استخدمت العديد من الحضارات القديمة حول العالم، الزيوت العطرية المستخرجة من النباتات لأغراضٍ جمالية أو طبية، بحسب كل ثقافة وحضارة وحقبة زمنية.
واستخدم المصريون القدماء، الزيوت المستخرجة من النباتات العطرية منذ نحو 4500 عام في مستحضرات التجميل والمراهم الطبية. كما تمّ تسجيل استخدام الزيوت العطرية "للشفاء" في الطب الصيني والهندي التقليدي بين عامي 3000 و2000 قبل الميلاد.
بعد ذلك، ناقش فلاسفة من اليونان القديمة خصائص الحواس الخمس وبينهم حاسة الشم، وأكد أرسطو، وجود علاقة بين حاسة الشم والروائح واستحضار الذكريات.
بقي تأثير حاسة الشم على الذاكرة يناقش على مدى عصور مع فلاسفة قدماء آخرين مثل الفيلسوف والقديس المسيحي أوغسطينوس وفلاسفة وعلماء نفس في العصور الأكثر حداثة مثل نيتشه وفرويد وويليام جيمس.
ولا تزال فكرة تمتع الزيوت الأساسية المستخرجة من النباتات العطرية بخصائص طبية وشفائية، سواء على الجسم أو على الدماغ والذاكرة، موضع جدل بين الطب الحديث وما يُعرف بالطب البديل.
ويكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن فوائد مفترضة لهذه الزيوت على الدماغ والذاكرة لدى الجميع بشكل عام، ولدى مرضى الزهايمر والباركنسون بشكل خاص. فإلى ماذا تشير أحدث الدراسات؟ وكيف يمكن تفسير نتائجها؟
أشارت دراسة يابانية نُشرت العام الماضي، وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل واسع خلال الأسابيع الماضية، شاركت فيها 50 امرأة، إلى أنّ وضع زيت الورد العطري على ثيابهنّ يوميًا لمدة شهر، زاد من حجم المادة الرمادية في القشرة الحزامية الخلفية في أدمغتهنّ، وهي المنطقة المسؤولة عن ارتباطات الذاكرة بالرائحة، واسترجاع ذكريات الروائح، وعمليات الذاكرة الدلالية.
في المقابل، لم يتغير شيء في الأميغدالا (اللوزة الدماغية)، وهي المنطقة المسؤولة عن استشعار الروائح.
تقول جُمانة بستاني، وهي صيدلانية درست لاحقًا العلاج بالزيوت العطرية، إنها تعرضت قبل 15 عامًا لعارض صحي جعلها تغيّر رأيها "في ما يتعلق بطريقة العلاج التقليدية عبر الأدوية، وبدأت تفضيل البدائل الطبيعية والاهتمام بالعلاج الطبيعي".
وفي عام 2020، بدأت بستاني "دراسة درجة العلاج السريري بالزيوت العطرية، وهي شهادة من المستوى الثاني في هذا المجال".
تؤمن بستاني بأن الزيوت المستخرجة من النباتات العطرية تتمتع بصفات علاجية، من بينها ما يتعلق بالذاكرة.
إلا أنّ البروفيسورة زينة الشمالي، وهي أخصائية في الأعصاب السلوكية وطبيبة نفسية-عصبية، ومديرة قسمي الطب النفسي والأعصاب في مستشفى ماساتشوستس العام في الولايات المتحدة، تؤكد أنه رغم إمكانية وجود تأثيرات إيجابية لاستنشاق روائح الزيوت العطرية على الدماغ، فإنّ تفسير أساس هذه الفوائد بنظرها مختلف تمامًا.
وتضيف في مقابلة مع بي بي سي عربي أنّه "يجب التعامل مع الدراسات الحالية عن فوائد الزيوت العطرية على مرضى الزهايمر والخرف بشيء من التحفّظ"
وتشرح الشمالي أنّه "حتى الآن، لم تُجرَ دراسات واسعة النطاق حول فوائد الزيوت العطرية على الدماغ، وأنّ الدراسات المتوفرة ليست كافية ولا تتمتع بالجودة المطلوبة" للبتّ في حقيقة علمية مؤكدة حول فوائد هذه الزيوت وكيفية عملها.
وتضيف الأستاذة المشاركة في الطب النفسي والأعصاب في كلية الطب بجامعة هارفارد، والجامعة الأمريكية في بيروت، أنّ الدراسات الأخيرة أثبتت "تراكم بروتينات معيّنة في البصلة الشمية لدى المصابين بأمراض التنكس العصبي مثل الزهايمر والباركنسون، وهي أمراض تتميز بالفقدان التدريجي للخلايا العصبية في الدماغ والحبل الشوكي. وبالتالي، لن يأتي الزيت العطري ليُزيل تراكم هذه البروتينات. كنتُ أتمنى لو كان بإمكانه فعل ذلك".
لكن هل يعني هذا أنه يجب علينا التخلي تماماً عن فكرة الربط بين الزيوت وقوة الذاكرة؟
قد لا تكون الإجابة على هذا السؤال "نعم" خالصة، لكننا سنبدأ ببعض الجوانب البيولوجية والوظيفية أولًا.
تقول الشمالي: "نعلم، على صعيد الطب والعلم، منذ 30 أو 40 عامًا، أن هناك ارتباطاً قوياً جداً بين حاسة الشم والأمراض العصبية التنكسية، وأن مرضى باركنسون والزهايمر غالبًا ما يفقدون حاسة الشم، إما في المراحل المبكرة من المرض أو مع تطوره بمرور الوقت".
وتشير إلى أن ارتباط حاسة الشم بالذاكرة بهذا القدر من القوة يعود إلى الفيزيولوجيا الخاصة بأجسامنا. إذ يتصل الأنف مباشرة بالدماغ عبر مسار يُعرف علميًا باسم المسار الشمي، وهو حزمة من الألياف العصبية التي تمتد من البصلة الشمية في الدماغ إلى الظهارة الشمية في التجويف الأنفي، وتنقل معلومات الرائحة من الأنف إلى الدماغ لتفسيرها.
وتوضح الطبيبة قائلة: "في الواقع، يتصل المسار الشمي ببنية تُسمى القبو، وهي جزء من الجهاز الحوفي، وترتبط به ارتباطًا وثيقًا، وهو ما يجعلها مخزناً للذكريات. وبهذا، فإن حاسة الشم، بطريقة بدائية وجوهرية، تتواصل بشكل مباشر مع الذاكرة".
وتضيف: "لهذا السبب، ترتبط الذاكرة وحاسة الشم ارتباطاً وثيقاً داخل الجهاز الحوفي، في الدماغ البدائي الذي استخدمه الإنسان في مراحل التطور الأولى من أجل: البقاء على قيد الحياة أولًا، ثم التكاثر وزيادة عدد السكان على الأرض، وأخيرًا التمييز — من خلال الرائحة — بين ما هو إيجابي ويستحق البقاء إلى جانبه، وما هو مُقلق ويستدعي الهروب أو القتال".
وبالعودة إلى روائح الزيوت العطرية، تعتقد الشمالي أن استنشاق رائحة أي زيت نحبه من هذه الزيوت قد يكون مفيدًا بشكل غير مباشر للحفاظ على صحة دماغية جيدة، من خلال تقليل التوتر، وبالتالي الحد من الالتهابات، مما يساعد الدماغ على الحفاظ على وظائفه بشكل أفضل.
وتلفت الطبيبة إلى أن "تعريف الرائحة الجميلة أمر ثقافي إلى حد بعيد، فقد تكون رائحة الورد مرتبطة بذكريات جميلة في بلدان البحر المتوسط، بينما قد تكون رائحة الزنبق أو الزعفران هي المفضلة في مناطق أخرى من العالم".
وتفسّر قائلة: "لا أعتقد أن الأمر يتعلق بخصائص زيت عطري معيّن على وجه التحديد، بل بمجرد الشعور بالراحة الذي يغمر الدماغ".
وتضيف: "غالباً ما تكون هذه الرائحة نابعة من بيئتك الخاصة، لأنه وكما ذكرنا، تكون البصلة الشمية متشابكة مع الذاكرة، وقد تُثير فيك، بوعي أو من دون وعي، مشاعر الراحة والاطمئنان".
وبالعودة إلى الدراسة اليابانية التي بدأنا بها هذا المقال، فقد أُجريت على نساء فقط، وغالبًا ما تفضّل النساء رائحة الورد مقارنةً بالرجال في ثقافات مختلفة، إذ ارتبط الورد تاريخيًا بالأنوثة.
تُشبّه الطبيبة شمّ الروائح التي نحبها "بالتأمل أو بأخذ حمام ساخن أو جلسة ساونا، لأنها تُهدّئ الدماغ".
وتقول: "عندما يكون الدماغ في حالة هدوء، وليس في حالة تأهّب، يجمع المعلومات ويفكّر بها ويحلّ المشكلات بشكل أفضل. وينطبق ذلك علينا جميعًا".
وتضيف: "لذلك، لا أريد التقليل من شأن الزيوت العطرية، فهي مواد كيميائية تُستخدم منذ مئات السنين، كما استُخدمت في الحضارات القديمة. أدرك الناس منذ ذلك الحين أنها تُحسّن حالتهم النفسية وتُفيدهم في ظل التوتر".
وتشير الطبيبة إلى العديد من الدراسات التي ربطت بين التأمل والشعور بالراحة وتقليل الالتهاب العصبي، وتقول: "نعلم أنه عندما نُقلل من الالتهاب العصبي في الدماغ، فإننا نُخفّض في الواقع من خطر الإصابة بالأمراض التنكسية العصبية".
قد تفيد الزيوت العطرية إذًا في تحسين الحالة الصحية والمزاجية العامة للشخص، مما قد يساعده على الوقاية من الأمراض المرتبطة بفقدان الذاكرة، كما يمكنها تحسين جودة حياة المصابين بهذه الأمراض بطريقة غير مباشرة.
إلا أنهم، بالتأكيد، سيظلون بحاجة إلى العلاج الدوائي، كما تؤكد الشمالي.
تشير الطبيبة اللبنانية-الأمريكية إلى أنّ "قائمة الرعاية بالنفس والصحة الجيدة" ومن ضمنها صحة الدماغ، تتضمن مجموعة من العوامل التي يجب تحقيقها.
وتقول: "كلما اهتممت بنفسك بشكل جيد، نفسياً وجسدياً، كلّما كان لذلك تأثيراً إيجابياً للغاية على الدماغ مستقبلاً".
نسأل الشمالي عن تأثير العوامل الوراثية في أمراض فقدان الذاكرة، فتؤكد لنا: "أنها ليست بالأمر الحتمي أو المحسوم مسبقاً".
وتفسر قائلة: "نعلم أنه هناك ارتباطاً بين خلفيات جينية معينة والاضطرابات العصبية التنكسية المختلفة"، ولكن بغض النظر عن الخلفية الجينية للأشخاص، تقول الطبيبة إنه "لا يزال بإمكانك فعل شيء ما للتخفيف قدر الإمكان ولأطول فترة ممكنة ما قد يحدث في المستقبل".
تعطي الطبيبة مثالاً لأخوين لديهما المخاطر الوراثية والجينية نفسها. شخص منهما يدخن أو يعاني من ارتفاع في ضغط الدم أو من مرض السكري أو يعاني من السمنة أو البدانة أو لا يمارس الرياضة أو لا ينام جيداً أو منعزل وليس لديه الكثير من الأصدقاء ولا يخرج كثيراً، وليس لديه نظام دعم جيد ولديه مستوى عالٍ جداً من التوتر ولا يجد أي معنى لحياته أو أي هدف يستيقظ من أجله في الصباح، مقابل الأخ الآخر الذي لا يعاني من أي من هذه المشكلات.
وتقول: "حالة الأخ الآخر أفضل بكثير وقد تحميه من الإصابة بمرض ما أو تطوره بشكل كبير".
وتختم الطبيبة حديثها لبي بي سي عربي بالقول إنّها تركز أبحاثها منذ سنوات على ثلاث حالات ترتبط بالدماغ، هي: الخرف والسكتة الدماغية والاكتئاب. ووجدت أنّ "الحالات الثلاث ينبعن من الشجرة نفسها وهي الالتهاب العصبي الذي يمكن تخفيفه عبر اتباع جميع الخطوات التي ذكرناها".
وتضيف: "ستكون بالتالي تحمي نفسك من هذه الحالات الثلاث، بالإضافة إلى حماية ممكنة من أمراض القلب والسرطان". وتتابع: "هناك علاقة بين هذه الأمراض، لكن فهمها بشكل دقيق يتطلب المزيد من الدراسات".