آخر الأخبار

التنبؤات التكنولوجية.. دروس الماضي ورهانات المستقبل

شارك

لطالما سحرت الإنسان فكرة استشراف المستقبل، مدفوعا بفضول لا ينتهي وشغف للتحكم بمصيره. وفي عالم التكنولوجيا المتسارع، تتوالى التوقعات بوتيرة عالية، بعضها يصيب كبد الحقيقة ويغير وجه العالم، وبعضها الآخر يخفق إخفاقا ذريعا ليتحول إلى مادة للتندر.

دعونا نستعرض معا رحلة هذه التنبؤات، من الأخطاء الكبرى التي سخر منها التاريخ إلى الرؤى الثاقبة التي شكلت واقعنا، وصولا إلى الرهانات الجريئة التي يضعها مفكرو المستقبل على العقود القادمة.

مصدر الصورة كين أولسن، مؤسس شركة ديجيتال إكويبمنت، توقع أن "لا أحد يحتاج إلى حاسوب في منزله" (شترستوك)

أولا: توقعات أخفقت

تُظهر لنا التنبؤات الفاشلة مدى صعوبة التكهن بمسارات التكنولوجيا غير الخطية وتأثيرها الاجتماعي العميق. فما بدا مستحيلا في زمن، أصبح واقعا ملموسا بعد سنوات قليلة:

في عام 1895، صرح اللورد كلفن، عالم الفيزياء البارز ورئيس الجمعية الملكية البريطانية بما يلي: "آلة الطيران الأثقل من الهواء مستحيلة". لكن بعد 8 سنوات فقط، وفي عام 1903، حقق الأخوان رايت أول رحلة طيران ناجحة، مغيرين بذلك وجه النقل والسفر إلى الأبد.

وفي عام 1936، نشرت صحيفة نيويورك تايمز ما يلي: "لن يغادر صاروخ الغلاف الجوي للأرض أبدا". لكن في 29 يونيو/حزيران 1944، دحضت ألمانيا هذا التنبؤ بصاروخ تمكن من الارتفاع إلى 176 كيلومترا، وتلا ذلك رحلات صاروخية عديدة حملت البشر إلى الفضاء ومن ثم القمر.

وفي عام 1946، ينسب إلى داريل إف زانوك، رئيس الإنتاج في فوكس القرن العشرين القول: "التلفزيون لن يدوم. سوف يتعب الناس قريبا من التحديق في الصندوق كل ليلة". لكن بعد مدة ليست بالطويلة أصبح التلفزيون الوسيلة الإعلامية الأكثر انتشارا لعقود، وما زال جزءا رئيسيا من الترفيه اليومي.

وفي عام 1961، قال تي إيه إم كرافن، المفوض في لجنة الاتصالات الفيدرالية الأميركية: "لا توجد فرصة عملية لاستخدام أقمار الاتصالات الفضائية لتقديم خدمة هاتفية أو تلغرافية أو تلفزيونية أو إذاعية أفضل داخل الولايات المتحدة". لكن في عام 1965 أي بعد 4 سنوات فقط، دخل أول قمر صناعي تجاري للاتصالات الخدمة، وأصبحت الأقمار الصناعية حجر الزاوية في الاتصالات العالمية.

إعلان

وفي عام 1977، قال كين أولسن، مؤسس شركة ديجيتال إكويبمنت: "لا أحد يحتاج إلى حاسوب في منزله"، لكن العقود اللاحقة شهدت انتشارا هائلا للحواسيب الشخصية التي أصبحت أداة لا غنى عنها في كل منزل تقريبا.

وفي عام 1995، قال روبرت متكالف، مخترع الإيثرنت، ومؤسس شركة 3 كوم: "الإنترنت سوف ينهار"، وهو ما لم يحدث إطلاقا، بل ازداد ازدهارا وانتشارا. وفي عام 1997، اعترف ميتكالف بأن توقعه كان خطأ، وقام في لفتة رمزية، بإتلاف مقالته التي وردت فيها عبارته هذه وأكلها أمام الجمهور في مؤتمر دولي عن شبكة الإنترنت في بوسطن.

وحتى ستيف جوبز مؤسس شركة آبل كان مخطئا عندما اعتقد أن المستخدمين لن يدفعوا اشتراكا شهريا للوصول إلى مكتبة موسيقية عبر الإنترنت، إذ قال عام 2003: "اشتراكات الموسيقى مفلسة"، لكننا نرى اليوم أن منصات مثل سبوتيفاي وأبل تهيمن على اشتراكات الموسيقى.

ثانيا: توقعات تحققت

في المقابل، تميزت بعض الرؤى بدقة مذهلة: ففي عام 1926، تنبأ نيكولا تسلا، المخترع والمهندس الصربي الأميركي، في مقال نشرته مجلة كوليرز، بأننا "سنكون قادرين على إرسال رسائل لاسلكية إلى جميع أنحاء العالم ببساطة، بحيث يمكن لأي شخص أن يحمل جهازه ويشغّله بنفسه. وسنكون قادرين على أن نرى ونسمع بعضنا بعضا، كما لو كنا وجها لوجه، رغم المسافات الفاصلة التي تبلغ آلاف الأميال، وستكون الأجهزة التي ستمكننا من فعل ذلك بسيطة بشكل مذهل مقارنة بهاتفنا الحالي، وسيتمكن الإنسان من حملها في جيب سترته". رؤيته هذه لم تتحقق إلا بعد نحو 80 عاما مع تطور وانتشار الهواتف الذكية عام 2007.

وفي عام 1964، توقع العالم والكاتب البريطاني آرثر سي كلارك ظهور "محطة طرفية منزلية متصلة بشبكة عالمية للمعلومات"، وهو ما بدأ يتحقق تدريجيا في الـ30 سنة الأخيرة من القرن الماضي، وانتشر مع انتشار الحواسيب الشخصية المتصلة بشبكة الإنترنت من المنزل في منتصف التسعينيات.

وفي عام 1968، طرح عالم الحاسوب الأميركي آلان كي مفهوم "داينابوك"، وهو جهاز إلكتروني بحجم كتاب متعدد الاستخدامات، وهو ما تحقق عام 2007 مع جهاز كيندل (Kindle) من أمازون الذي شكّل البداية الفعلية لانتشار قارئات الكتب الإلكترونية. وتلى ذلك انتشار الأجهزة اللوحية عام 2010، مع جهاز آيباد (iPad) الذي طورته شركة آبل. والجدير بالذكر أن عبارة: "أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هي اختراعه" ارتبطت باسم آلان كي، وانتشرت في أوساط المتحدثين عن الابتكار والتكنولوجيا.

وفي عام 1980، توقع المفكر والكاتب أميركي الشهير ألفين توفلر -في كتابه "الموجة الثالثة"- انتشار العمل عن بعد والمكاتب الإلكترونية، وهو ما تحقق بعد انتشار جائحة كورونا عام 2020.

وفي عام 1990، تنبأ عالم المستقبليات والكاتب الأميركي راي كرزويل أن يهزم الحاسوب بطل العالم في الشطرنج قبل عام 1998، وهو ما تحقق عام 1997 عندما هزم الحاسوب ديب بلو2 الذي طورته "آي بي إم" بطل العالم في الشطرنج آنذاك غاري كاسباروف.

وفي عام 1996، تنبأ بيل غيتس أن يصبح الإنترنت المصدر الرئيسي للمعلومات، وأن تلعب محركات البحث الدور المركزي في تنظيم هذا المحتوى والوصول إليه. وقد تحقق ذلك مع صعود محرك غوغل الذي تم إطلاقه عام 1998.

مصدر الصورة إريك شميدت يرى أن العالم على بُعد 3-5 سنوات من ظهور ذكاء اصطناعي يضاهي أو يفوق ذكاء أي مفكّر (مواقع التواصل)

ثالثا: توقعات مستقبلية

لا تزال هناك توقعات كبيرة تنتظر التحقق معظمها مرتبطة بالذكاء الاصطناعي. ففي مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية عام 1951، قال عالم الرياضيات والحاسوب البريطاني آلان تورنغ "حين ينطلق التفكير الآلي، لن تحتاج الآلات إلى وقت طويل حتى تتخطّى قدراتنا المتواضعة"، في حين كان يناقش إمكانات "الآلات المفكرة" قبل وقت طويل من ظهور الذكاء الاصطناعي بشكل ملموس. تعكس هذه المقولة بصيرته العميقة حول مستقبل الذكاء الاصطناعي وإمكانية تفوقه على الذكاء البشري.

إعلان

وفي كتابه "عصر الآلات الروحية" الصادر عام 1999، توقع المخترع والكاتب المستقبليّ الأميركي راي كرزويل ظهور ذكاء اصطناعي بمستوى ذكاء البشر عام 2029. وأكد توقعه هذا عام 2005 في كتابه "التفرد قريب"، ثم عام 2024 في كتابه الأحدث "التفرد أقرب". وتوقع أيضا أن يصل الذكاء الاصطناعي إلى مستوى التفرد التكنولوجي (Singularity) بحلول عام 2045، وهي النقطة التي يتفوق فيها الذكاء الاصطناعي بشكل كبير على الذكاء البشري ويبدأ بتطوير ذاته بسرعة فائقة.

كما يراهن كرزويل على تحقيق إطالة كبيرة في عمر الإنسان عبر زرع النانوبوتات (روبوتات دقيقة جدا) داخل جسم الإنسان بحلول عام 2030، ودمج الوعي البشري مع الآلات بحلول 2040.

وفي عام 2004، تناول عالم الشيخوخة البريطاني أوبري دي غراي مفهوم سرعة الإفلات من الشيخوخة (Longevity Escape Velocity) بالتفصيل، وأوضح أنه في اللحظة التي تصبح فيها علاجات تجديد الإنسان قادرة كل عام على إضافة أكثر من عام إلى العمر الصحي، فتتجدد الأجسام دوريا. وتوقع في أغلب تصريحاته أن يحدث ذلك في الفترة من أوائل إلى منتصف الثلاثينيات. ومن الجدير بالذكر أن هذا المفهوم بمعناه العام كان موجودا في أوساط المهتمين بتأخير الشيخوخة منذ سبعينيات القرن الماضي على الأقل.

وفي مقابلة أجرتها مجلة ريزون (Reason) عام 2017 مع المؤسس المشارك لجامعة التفرد في وادي السليكون، خوسيه لويس كورديرو، قال: "بعد 30 سنة سأكون أصغر بيولوجيا وليس أكبر مما أنا عليه الآن.. لماذا؟ لأن تقنيات إعادة الشباب التي نجري عليها تجارب الآن ستصبح متوفرة". حاول أن تبقى على قيد الحياة حتى عام 2047، كي تتأكد من صحة أو خطأ هذا التوقع.

وفي عام 2023، قال أستاذ علم الوراثة بجامعة هارفرد، ديفيد سينكلير: "نحن نرى الشيخوخة مشكلة برمجيات يمكن تطويرها وإعادة تشغيلها"، وصرّح عام 2024 بأنه يعتقد أننا "سنتمكن من التحكّم في عمرنا البيولوجي خلال السنوات العشر القادمة، وربما أسرع".

تزايدت عام 2025 توقعات خبراء التكنولوجيا باقتراب الذكاء الاصطناعي من مستوى الذكاء البشري العام (AGI)، فقال داريو أمودي، الرئيس التنفيذي والمؤسّس المشارك لشركة أنثروبيك (Anthropic) المتخصصة بالذكاء الاصطناعي "نحن على مسار يقود خلال عامين إلى 3 أعوام إلى أنظمة تتفوق على البشر في كل مهمة".

ويرى إريك شميدت، الرئيس التنفيذي السابق لغوغل، أن العالم على بُعد 3-5 سنوات من ظهور ذكاء اصطناعي يضاهي أو يفوق ذكاء أي مفكّر أو مبدع بشري، ويتساءل عمّا سيحدث حين يحمل كل فرد نسخة من أذكى إنسان في جيبه.

ويعتقد سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة أوبن إيه آي، أن بوادر الذكاء الاصطناعي العام قد ظهرت بالفعل، كما بدأت تتضح صورة النمو الاقتصادي/ الاجتماعي الهائل الذي سيحدثه، مثل علاج جميع الأمراض، وإطلاق إبداع الإنسان بالكامل.

وفي مقابلة حديثة مع مجلة "وايرد" الأميركية، قال ديميس هاسابيس الرئيس التنفيذي لشركة غوغل ديبمايند: لم يبق سوى 5 سنوات لبلوغ "العصر الذهبي"، حين تُطلق نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدّمة ثورة في مسيرة الوجود الإنساني.

ليس جميع التوقعات متفائلة بمستقبل الذكاء الاصطناعي، بل إن بعضها تحذر من الجانب السلبي له. ففي يوليو/تموز 2015، نشر معهد مستقبل الحياة (Future of Life Institute) رسالة مفتوحة موجهة إلى قادة العالم، والمنظمات الدولية، والجهات المسؤولة التي تضع السياسات المتعلقة بالأسلحة والحرب، لتوحيد الجهود والتشريعات لمنع استخدام الأسلحة القائمة على الذكاء الاصطناعي من دون إشراف بشري.

وقّع على هذه الرسالة أكثر من ألف باحث في مجال الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى شخصيات بارزة مثل العالم الراحل ستيفن هوكينغ ورجل الأعمال إيلون ماسك، وجاء فيها: "لن يطول الأمر حتى تظهر الأسلحة الذاتية في السوق السوداء وفي أيدي الإرهابيين والأنظمة الاستبدادية التي تسعى إلى تعزيز سيطرتها على شعوبها… فالأسلحة الذاتية مثالية لأداء مهام مثل الاغتيالات، وإثارة عدم الاستقرار في الدول، وقمع الشعوب، وقتل جماعات عرقية معينة بشكل انتقائي".

إعلان

ختاما، تبقى رحلة الإنسان في استشراف المستقبل حافلة بالدروس والمفاجآت، وغالبا ما يكون مسار التطور أكثر تعقيدا وإثارة من أي توقع بشري. وهذا يجعلنا نتساءل: هل من المحتمل أن نشهد صحة التنبؤ الذي أطلقه عالم الرياضيات والإحصاء البريطاني إيرفينغ جون غود عام 1965: "إن أول آلة فائقة الذكاء ستكون آخر اختراع سيحتاج الإنسان إلى صنعه على الإطلاق"؟

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار