أثار ظهور اتجاه "الرحيل الرقمي" جدلاً في الأوساط الدينية والاجتماعية، بعد أن بدأت شركات ناشئة عالمية في اللجوء إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي لإنشاء نسخ رقمية تحاكي أصوات وصور وتصرفات المتوفين، بهدف الحفاظ على التواصل مع أحبائهم. ما هو الرأي الديني وما هي التأثيرات النفسية؟
صرح الدكتور محمد محسن رمضان، رئيس وحدة الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني بمركز العرب للأبحاث والدراسات لـ"العربية.نت/الحدث.نت"، بأن ظاهرة "الرحيل الرقمي" تعكس تحولاً جوهرياً في استخدام الذكاء الاصطناعي، من أداة إنتاجية إلى مجال يلامس المشاعر الإنسانية العميقة كالفقد والحزن. وأشار إلى ظهور شركات عالمية مثل HereAfter AI (في الولايات المتحدة) التي تخزن تفاصيل دقيقة وصوت الشخص لإنشاء نسخة رقمية تفاعلية بعد وفاته، وDeepBrain AI (في كوريا الجنوبية) التي تستخدم التزييف العميق لإنتاج صور وفيديوهات تفاعلية تحاكي المتوفى. كما توجد تطبيقات مثل Replika AI وProject December التي تتيح محادثات نصية توليدية تعيد إحياء شخصية الراحل رقمياً.
وأوضح الدكتور محسن رمضان أن هذه التطبيقات، رغم اعتبارها وسيلة لتخفيف الألم لدى البعض، تثير تحديات معقدة. تشمل هذه التحديات جوانب أمنية وتقنية، تتمثل في خطر استغلال النسخ الرقمية للابتزاز الإلكتروني أو الاحتيال المالي والعاطفي. كما توجد تحديات قانونية بسبب غياب تشريعات واضحة تحمي "الهوية الرقمية" بعد الوفاة وتحدد حقوق استخدامها أو منعها. وتبرز تحديات اجتماعية ونفسية تتمثل في الانغماس في التواصل مع نسخة افتراضية قد يعيق التكيف مع الفقد ويؤدي إلى العزلة وواقع زائف. بالإضافة إلى ذلك، هناك تحديات أخلاقية ودينية، حيث أن إعادة صياغة صورة وصوت المتوفى تتعارض مع قيم إنسانية ودينية تعتبر الموت نهاية حتمية للحياة.
واختتم الدكتور رمضان بالقول إن هذه الظاهرة لا تعيد الموتى فعلياً، بل تنشئ محاكاة اصطناعية قد تتطور إلى صناعة تجارية ضخمة. وفي الوقت ذاته، تفتح الباب أمام تهديدات للأمن الرقمي والهوية الإنسانية. لذا، يصبح من الضروري وضع أطر تشريعية وأخلاقية صارمة لتحقيق التوازن بين الابتكار التكنولوجي وحماية الكرامة الإنسانية.
وصرح مفتي الديار المصرية الأسبق، الدكتور نصر فريد واصل، في تصريحات خاصة لـ "العربية.نت" و"الحدث.نت"، بأن دخول الذكاء الاصطناعي في مسألة الحياة والموت يمثل إشكالية كبيرة. وأوضح أنه رغم وجود مزايا للتكنولوجيا التي يجب استغلالها وتوظيفها لصالحنا، إلا أن هناك سلبيات عديدة ناجمة عنها. وأشار إلى أن الموت من الأمور الغيبية، وأن أمر الشخص المتوفى ينقطع بالنسبة للدنيا.
ويرى مفتي مصر الأسبق أن هذه المحاكاة للموتى لا يعتد بها شرعياً، خاصة فيما يتعلق بالحقوق والميراث. وأكد أنه لا يؤخذ أو يعتد بأي شيء يتعلق بحقوق الناس من شخص متوفى، لأن أموره تنقطع عن الدنيا بوفاته. وأشار إلى أن هذا الأمر قد يخلق مشاكل اجتماعية تتعلق بالحقوق والواجبات، حيث قد يؤدي الحوار التفاعلي إلى معلومات غير حقيقية، مثل وجود مستحقات مالية لدى أحد الأقارب، ما يسبب مشاكل أسرية عند المطالبة بها. وأكد أن الخلاصة هي أن عمل نماذج محاكاة للموتى غير جائز شرعاً، لأن سلبياته تفوق إيجابياته.
من جانبه، صرح استشاري الصحة النفسية، الدكتور وليد هندي، في تصريحات خاصة لـ "العربية.نت/الحدث.نت"، بأن موضوع تحريك الموتى وجعلهم يتحدثون يثير الشجن ويستدر مشاعر الحنين والإيجابية المرتبطة بالمتوفى. وأوضح أن ذلك يخلق حالة من "الناستولوجيا"، التي تؤدي إلى نوع من الانفصام الحميد والهروب المؤقت من ضغوط الحياة والظروف الحالية، للعيش مع من رحلوا واستذكار ذكريات طيبة. وأشار إلى أنه إذا استخدمت هذه التقنية مع فنانين قدامى كانوا مصدر سعادة، مثل فنانين الكوميديا، فإنها تحرك الوجدان وتبث السعادة وتسمح بالتخيل. كما أن استخدامها مع شخصيات تاريخية لتعليم الأطفال التاريخ قد يكون حميداً.
وتابع الدكتور هندي أنه عند اللجوء إلى هذا الأمر مع الأقارب، قد يتم استحضار الذكريات الأليمة وتجديد مشاعر الحزن. وقد يدفع ذلك إلى تذكر مساوئ المتوفى، مما يخدش العورات النفسية ويولد ألماً وغضباً تجاهه. وقد يصاب البعض بالانفصام عن الواقع والاستغراق في الحنين إلى الماضي، مما قد يخلق وسواساً مرضياً. وقد تحدث تهيئات بوجود المتوفى أو سماع صوته، مصحوبة بشعور بالقلق والخوف عليه بخصوص عذاب القبر والحساب، ما يؤدي إلى استغراق في أحلام اليقظة. كما قد يؤدي ذلك إلى أحلام وكوابيس مزعجة، ويدفع الإنسان إلى القلق من الموت، وهو أعلى درجات القلق، ما يجعله ينشغل بخبرات الحياة والآخرة وما يترتب عليها في البعث. وقد يصاب البعض بمتلازمة القلب المنكسر، وهي أعراض تشبه أعراض جلطة القلب، لأن هذه الحالة تذكره بلحظة فقدان المتوفى ومواضيع الميراث وخلافاتها. وأكد أن السلبيات أشد ضرراً من الإيجابيات.