في تجربة لافتة وغير مسبوقة عربيا، قامت الجزيرة نت بإجراء سجال شعري مباشر بين برنامج الذكاء الاصطناعي "جيميناي 3.0 برو" (Gemini 3.0 Pro) من غوغل، والشاعر والكاتب الصحفي الموريتاني محمد ولد إدوم، على البحر البسيط ورويّ الباء، في اختبار حيّ لقدرة الآلة على مجاراة الشعر العربي العمودي، لا بوصفه وزنا فقط، بل معنى وإحساسا ونقدا.
التجربة لم تكن استعراضا تقنيا بقدر ما كانت مواجهة ثقافية: شاعر يعرف أدواته، وبرنامج يحاول أن يُقنع خصمه، والقارئ بأنه لا يكتفي بصناعة "المبنى"، بل يمتلك شيئا من "المعنى".
خلال مشواره الشعري، حصد محمد ولد إدوم تقديرا مهما في عدة مسابقات شعرية عربية ودولية، مما يعكس حضوره ومكانته في فضاءات الشعر الفصيح. ومن أبرز إنجازاته في هذا المجال فوزه بالمركز الرابع في "جائزة البردة" للشعر الفصيح في الإمارات عن قصيدته "أمي أمي" ضمن الدورة السابعة عشرة لهذه الجائزة، التي تُعدّ من الفعاليات الشعرية البارزة في العالم العربي، وتُمنح في الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف وتضم فئات متعددة للشعر والخط والزخرفة.
كما تأهل ولد إدوم إلى نهائيات "مسابقة سوق عكاظ" الدولية للشعر العربي الفصيح، وهي من المسابقات الكبرى في الفضاء الثقافي العربي التي تستقطب كبار الشعراء الشباب من مختلف البلدان، وقد حظي في السابق أيضا بترتيب متقدم في برنامج "أمير الشعراء" التلفزيوني المعروف، مما عزز شهرته وترسّخ حضوره في المشهد الشعري.
"جيميناي 3 برو" هو أحدث وأقوى نماذج الذكاء الاصطناعي التي طورتها شركة جوجل ضمن عائلة جيميناي، ويُعدّ قفزة نوعية في قدرات النماذج الذكية على مستوى الفهم المعرفي والاستدلال المتقدم عبر نصوص وصور وفيديوهات ومحتوى مرئي آخر.
النموذج يتميّز بقدرة عالية على فهم المستندات المعقدة وتحليلها بصريا ونصيا، بما في ذلك القراءة الدقيقة للنصوص داخل الصور والجداول المعقدة والرسوم البيانية، وصولا إلى استنتاجات منطقية متقدمة لا تقتصر على التعرّف البصري فقط.
كما أنّه يقدم أداء قويا في الفهم المكاني والفيديو والمعالجة متعددة الوسائط، ما يمكّنه من التعامل مع محتوى ديناميكي والتقاط العلاقات السببية عبر اللقطات الزمنية، إضافة إلى توسيع إمكانات الأتمتة والاستدلال المعمّق في مهام ضخمة مثل تحويل محتوى بصري إلى كود أو تحليل وثائق معقّدة.
قمنا بالطلب من النموذج أن يقوم بالسجال مع الشاعر ولد إدوم والالتزام بالعروض والقافية، وقد كانت هذه إجابته على بيتي الشاعر الذي تحداه في السجال الأولي:
ومنذ البيت الأول، بدا واضحا أن البرنامج يمتلك قدرة لافتة على الالتزام بالوزن والقافية، والانتقال السريع بين الصور والاستعارات، دون الوقوع في أخطاء عروضية شائعة يقع فيها أحيانا شعراء متمرّسون، حسب بن إدوم.
ويرى بن إدوم أن السرعة كانت العامل الأكثر إثارة للدهشة فردوده فورية، موزونة، ومتماسكة ظاهريا، وكأنها جزء من سجال تقليدي بين شاعرين يجلسان في مجلس واحد.
يقول محمد ولد إدوم، في تقييمه الأولي للتجربة: إن أكثر ما أدهشه هو "السرعة أولا، ثم اللغة الشعرية المحلّقة، ثم الذكاء في التقاط الفكرة والرد عليها بوضوح، ثم الحس الموسيقي الذي حافظ على الوزن دون تعثّر".
لكن هذه الإشادة لم تمنع الشاعر من الانتقال سريعا إلى السؤال الأهم: هل يكفي ذلك ليكون شعرا؟
مع تقدّم السجال، بدأت الفجوة تظهر بوضوح فقد انبهر ولد إدوم في البداية من رد جيميناي، لكن سرعان ما تدارك الأمر وأرسل له البيتين التاليين:
مصدر الصورة
فالبرنامج، وإن دافع عن نفسه بذكاء بلاغي، ظلّ -في نظر منافسه- أسير "المبنى" أكثر من كونه مالكا لـ"المعنى"، حسب الشاعر.
في لحظة نقدية مفصلية، لخّص ولد إدوم ملاحظته الجوهرية بقوله: "إن أبيات الذكاء الاصطناعي كلمات مرصوصة بعناية، لكنها تفتقد إلى تلك الروح والاهتزاز الداخلي الذي يجعل البيت الشعري حيا".
وأضاف أن بعض التراكيب المستخدمة بدت مألوفة إلى حد الإرباك، كأنها صدى لأبيات قديمة أو أنماط محفوظة، دون أن يستطيع تحديد مصدرها بدقة، وهو ما يُعيد فتح السؤال القديم الجديد: هل يخلق الذكاء الاصطناعي.. أم يعيد تركيب الذاكرة الجمعية؟
في الجولة الثالثة قام الشاعر برفع التحدي واتهم النموذج بـ"الكذب" لأنه يصف كلمات في شعره بدون روح، وهنا كان رد النموذج قويا.
فاللافت أن النموذج، في سياق دفاعه عن "كذبه الفني" وشرعية الخيال، استخدم حججا نقدية معروفة في التراث العربي مثل مقولة: "أعذب الشعر أكذبه".
لكن، معضلة، هذا الدفاع -كما يرى الشاعر- كشف محدودية الوعي السياقي، إذ بدا وكأنه يستعير حججا نقدية جاهزة دون إدراك كامل لتعقيدها التاريخي والجمالي.
بعبارة أخرى: البرنامج يُجادل بذكاء، لكنه لا "يُراكم تجربة".
يرى الشاعر محمد ولد إدوم أن أول ما يلفت في أداء الذكاء الاصطناعي خلال السجال هو السرعة الفائقة في الرد، إذ تمكّن من إنتاج بيتين موزونين فورا، وبوتيرة يصعب حتى على شعراء متمرّسين مجاراتها في سياق سجال مباشر.
هذه السرعة لم تكن معزولة عن جودة لغوية، بل رافقتها لغة شعرية فصيحة وصور بلاغية مُحكَمة، عكست قدرة واضحة على التعامل مع المعجم العربي الكلاسيكي وصياغته ضمن بناء شعري متماسك، وهو يعترف أنه تفوق عليه بالسرعة والتقاط الفكرة.
فالشاعر يرى أن البرنامج أظهر ذكاءً لافتا في التقاط الفكرة المقصودة بكل بيت والرد عليها مباشرة دون انحراف عن السياق، مع حس موسيقي دقيق حافظ من خلاله على البحر والقافية دون الوقوع في أخطاء عروضية، وهي أخطاء -كما يشير- يقع فيها شعراء أحيانا رغم خبرتهم، كما لمس في بعض الردود نزعة فكاهية ومحاولة واعية لمحاكاة أجواء السجال بين شاعرين، لا مجرد تفاعل آلي بين شاعر وبرنامج.
لكنّ ولد إدوم يؤكد أن هذه القوة الشكلية كشفت في الوقت نفسه عن نقطة ضعف جوهرية، تتمثل في غياب الروح والإحساس العميق. فالأبيات -برأيه- بدت مصقولة ومصفوفة بعناية، لكنها تفتقد الارتجاف الداخلي الذي يجعل البيت الشعري حيا ومتصلا بتجربة إنسانية حقيقية، وهو ما جعله يشعر بأن الذكاء الاصطناعي يتفوّق في الصنعة أكثر مما يتفوّق في المعنى.
ويلاحظ الشاعر أيضا أن بعض التراكيب والصور المستخدمة كانت مألوفة إلى حد الإرباك، وكأنها صدى لأبيات قديمة أو أنماط محفوظة، دون وعي واضح بمصادرها أو سياقاتها الأصلية. كما أن البرنامج، في سياق دفاعه عن نفسه، لجأ أحيانا إلى حجج نقدية كلاسيكية تُدين موقفه أكثر مما تخدمه، لأنها تكشف محدودية الوعي السياقي بدل أن تؤسس لمعنى جديد أو رؤية شعرية متجاوزة.
وخلاصة هذا التقييم، كما يعبّر الشاعر، أن الذكاء الاصطناعي متفوّق في المبنى ومتأخر في المعنى، يقدم مباني جميلة ومتماسكة، لكنها لم تبلغ بعد مستوى الامتلاء الشعوري الذي يصنع الشعر بوصفه تجربة، لا مجرد وزن وقافية. ولهذا منح التجربة تقييما نهائيا بلغ 6 من 10، واصفا إياه بأنه "نصف العلامة زائد واحد".
المصدر:
الجزيرة