نقد حقيقي.
إن خطورة بعض المقولات الشائعة دون وعي مثل "الوظيفة عبودية العصر الحديث" أنها تترك الموظفين في حالة من القلق والتذمر الدائم والحزن المقيم، وبالتالي تساهم في خفوت مشاعر الرضا والاستقرار والطمأنينة والسعادة. ويتعاظم الخطر عندما ندرك أن أغلبية الموظفين لن يتركوا وظائفهم، وأن الكثير من البشر لا يتحملون ضغوط العمل الحر.
والنتيجة الحتمية لاستمرار هذا الخطاب الساذج، والضغط على المشاعر باستمرار، هي تأثيرات سلبية مهنيا ونفسيا وحتى أسريا، فلك أن تتخيل مستقبلنا مع ملايين الموظفين العابسين الرافضين لوضعهم دون قدرة على تغييره، ما مصيرنا وأغلبنا ناقم على ما بين يديه من نعمة هي حلم وأمل ملايين آخرين يبحثون عن أي فرصة للعمل؟
وبالطبع لا يتعارض هذا النقد لمقولة "الوظيفة عبودية" مع الطموح والتطوير، لكنها دعوة للتمهل قبل أن تتفلت النعمة من بين يديك كما يتفلت الحصان الجامح غير المدرب، فقديما قالوا "النعم وحشية فقيدوها بالشكر".
المصدر:
الجزيرة