يبدو أن العد التنازلي قد بدأ بالفعل، فبعد أن كان الحديث عن الذكاء الاصطناعي واستبداله لوظائف البشر مجرد تخوفات مستقبلية، أصبحت هذه المخاوف حقيقة ملموسة نعيشها سريعًا.
وقد حذرت تقارير حديثة من بنك غولدمان ساكس من أن الذكاء الاصطناعي قد يحل محلّ ما يصل 300 مليون وظيفة حول العالم وسط موجة من التغييرات الجذرية في سوق العمل.
ففي عام 2025 وحده، ألغى الذكاء الاصطناعي أكثر من 76 ألفا و440 وظيفة، مؤكدًا أن التحولات ليست بعيدة، بل هي واقع متسارع نحو عام 2026.
في الماضي، كان المحامون يتقاضون أجرا يصل إلى 500 دولار في الساعة لمراجعة العقود، لكن هذا الواقع تغير جذريا اليوم.
فمنصّات الذكاء الاصطناعي القانونية مثل "هارفي" (Harvey) و"دو نوت باي" (DoNotPay) لم تعد مجرد أدوات مساعدة، بل أصبحت تتولى مهام معقدة كانت تتطلب سنوات من الدراسة وخبرة طويلة، مثل مراجعة المستندات، وتحليل العقود، والبحث القانوني.
والواقع الأكثر إثارة للدهشة أن المحامي المبتدئ قد يراجع 20 عقدا يوميا، في حين يستطيع الذكاء الاصطناعي معالجة 2000 عقد في الوقت نفسه بدقة 99.7%.
مثال واقعي على ذلك، شركة "لينك لايترز" (Linklaters) واحدة من كبرى شركات المحاماة عالميا، تستخدم الذكاء الاصطناعي لمراجعة العقود التجارية في دقائق بدل ساعات، مما خفض التكاليف من عشرات الآلاف من الدولارات إلى اشتراك برنامج قيمته بضع مئات الدولارات فقط.
وعليه، فإن الوظائف التي تتأثر مباشرة بهذا التحول تشمل مراجعي العقود، والباحثين القانونيين، ومسؤولي الامتثال، ومحللي المستندات، والأمناء القانونيين.
والمفارقة تكمن في أن المهنة التي تضع قوانين العمل على وشك أن تتعلم بنفسها معنى "التوظيف حسب الرغبة".
إذا كانت وظيفتك تعتمد على جداول البيانات والتقارير المالية، فاعلم أن وقتك محدود. برامج مثل "مايند بريدج" (MindBridge) و"آب زين" (AppZen) تكشف الاحتيال، وتعالج الفواتير، وتجري التقارير المالية بسرعة وبدون أخطاء على مدار الساعة.
إذن، لماذا تدفع لفِرق محاسبة مكلّفة في وقت يمكن فيه للذكاء الاصطناعي إنجاز العمل بتكلفة أقل؟
مثال حقيقي على ذلك، برنامج "كوين" (COIN) من "جي بي مورغان" (JPMorgan) يعالج في ثوان ما كان يتطلب 360 ألف ساعة عمل سنويًا، أي ما يعادل 180 موظفا بدوام كامل.
ومن أكثر الوظائف التي ستتأثر في هذا المجال هي حسابات الدائنين والمدينين، وإعداد الضرائب، والتدقيق، والتنبؤ بالميزانيات، وإدارة النفقات.
بينما يشعر الأطباء والممرضون بالأمان، يواجه الإداريون في قطاع الرعاية الصحية خطر فقدان وظائفهم بسبب الأتمتة الذكية.
على سبيل المثال، الترميز الطبي، ومعالجة مطالبات التأمين، وجدولة المواعيد، وإدخال بيانات المرضى، كلها مهام بدأت تنتقل تدريجيا إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي.
في هذا السياق، تستخدم شركة "أنثم" (Anthem) الذكاء الاصطناعي لمعالجة أكثر من 200 مليون مطالبة طبية سنويا، مما يخفض التكاليف بشكل كبير ويسرّع وقت المعالجة من أسابيع إلى دقائق فقط.
في هذا السياق، ستشملُ الوظائف التي ستتعرّض للاندثار مبرمجي وترميز الفواتير الطبية، ومعالجي مطالبات التأمين، وأخصائيي تسجيل المرضى، وفنيّي السجلات الطبية، ومنسقي الموافقات المسبقة، ومشغلي إدخال البيانات.
المفارقة القاسية هنا تكمن في أن الذكاء الاصطناعي يحسّن من كفاءة الرعاية الصحية، لكنه في الوقت نفسه يهدد آلاف الموظفين بفقدان عملهم.
يمثل موظفو خدمة العملاء الخط الأول في مواجهة تأثير الذكاء الاصطناعي، حيث أصبحت برامج الدردشة الآلية وبرامج المساعدين الصوتيين تتولى إدارة نحو 80% من الاستفسارات الروتينية دون تدخل بشري.
على سبيل المثال، يقوم برنامج "إريكا" (Erica) في بنك أميركا بإدارة أكثر من مليار تفاعل مع العملاء سنويًا، مما يعادل عمل آلاف موظفي مراكز الاتصال.
نتيجة لذلك، تتعرض وظائف مثل ممثلي الدعم الهاتفي، ومشغلي الدردشة المباشرة، وأخصائيي الدعم الفني، ومنسقي خدمة العملاء، وفنيي مكاتب المساعدة، ومشرفي مراكز الاتصال، إلى خطر الاندثار.
لذلك، في المرة القادمة التي تتحدث فيها إلى "خدمة العملاء"، قد تجد نفسك تتحدث إلى آلة تتمتع بصبر لا ينفد ومعرفة أوسع من أي إنسان.
لطالما كانت مهمة إنشاء المحتوى وتحليل البيانات من اختصاص البشر فقط، لكن الأمر تغير بشكل جذري مع ظهور نماذج الذكاء الاصطناعي مثل "جي بي تي-4″ (GPT-4) و"جي بي تي-5″ (GPT-5) و"كلود" (Claude).
هذه التقنيات باتت الآن قادرة على كتابة المقالات وإعداد التقارير وتحليل البيانات بسرعة فائقة وتكلفة أقل بكثير.
على سبيل المثال، تستخدم وكالة أسوشيتد برس الذكاء الاصطناعي لكتابة آلاف تقارير الأرباح والملخصات الرياضية سنويًا، الأمر الذي كان يتطلب سابقًا فريقا كبيرا من الصحفيين والمحررين.
وبالتالي، فإن الوظائف التي تواجه خطر الاندثار تشمل كُتّاب المحتوى، ومتخصصي إدخال البيانات، ومديري وسائل التواصل الاجتماعي، ومحللي أبحاث السوق، والمساعدين الإداريين، والمترجمين، وحتى مصممي الغرافيك الأساسيين.
على صعيد العالم العربي، يواجه سوق العمل، وخاصة بدول الخليج، تحولات عميقة نتيجة انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تهدد وظائف تقليدية في قطاعات متعددة مثل خدمة العملاء والتعليم والتجزئة والسفر.
وفي دول الخليج تحديدا تتعقد الصورة بسبب سياسات "التوطين"، حيث يواجه آلاف المواطنين خطر فقدان وظائفهم بسبب استبدال الأدوار التقليدية واستعمال أنظمة ذكية متطورة.
فعلى سبيل المثال، رغم الجهود المستمرة لتوظيف المواطنين في مراكز الاتصال عن بعد، ظهرت شركات ناشئة مثل شركة "صوت" السعودية تقدم وكلاء ذكاء اصطناعي قادرين على أداء هذه المهام بكفاءة عالية، مما يهدد استمرارية هذه الوظائف.
وعلى الرغم من أن التأثير لا يزال تدريجيا، فإن تقارير المنتدى الاقتصادي العالمي تتوقع استبدال 92 مليون وظيفة في منطقة الخليج بحلول عام 2030، مع خلق فرص جديدة ستنبثقُ من الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية الرقمية.
لمواجهة هذا الواقع، تبنّت دول مثل السعودية مبادرات وطنية لتدريب المواطنين على مهارات الذكاء الاصطناعي، سعيا لضمان دمج القوى العاملة الوطنية في الاقتصاد الرقمي المتطور.
ويعدّ هذا التحوّل اختبارا حقيقيا لإستراتيجيّات التوطين التي بات لزامًا عليها أن تتكيف بسرعة مع التغيرات التقنية المتسارعة لضمان استدامة فرص العمل في المستقبل.
الذكاء الاصطناعي لا يكتفي بإلغاء الوظائف، بل يعيد تعريفها بالكامل، إذ تشير التوقعات إلى أن 800 مليون وظيفة حول العالم قد تتغير أو تختفي بحلول عام 2030، في حين يرى 70% من الموظفين أن الذكاء الاصطناعي التوليدي سيغير أكثر من ثلث مهامهم الحالية.
إذا كنت تعمل في إحدى هذه المجالات الخمسة، أمامك خياران واضحان:
في النهاية، الشركات لا تتصرف بدافع الشر، بل وفق منطق الكفاءة والفعالية، الذي لا يقدم تعازي للعاطلين. فالتغيير قادم لا محالة، لكنه بداية جديدة لمن يعرف كيف يحول التغيير إلى مكسب.