ancientarthistory.tumblr.com
عرفت الجزيرة العربية الخمر منذ فجر التاريخ، وتشير إلى ذلك القصص التي وردت في العهد القديم بالكتاب المقدس، التي ذكرت أشجار الكروم أو العنب وشرب الخمر في قصص الأنبياء الذين سكنوا المنطقة قبل آلاف السنين.
وجاء في كتاب "رموز وطقوس: دراسات في الميثولوجيا القديمة" لجان صدقة، أن "شجرة الحياة والموت في التوراة كانت كرمة"، الأمر الذي تتفق معه بعض تفاسير القرآن، التي ذكرت أن الشجرة التي أكل منها آدم أبو البشر، هي الكرم أو العنب.
وأرجع صدقة السبب إلى أن الخمر هو "التعبير النباتي للخلود"، كما أن الخمر في الديانات القديمة هو رمز الشباب والحياة الدائمة، وكان يرمز إلى الحكمة في الكتب القديمة.
كما أن الإنجيل يروي معجزة تحويل المسيح الماء خمراً بعد نفاد الخمر المتاح، وذلك في عرس في بلدة قانا الجليل، التي تقع اليوم في لبنان.
ومن خلال صور أشجار الكروم التي نُقشت على آثار مملكة الأنباط التي شكلت القبائل العربية الأولى التي استوطنت شمال شبه الجزيرة العربية قبل ميلاد المسيح بأكثر من أربعة قرون، يتجلى مدى اهتمام العرب بهذه الشجرة المرتبطة بالشراب والخمور.
ويقول مصطفى أبو ضيف أحمد، في "دراسات في تاريخ العرب منذ ما قبل الإسلام إلى ظهور الأمويين"، أن الأنباط "كانوا مولعين بالشراب والخمور، وقد أظهروا براعة فائقة في حفر صور الكروم وعناقيدها على الألواح الحجرية".
وقد تغنى العرب بالخمر في أشعارهم التي نُقلت إلينا قبل أكثر من 1400 عام، منذ ما يُعرف بالعصر الجاهلي. ويقول المؤرخ العراقي هادي العلوي إن الخمر كان "الشراب المفضل للجاهليين".
وقد ارتبطت الخمر لدى العرب باللهو والكرم، وكانت تُدار كؤوسها في المجالس. وكان الأعشى وطرفة بن العبد من أشهر من تغنوا بالخمر في أشعارهم ، وجاء في كتاب العلوي "من قاموس التراث" أن قبر الأعشى كان مقصِداً للشباب، يشربون عنده الخمر ويصبون كؤوسهم عليه.
وقد أكثر الأعشى من وصف الخمر وذكر تفاصيلها، حتى يُنظر إليه على أنه "إمام" الأخطل بالعصر الأموي وأبي نواس بالعصر العباسي، اللذين اشتُهرا بقصائد تتناول الخمر وأوصافها، فيما أطلق عليها "الخمريات".
Getty Images
ويقول الروائي والباحث اليمني علي المقري في كتابه "الخمر والنبيذ في الإسلام"، إن تجار بلاد الشام كانوا يجلبون الخمور الجيدة إلى تجار مكة ليضعوها على موائدهم العامرة.
وذكر المؤرخ الرقيق القيرواني الذي عاش في العصر الفاطمي، في كتابه "قطب السرور في أوصاف الأنبذة والخمور"، أن عرب شبه الجزيرة "عرفوا الكرمة وعصروا العنب بوادي اليمن وتهامة والطائف ويثرب ووادي القرى؛ فتناثرت الكروم وتعالى شجر النخيل وضجت في أرجاء الجزيرة أصوات المعاصر".
ويعتقد العلماء أن أقدم معصرة للنبيذ في المنطقة كانت في شمال بلاد ما بين النهرين، ويعود تاريخها إلى أكثر من 2700 عام في ظل الدولة الآشورية التي شملت العراق.
ويقول المؤرخ العراقي جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، أن الأديرة كانت من أكثر الأماكن التي يلجأ إليها الراغبون في الشراب "يطربون بشرب ما فيها من خمور ونبيذ معتق امتاز بصنعه الرهبان".
وأضاف جواد علي أن المسيحيين واليهود ظلوا يشربون الخمر ويتاجرون بها في الجزيرة واليمن والعراق والشام.
ومن أشهر الأديرة لدى العرب، دير الشاعرة هند بنت النعمان بن المنذر، وكان في الكوفة وقال فيه أبو حيان:
يا دير هند لقد أصبحت لي أنساً * ولم تكنْ قطُ لي يا دير مئناسا
سُقْياً لظلك ظلاً كنتُ آلفُهُ * فيه أعاشرُ قِسيساً وشماسا
لا أعدمُ اللهوَ في أرجاء هيكلِه * ولا أردُ على الساقي بهِ الكاسا
Getty Images
اصطُلح اليوم على أن الخمر هو كل أنواع الشراب المُسْكِر، إلا أن الخمر في اللغة العربية تطلق على ما أسكر من عصير العنب تحديداً، أما غيره فهو "النبيذ"، الذي يُنبذ أي يُترك حتى يفور ويُصبح مُسكِرا.
وجاء في فصل عن الخمور أو "الأشربة" للإمام أحمد ابن حنبل وهو أحد أئمة الفقه الأربعة لدى أهل السنة، وكان في العصر العباسي، أن الصحابي عمر بن الخطاب قال: "الأشربة تُصنع من خمسة: من الزبيب والتمر والعسل والحِنطة والشعير".
وذكر علاء الدين الكاساني، أحد فقهاء المذهب الحنفي في عهد السلاجقة، أسماء الخمر، ومنها "السَكَر والفضيخ ونقيع الزبيب والطلاء والباذق والمنصف والمثلث والجمهوري، وقد يسمى أبو سقيا والخليطان والمِزر والجعة والبِتع".
ويشرح الكاساني في كتابه "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع"، أن الخمر هو ماء العنب، والسكر هو ماء الرُطَب من التمر، والفضيخ ماء البسر، وهو التمر الطري قبل أن يتحول إلى رُطب.
ويكمل بأن نقيع الزبيب هو ماء الزبيب إذا نُقع حتى زالت عنه حلاوته، و"الطلاء والباذق والمنصف والمثلث والجمهوري" فجميعها من ماء العنب المطبوخ بدرجات متفاوتة.
أما الخليطان فهو النبيذ المكون من المزج بين التمر والزبيب، أو بين البسر والرطب، والمِزر هو نبيذ الذرة، والجعة نبيذ الحنطة والشعير، والبتع نبيذ العسل.
وجاء فيما روي عن الصحابي أبي موسى الأشعري أنه قال "خمر المدينة من البُسر والتمر، وخمر أهل فارس من العنب، وخمر أهل اليمن البتع وهو من العسل، وخمر الحبش السُكْرُكة، وهو الأَرز".