في صباح أحد الأيام من العام الماضي، فتح جون غلادوين خزانة المطبخ أسفل الحوض، ليكتشف أن كيس التربة الذي كان يخزّنه هناك قد تمزّق إلى قطع صغيرة.
بعد أيام لاحظ أيضاً رائحة نفاذة. كانت عفنة وحامضة قليلاً، تشبه رائحة صناديق القمامة المشتركة في المبنى الذي تقع شقته فيه.
يقول: "عرفت ما هو الأمر فوراً… الجرذان".
لقد اعتاد أن يراها تركض قرب صناديق القمامة، لكن الآن أصبحت داخل منزله أيضاً.
"كنت أسمعها في الخزائن وخلف لوح حوض الاستحمام. وفي أحد الصباحات استيقظت لأجدها تتشاجر تحت الحوض، تصرخ وتصدر أصواتاً حادة."
اتخذ السيد غلادوين الذي يعيش في كرويدون مع أطفاله الخمسة، إجراءً على الفور. وضع زيت النعناع وسم الجرذان، ومنذ ذلك الحين لم تعد. لكن التجربة هزّته.
يقول: "كنت قلقاً على صحة الأطفال، لم أرد أن يُصابوا بأي مرض".
وكان هناك شعور آخر أيضاً: الخجل.
"ليس من السهل أن تقول إننا نعاني من غزو الجرذان، وأن عائلتنا تعيش في منزل موبوء بالجرذان".
تعمل شركة "كلينكيل" لمكافحة الآفات، المكلّفة بمعالجة الغزو في مجمّع غلادوين السكني، في مختلف أنحاء جنوب إنجلترا. ويقول مؤسسها، كلايف بوري، إنه شهد زيادة "ملحوظة" في طلبات التدخّل لمكافحة نشاط الجرذان، مقدّراً الارتفاع بنسبة 20 بالمئة خلال العامين الماضيين.
أنماط مشابهة يتم تسجيلها في مختلف أنحاء بريطانيا. إذ تشير رابطة مكافحة الآفات البريطانية، وهي هيئة تجارية، إلى أنّ أكثر من نصف شركات مكافحة الآفات الأعضاء لديها شهدت ارتفاعاً في عدد البلاغات المتعلّقة بالجرذان خلال السنوات الخمس الماضية.
تعيش الجرذان في قنوات الصرف والمجاري والجحور، وتخرج غالباً في الليل، ما يجعل من الصعب جداً إحصاؤها، لذلك تتفاوت التقديرات حول أعدادها بشكل كبير. ففي المملكة المتحدة، يمكن أن يتراوح العدد ما بين 10 ملايين و120 مليوناً.
لكن المعروف هو أنّه تم تسجيل أكثر من نصف مليون حالة غزو للجرذان لدى المجالس المحلية في المملكة المتحدة، بين عام 2023 ومنتصف هذا العام، وفقاً لطلبات حرية المعلومات التي جمعتها شركة الصيانة "درين ديتيكتيفز".
وليس الأمر محصوراً بالمملكة المتحدة. فقد أُبلِغ عن ارتفاع أعداد الجرذان أيضاً في مدن أميركية عدة مثل واشنطن العاصمة، وسان فرانسيسكو، ونيويورك، إضافة إلى أمستردام وتورونتو.
ورغم أنّ الجرذان ليست حيوانات قذرة بطبيعتها، فإنها تقتات من المجاري وحاويات القمامة، ويمكن أن تنقل أمراضاً خطيرة إلى البشر. فداء البريميات (مرض ويل) يُنقل عبر بولها، في حين أنّ فيروس هانتا يمكن أن ينتشر عن طريق استنشاق فضلاتها المصابة.
كما أنّها قادرة على التهام المحاصيل الزراعية وتلويث الإمدادات الغذائية.
إذن، وبما أنّ الجرذان أثبتت دهاءها في تجنّب الوقوع في المصائد، فما الذي يتطلّبه الأمر حقاً لوقفها؟ أم أنّ الوقت قد فات لمنعها من اجتياح مدننا؟
بوبي كورّيغن يصف نفسه بأنّه "عالم قوارض حضرية". بدأ عمله كمكافح للجرذان في مدينة نيويورك، وقضى حياته غارقاً في دراسة هذه الكائنات.
يقول: "انتهى بي المطاف داخل المجاري، محاولاً تعليق طُعم سام لقتل الجرذان."
بعد سنوات، وأثناء دراسته الجامعية عن الجرذان، ذهب إلى أقصى الحدود لفهم سلوكها - حتى أنّه نام على أرضية حظيرة موبوءة بالجرذان ليعاين الأمر عن قرب.
ما أدهشه هو بنيتها الاجتماعية المعقّدة، والأدلة التي اعتبرها مؤشرات على "الإيثار". يقول متذكّراً: "رأيت جرذاناً صغيرة تحمل الطعام وتقدّمه لجرذان أكبر سناً لم تعد قادرة على الحركة."
كما كان مصمّماً على فهم أسباب هذا التزايد المستمر في أعدادها.
هناك العديد من الأسباب المحتملة لذلك. يقول نيل غالاغر، المدير الفني في رابطة مكافحة الآفات البريطانية، إن شهيتنا المتزايدة للأطعمة السريعة، وقيام بعض المجالس البلدية بجمع القمامة بوتيرة أقل، إضافة إلى أعمال الطرق والبناء التي تزعج شبكات الصرف الصحي، كلها عوامل تسهم في تفاقم المشكلة.
لكن هناك أدلة أيضاً على أنّ ارتفاع درجات الحرارة قد يكون له دور في ذلك.
فالأدلة العلمية أظهرت أنّ أعداد الجرذان حسّاسة للتغيّرات الحرارية. وقد سعى الدكتور كوريغن الذي عمل سابقاً كعالِم باحث في وزارة الصحة في مدينة نيويورك، بالتعاون مع باحثين من جامعة ريتشموند في فيرجينيا، إلى معرفة ما إذا كان ازدياد نشاط الجرذان مرتبطاً بارتفاع درجات الحرارة.
وقد تناولت دراستهم 16 مدينة، معظمها في أميركا الشمالية، وكشفت نتائجها التي نُشرت مطلع هذا العام في دورية، أنّ 11 مدينة منها سجّلت ارتفاعاً ملحوظاً في نشاط الجرذان خلال فترة تراوحت بين 7 و17 عاماً.
الجرذان لا تدخل في سبات شتوي، ولذلك فإن تعرّضها للبرد قد يقتلها أو يقلّل من قدرتها على الإنجاب، ما يبطئ نمو أعدادها.
في واشنطن العاصمة، بلغت الزيادة ما يقارب 400 بالمئة، وفي سان فرانسيسكو 300 بالمئة، وفي تورونتو 180 بالمئة، وفي نيويورك 160 بالمئة. ولم تُسجَّل تراجعات إلا في ثلاث مدن فقط، من بينها طوكيو ونيو أورلينز.
وخلصت الدراسة إلى أنّ: "المدن التي شهدت ارتفاعاً أكبر في درجات الحرارة مع مرور الوقت، سجّلت بدورها زيادات أكبر في أعداد الجرذان." وقد اقتربت هذه الزيادات من درجتين مئويتين في بعض الأماكن خلال فترة الدراسة.
ويرى الدكتور كورّيغن أنه، طالما استمرت درجات الحرارة بالارتفاع، وخصوصاً إذا أصبحت الشتاءات أكثر دفئاً، فمن المرجّح أن يستمر تزايد أعداد الجرذان.
وبالفعل، من المتوقع أن ترتفع درجات الحرارة العالمية بما يتراوح بين 1.9 و2.7 درجة مئوية فوق المعدّل ما قبل الصناعي بحلول عام 2100، وفقاً لتقديرات "مُتتبّع العمل المناخي"، وهو مجموعة مستقلة من الباحثين في شؤون المناخ.
تتكاذر الجرذان بشكل استثنائي. فأنثى الجرذ تضع عادةً نحو ستة بطون في السنة، يحتوي كلّ منها على ما يصل إلى 12 من صغار الجرذان.
ويمكن لتلك الجرذان أن تبدأ بالتكاثر بعد تسعة أسابيع فقط، ما يعني أنّ جرذين اثنين قادران نظرياً على إنتاج أكثر من ألف نسل في عام واحد.
يقول الباحثون إن أعداد الجرذان مهيّأة بشكل خاص للارتفاع في المدن. ذلك لأن الأسفلت والمباني التي تحتجز الحرارة تميل إلى الاحترار بسرعة أكبر مقارنة بالمناطق الريفية.
كما أنّ نزعة انتقال الناس من الريف إلى المدن تلعب دوراً في ذلك أيضاً، وفقاً للدكتور كوريغن. إذ يقول: "الأراضي تختفي بشكل جنوني، ونحن نقيّم المباني، مما يقلّص موائلها [أي الجرذان] في البرية".
والمزيد من المباني يعني المزيد من الزوايا والأنابيب والمجارير التي يمكن أن تعيش فيها الجرذان، وهو ما يضاعف التحدي المتعلق بكيفية السيطرة المثلى على أعدادها المتنامية.
إحدى الحقائق الغريبة عن الجرذان والتي تساعد على تفسير سبب فشل الطعوم السامّة في كثير من الأحيان، هي أنّها غير قادرة على التقيؤ.
نظرياً، هذا يعني أنّه بمجرد ابتلاع الجرذ للسمّ، لا يمكنه التخلّص منه. لكن الجرذان أيضاً نيُوفوبية، أي تخشى الأشياء الجديدة، بحسب البروفيسور ستيفن بيلمين، أستاذ علم البيئة في جامعة غرينيتش. ويرى أنّ هاتين النقطتين مرتبطتان ببعضهما.
ويقول إن ذلك يُعَدّ نوعاً من "القوة الخارقة"، إذ حين تعثر الجرذان على طعام محتمل لا تندفع لالتهامه فوراً.
"إنها تجرّب كمية صغيرة فقط. فإذا لم تشعر بالمرض، تستنتج: 'حسناً، يمكنني أن آكل هذا'."
ويضيف: "يمكن القول إن هذا النهج الحذِر في الحياة كان مصدر قوة لها."
قضى الدكتور آلان باكل من جامعة ريدنغ 30 عاماً يعمل على تطوير سموم جديدة للجرذان، لكن - يقول لي ضاحكاً - "فشلت".
إذا كان للطعم السام طعم سيئ أو سبب أي انزعاج أو ألم للجرذان، فلن يأكلوا منه المزيد. ولهذا تُستخدم مواد أبطأ مفعولاً، لا سيما مضادات التخثر - وهي أدوية توقف تكوّن جلطات الدم.
تستغرق هذه المواد ما يصل إلى أسبوع لتؤثر، ما يمنح الجرذان وقتاً كافياً لابتلاع جرعة قاتلة. لكنها تُعترف أيضاً بأنها طريقة قاسية للموت، إذ تقتل الجرذان عن طريق التسبب بنزيف داخلي.
والأسوأ من ذلك أنّ الجرذان طورت في السنوات الأخيرة طفرات جينية تمنحها قدراً من المناعة تجاه هذه الأدوية القوية كذلك.
وينظر بعض الباحثين في إمكانية استخدام موانع حمل فموية كبديل أكثر إنسانية لوقف زيادة أعداد الجرذان.
قلائل يعرفون هذا التحدي أكثر من كاثلين كورادي، المعلّمة السابقة التي عيّنها عمدة نيويورك عام 2023 في منصب "قيصرة الجرذان" للمدينة.
ويُقدَّر أنّ نحو ثلاثة ملايين جرذ تعيش في الأحياء الخمسة للمدية، وقد حصلت كورادي، بحسب التقارير، على 3.5 مليون دولار لتعزيز الوعي العام بشأن الحد من أعداد الجرذان.
وقد أطلقت ما تسميه "أكاديمية الجرذان"، وهي مبادرة تعلّم الناس كيف يمنعون اجتياح الجرذان لأحيائهم.
قالت كورادي لبي بي سي عربي مطلع هذا الشهر: "إنهم يشاركونني جولة جرذان، حيث نخرج إلى الأحياء ونتحدث عن سلوك البشر وسلوك الجرذان."
وأضافت: "نناقش كيف يرتبط الأمر كلّه معاً، وما الذي يمكنهم فعله في أحيائهم."
كما حثّ فريقها سكان نيويورك على الاتصال في حال شاهدوا جرذاناً أو لاحظوا دلائل على سلوكيات قد تشجّع على تكاثرها. ويتولى المفتّشون التحقيق في البلاغات ويأمرون باتخاذ إجراءات، مع فرض غرامات مشدّدة إذا لم يتم التنفيذ.
وكان هناك تغيير أساسي آخر - فبدلاً من وضع القمامة في الشارع بأكياس بلاستيكية، أصبح معظم سكان نيويورك مُلزَمين الآن بوضع نفاياتهم في حاويات مقاومة للجرذان.
تترك كورادي منصبها الآن، لكنها تقول إن النهج الذي اتبعته بدأ يُظهر بعض التقدّم.
وفي النهاية أوضحت: "حرمان الجرذان من مصدر غذائها هو المفتاح لتحقيق خفض مستدام في أعدادها."
في كرويدون، اصطحبني أليكس دونوفان، موظف مكافحة الآفات في شركة كلينكيل، إلى الفناء الخلفي للمجمّع السكني حيث يعيش جون غلادوين. كان ذلك بعيد الفجر بقليل، وأشار إليّ أن أبقى ساكناً وصامتاً.
بعد لحظات، سُمِع خشخشة، فانطلق جرذ من تحت الممرّ الإسمنتي باتجاه صناديق القمامة المشتركة. ثم ظهر رأس جرذ كبير من جحر في نهاية الحديقة.
خلال الساعتين اللتين قضيناهما في المجمّع، صعد بعض الجرذان إلى أعلى شجرة، فيما قفز أحدها بجرأة داخل صندوق قمامة وانتزع قطعة طعام من كيس بلاستيكي بينما كنت أراقب على بُعد أقل من متر واحد.
يعتقد دونوفان أنّ السيطرة على غزو بهذا الحجم شبه مستحيلة. ويقول: "الطعام موجود بكثرة"، مشيراً إلى صناديق قمامة ممتلئة بأكياس النفايات.
ويضيف: "حتى لو وضعنا مبيدات للقوارض، فلن تأكلها. فهي ببساطة غير مهتمة… وبمجرد أن تُصاب هذه الصناديق بالجرذان، لا يرغب عمّال جمع القمامة في تفريغها أيضاً."
قد تساعد درجات الحرارة الأكثر دفئاً في تغذية تزايد أعداد الجرذان، لكن صناديق القمامة الممتلئة، وشغفنا بالوجبات السريعة، وتفكك المجتمعات، كلها عوامل تزيد من صعوبة السيطرة على الوضع.
وفي المملكة المتحدة، يعيش اليوم عدد أكبر من أي وقت مضى على مقربة وثيقة من بعضهم البعض. إذ تتوقع مكتب الإحصاءات الوطنية أن يرتفع عدد السكان من 67.6 مليون عام 2022 إلى 72.5 مليون بحلول عام 2032، مع ازدياد نسبة القاطنين في المناطق الحضرية أيضاً.
ولذلك، وبدلاً من التعلّق بالأمل في أن يقوم السم بالمطلوب، قد يكون الحل في أمر أكثر بساطة بكثير.
يقول الدكتور كوريغن: "إذا اعتنينا ببيئتنا الحضرية، فلن نضطر للقلق بشأن معاملتهم بطرق غير إنسانية."
ويضيف: "من خلال حرمان الجرذان من الطعام والفضلات، لن نضطر إلى تسميمها وقتلها وتعذيبها وكل تلك الأمور الجنونية التي نفعلها بها."
أما التحدي الآن فهو كيفية تحقيق ذلك، وبسرعة. فكما يقول: لقد "استخففنا بها بالفعل."
ويتابع: "لقد تجاهلنا الجرذان وتركناها تفلت من السيطرة… والآن ندفع الثمن."
ساعمت في إعداد التقرير: فلورنس فريمان.