آخر الأخبار

عالم بلا زمان ولا مكان.. كيف يفكر العلماء في ما لا نراه؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

مقدمة الترجمة

اعتدنا أن ننظر إلى العالم كما لو كان بناء مكتمل الأركان: جسيمات واضحة، وزمان يمضي في خط مستقيم، ومكان يحتضن كل شيء في صمت، و دورنا كمراقبين هو مجرد تسجيل ما يحدث. لكن ماذا لو كانت هذه الصورة، بكل بساطتها المريحة، مضلّلة؟

في قلب الفيزياء الحديثة، تفصح نظرية الكم عن واقع أكثر غرابة مما نتصور: واقع لا تكون فيه الجسيمات هي الأساس، ولا يكون للمراقب أي امتياز خاص، بل تنشأ فيه الظواهر من شبكة عميقة من العلاقات الكمية. في هذا التقرير المترجم من مجلة "نيوساينتست"، يأخذنا عالم الفيزياء النظرية من جامعة أكسفورد، فلاتكو فيدرال، في رحلة هادئة عبر هذه الأفكار، لنعيد التفكير في ما نعدّه بديهيا، بدءا من القياس والملاحظة، إلى طبيعة الجسيمات، وحتى معنى الزمان والمكان أنفسهما.

مصدر الصورة تُعد النسبية العامة أحد أعمدة الفيزياء الحديثة (رويترز)

نص الترجمة

يشير كثيرون إلى أن ولادة ميكانيكا الكم بدأت من تلك الجزيرة الألمانية الصغيرة الخالية من الأشجار، هيلغولاند، التي قصدها الشاب فيرنر هايزنبرغ في صيف عام 1925، وهناك خطّ الملامح الأساسية لما سيغدو لاحقا أحد ألمع وأنجح الأطر في تفسير الواقع. وتمحور جوهر فكرته حول ‏اكتشاف ما قد يفضي إليه الدرب عند التركيز فقط على ما سيجده الراصدون عند قياسهم للجسيمات.

كانت تلك اللحظة هي الشرارة التي أشعلت شيئا من عبقرية حقيقية، إلا أنها في الوقت ذاته أربكت الفيزيائيين لقرن كامل. وتعود هذه الحيرة التي عصفت بعقول العلماء إلى تساؤلات حول ماهية الراصد، والحد الفاصل الذي يجعل فعل النظر نفسه "رصدا"، وهل يُعقل أن يكون الواقع نفسه مُعلَّقا على لحظة نوجه فيها أبصارنا إليه!؟

في اعتقادي أن الوقت قد حان لتجاوز هذا العبث الميتافيزيقي. فطوال مسيرتي المهنية، استغرقني التفكير في نظرية الكم، حتى استقرّت في نفسي قناعة بأننا لسنا في حاجة إلى مفهوم "الراصد"، فمن غير المنطقي أن نعوِّل على وجوده. ومهما يكن من أمر، فقد توصلت إلى طريقة أكثر اتساقا ومنطقية تلعب دورا مرشدا لوصف العالم الكمي، أرغب في مشاركتها معكم، إلى جانب 3 تجارب فاصلة يمكنها إثبات وجهة نظري.

مصدر الصورة تُعد النسبية العامة أحد أعمدة الفيزياء الحديثة في حين تمثل نظرية الكم العمود الآخر (جامعة كورنيل)

لا وجود للراصد أو المرصود

على الرغم من أن هذا الإطار الجديد لفهم العالم الكمي قد تعلوه هالة من المنطقية في رأيي، فإنه يمضي بنا إلى أرض لم نألفها من قبل. فليس الراصد وحده هو الغائب عن المشهد، بل لا وجود للجسيمات نفسها. أما الزمان والمكان، فسنعود لمناقشتهما في مرحلة لاحقة. لا شك أننا نخوض في مياه عميقة، لكن الغوص فيها يستحق العناء، فلعل سبر أغوارها، يرشدنا إلى ما قد يكمن خلف نظرية الكم بصيغتها التي نعرفها.

إعلان

لنبدأ بجولة خاطفة في عالم الفيزياء الحديثة، والشبكة المعقدة من المشكلات التي تؤججها. فالراصدون لم يظهروا فجأة مع ميكانيكا الكم، بل كانوا ركيزة أساسية منذ زمن بعيد، حتى في صياغة أينشتاين للنسبية الخاصة والعامة. فالنسبية العامة ترى أن الزمان والمكان يندمجان في نسيج واحد، وأن انحناء هذا النسيج هو ما يوّلد الجاذبية. سأعود لاحقا لأتجادل مع هذا الرأي، إلا أن أحد النتائج المباشرة لهذه الفكرة هو أن الراصدين سيشهدون مرور الزمن بسرعات نسبية متباينة في أماكن تختلف فيها انحناءات الزمكان.

عندما نشرح النسبية، غالبا ما نتخيل الراصدين أو المراقبين بشرا (نرسم لهم وجوها وأشكالا في خيالنا*). لكن الحقيقة هي أن الزمن لا يمر بالسرعة ذاتها بالنسبة للجميع، بمعنى أن أي جسم (حتى لو كان ذرة صغيرة) سيشعر بمرور الزمن بصورة مختلفة حسب قوة الجاذبية حوله. وهذه الاختلافات لا تحتاج إلى أن يدوَّنها أحد، ولا تستدعي وجود فئة خاصة تُسمى "الراصدين".

تُعد النسبية العامة أحد أعمدة الفيزياء الحديثة، في حين تمثل نظرية الكم العمود الآخر. تقول نظرية الكم إن الواقع على أعمق مستوياته يتكون من وحدات صغيرة منفصلة. فالذرات، حين تمتص الطاقة أو تطلقها، تفعل ذلك على شكل حزم محددة لا على نحو مستمر. كما أن فكرة "الراصد" مهمة في نظرية الكم، لأنها تفرّق بين الجسيمات قبل وبعد قياسها. فقبل القياس، نصف هذه الجسيمات بدالة الموجة، وهي معادلة تحدد جميع الاحتمالات الممكنة لها في حالة تُسمى التراكب. وبعد القياس، تنهار هذه الحالة لتأخذ قيمة محددة.

تكمن المشكلة في أن هذا يفتح الباب أمام تساؤلات لا حصر لها، أبسطها كيف ولماذا يحدث هذا الانهيار. كما تنبثق مفارقات غريبة، مثل مفارقة "صديق فيغنر"، وهي تجربة فكرية شهيرة طرحها الفيزيائي يوجين فيغنر قبل عقود، توضح كيف يمكن لراصدين مختلفين (فيغنر وصديقه) أن يختبرا واقعين متناقضين عند مراقبة نظام كمومي.

تصوّر فيغنر صديقا داخل مختبر مغلق يُجري قياسا كميا بينما ينتظر هو في الخارج. تنشأ المشكلة عند مقارنة وصف كل منهما للواقع: فبينما لم يرَ فيغنر شيئا بعد، ويُوصَف المختبر كله بدالة موجة ضبابية، يرى صديقه نتيجة محددة وواضحة. من خلال هذه المفارقة، تساءل فيغنر عن اللحظة التي يتحول فيها الرصد من احتمال غامض إلى حقيقة قاطعة.

يساور بعض الفيزيائيين اعتقاد بأننا في حاجة إلى تعديل نظرية الكم لمواجهة هذه التعقيدات، أما أنا فلا أرى ذلك. ولتبسيط فكرتي، علينا أولا فهم ظاهرة التشابك الكمي، التي وصفها إروين شرودنغر بأنها "السمة المميزة" لنظرية الكم. غالبا ما يتصف هذا التشابك بالغموض، لكنه في جوهره مجرد رابط خاص بين جسمين كميين، بحيث يكفي قياس أحدهما لتعرف فورا شيئا عن خصائص الآخر. وهنا تكمن النقطة الأساسية: فعندما نتحدث عن "عملية الرصد"، فإننا -في رأيي- نشير إلى اللحظة التي يتشابك فيها نظامان مع بعضهما. وقد يكون الكيان المتشابك شخصا -أي "راصدا"- إلا أن ذلك لا يعتبر شرطا أساسيا.

دعني أضرب لك مثالا يوضح الفكرة. ثمة تجربة شهيرة يمر فيها جسيم من الضوء، أي فوتون، في حالة تراكب كمي عبر شقين في شاشة في الوقت نفسه، كما لو أنه يسلك طريقين معا. وعندما يصل إلى الشاشة المقابلة، يرسم عليها نمطا من الخطوط يُعرف بنمط التداخل. لكن ما إن نحاول معرفة أي الشقين قد عبر من خلاله الفوتون، يختفي نمط التداخل هذا تماما. وقبل أن نظن أن مجرد مراقبتنا هي ما يبدد حالة التراكب، تذكّر أن أي شيء يتشابك مع الفوتون ويكشف مساره سيفضي إلى النتيجة ذاتها.

إعلان

لهذا، لم يعد مجديا أن نتحدث عن "الراصدين"، بل علينا بدلا من ذلك توجيه اهتمامنا إزاء لحظة التشابك التي تربط الأشياء ببعضها. وهكذا، تتلاشى أيضا المفارقة التي أثارها فيغنر، إذ لا يوجد راصد أعلى أو عقل نهائي يقرر مصير التجربة. فكل ما في الأمر أن النظام، ومن يراقبه (الذي ليس سوى نظام آخر) يدخلان في حالة تشابك.

ربما لم تكن الجسيمات أصل الحكاية

ما أود أن تدركه من كل هذا هو أن نظرية الكم تحمل بين طياتها كل مفاتيح فهم واقعنا. وكل ما علينا فعله هو مواجهة تبعاتها كاملة، حتى وإن بدت لنا غريبة. فلننطلق الآن في رحلة استكشاف ما تقودنا إليه هذه التبعات، بدءا من فكرة مركزية في الفيزياء، وهي الجسيمات.

لمعالجة هذا المفهوم، علينا أولا التعرف على فكرة الحقول. والحقل هو شيء موجود في كل مكان ويتغير مع مرور الزمن، وقد طرح هذه الفكرة عالم الفيزياء مايكل فاراداي في أوائل القرن الـ19. في النظرية الكلاسيكية للكهرباء والمغناطيسية، تُقاس قوة الحقل الكهربائي والمغناطيسي بأرقام عادية، مثل قياس طول 5 أمتار. ولكل نقطة في الفضاء تُحدَد 3 أرقام للحقل الكهربائي و3 أرقام للحقل المغناطيسي.

في عالم الفيزياء الكمومية، لا تُوصف كل نقطة في الفضاء بعدد واحد كما في النظريات الكلاسيكية، بل بجداول من الأعداد تُسمى "الأعداد الكمية". ومن هنا يرى كثيرون أن ورقة هايزنبرغ البحثية التي نُشرت عام 1925، شكّلت بداية الفيزياء الكمومية، فقد كان هايزنبرغ أول من اقترح رفع مواقع وزخم الجسيمات إلى مستوى هذه الأعداد. صحيح أن الفرق بين الأعداد الكلاسيكية والأعداد الكمية قد يبدو بسيطا في مظهره، إلا أنه يحمل عمقا هائلا في جوهره، وسنعود إليه لاحقا.

ومع ذلك، لا يُبدي الجميع استعدادا لمواجهة كل تبعات الحقول الكمية. فعندما حوّل الفيزيائيون الحقل الكهرومغناطيسي من شكله الكلاسيكي إلى شكله الكمومي، اكتشفوا شيئا غريبا: أصبح الحقل قادرا على الاهتزاز بطرق أكثر بكثير مما كنا نعرفها في السابق. فهناك على سبيل المثال، 4 أنماط مختلفة من هذه الاهتزازات، وتنبأت النظرية بأن الحقل يمكن أن يظهر على شكل جسيمات تُعرف بالفوتونات. بمعنى آخر، في كل نمط من هذه الأنماط الأربعة، يمكن أن تظهر الفوتونات وكأنها أجزاء صغيرة من الحقل نفسه، تتراقص وفق قواعد الكم.

لكن الغريب في الأمر هو أننا لا نستطيع اكتشاف الفوتونات إلا في نمطين فحسب، أما النمطان الآخران فيلغي كل منهما الآخر، ولا يمكن اكتشافهما حتى من الناحية النظرية. لذلك فإن هذه الفوتونات "الشبحية" موجودة بلا شك، لكنها عصية على الرصد.

أما أنا، فأرى أن الزمان والمكان لا وجود لهما على الإطلاق. قد يبدو هذا مربكا من الناحية الفلسفية، لكنه ليس غريبا على العلم. فالكثير من العلوم تعمل بهذه الطريقة، حيث تفترض وجود أشياء معينة لا نراها مباشرة، لأن قدرة النظرية على الشرح ستنهار بدونها.

مصدر الصورة يمكن اختبار ذلك بوضع إلكترون في حالة تراكب (جوشوا مورنهينويج – جامعة هارفارد)

مطاردة الأشباح

لا أعتقد أننا مطالبون بالتغاضي عن هذه الغرائب، بل علينا بدلا من ذلك مواجهتها ومنحها حقها الكامل في أن تُؤخذ بجدية. فقد اقترحتُ، مع زميلتي كيارا مارليتو من جامعة أكسفورد، أن هذه الجسيمات الشبحية، وإن كانت عصية على الرصد المباشر، قد تتشابك مع الإلكترونات في ظروف معينة، وأن أثر هذا التشابك يمكن التقاطه.

وكما أوضحنا في دراسة نُشرت عام 2023، يمكن اختبار ذلك بوضع إلكترون في حالة تراكب، فإذا كانت رؤيتنا صحيحة، سيدخل في تشابك مع تلك الأشباح، وسيكون هذا التشابك قابلا للرصد باستخدام نوع مناسب من القياسات الدقيقة. صحيح أنها تجربة بالغة الصعوبة بلا شك، إلا أنها ليست ضربا من الخيال، بل تقع ضمن حدود ما تسمح به التقنيات المتوافرة حاليا. وإذا نجحت، فستكون أشبه برؤية شبح في عالم الكم.

إعلان

ماذا سيعني الأمر إذا أثبتت التجربة أن هذه الأشباح قادرة على التشابك، كما أتوقع؟ إننا معتادون على التفكير في الجسيمات بوصفها أبسط الأشياء القابلة للتشابك. لكن هذه الأشباح لا يمكن اعتبارها جسيمات بالمعنى الحقيقي.

فهي في جوهرها، ليست سوى أعداد كمية ضمن معادلة. وهنا تكمن الفكرة الأساسية: فالأعداد الكمية هي العناصر الأساسية حقا، لا التصور البشري للجسيم. وما يحدث ببساطة هو أن الجسيمات تمتلك أعدادا كمية، وهذا ما أوقعنا في الوهم بأن الجسيمات هي اللبنات الأساسية للواقع، في حين أن الأساس الحقيقي هو تلك الأعداد الكمية نفسها.

على الجانب الآخر، ثمة مستوى آخر من التعقيد يعزز فكرتي عن أن الجسيمات ليست سوى صور ذهنية اعتدناها. خذ جسيما منفردا، كإلكترون على سبيل المثال. في لغة الكم المألوفة، يكون هذا الجسيم في حالة تراكب قبل قياسه، موجودا هنا وهناك في الوقت ذاته، وتُوصف كلتا الحالتين بأعداد كمية. لكن ماذا لو قلبنا المشهد؟ إذا كانت هذه القيم الكمية هي نسيج الواقع نفسه، فإنها تستطيع أن تتشابك فيما بينها. بمعنى آخر، قد يكون الجسيم، وهو في حالة تراكب، متشابكا مع ذاته.

قد لا يتفق جميع الفيزيائيين على إمكانية حدوث ذلك، لكن قبل أكثر من 15 عاما، اقترحتُ تجربة يمكنها حسم المسألة، وذلك بالتعاون مع زميلي جاكوب دانينغهام، الذي يعمل حاليًا في جامعة ساسكس بالمملكة المتحدة. تقوم الفكرة على أخذ جسيم واحد وجعل حالته غير متمركزة مكانيا، بحيث يكون في حالة تراكب بين موقعين فيزيائيين مختلفين. وللتحقق مما إذا كانت هذه الحالة أكثر من مجرد تراكب، يجب إجراء قياسات منفصلة في كلا الموقعين، ثم البحث عما إذا كانت النتائج تنتهك معادلة تُعرف باسم "متباينة بيل"، التي تُعد إشارة حاسمة على وجود التشابك.

توجد بالفعل بعض الشواهد على حدوث هذا النوع من التشابك أحادي الجسيم. ففي عام 2004، أظهرت تجارب أجراها بيورن هيسمو وزملاؤه في المعهد الملكي للتكنولوجيا في السويد، أن فوتونات منفردة، موزعة بين موضعين مختلفين، تنتهك متباينة بيل.

بعبارة أخرى، ليست الفوتونات هي جوهر الواقع، بل إن الأعداد الكمية المرتبطة بها هي التي تحمل الأهمية الجوهرية. ومع ذلك، فإن الفوتونات عديمة الكتلة، ولم ينجح أحد بعد في إجراء تجارب مماثلة على أجسام تمتلك كتلة، مثل الذرات أو حتى الإلكترونات الأخف بكثير، لأن مثل هذه التجارب بالغة الصعوبة. لكنني على يقين تام بأن النتيجة لن تختلف.

وها نحن بصدد الوصول أخيرا إلى الحديث عن الزمان والمكان. فهناك من يرى فيهما آخر تخوم الفيزياء، حيث تتقاطع أعقد أسئلتها، مثل جمع عمودَي الفيزياء الحديثة -النسبية العامة وميكانيكا الكم- في نظرية واحدة تُسمى الجاذبية الكمية. وبما أنني جادلت حتى الآن بوجوب النظر إلى كل شيء على أنه مكوّن من أعداد كمية، فلن يكون غريبا أن نتساءل إن كان الزمان والمكان نفسهما خاضعين للكم. وهذا في الحقيقة ما يعتقده كثير من الباحثين.

أما أنا، فأتخذ موقفا جريئا بعض الشيء: فالمكان والزمان -من وجهة نظري- لا وجود لهما فعليا. فهما مثل "المراقب"، مجرد أسماء وأدوات نستخدمها لتنظيم الحسابات، ولا يوجد لهما وجود مادي حقيقي. لذلك، عندما نحاول تحويل الجاذبية إلى شكل كمومي، فهذا لا يعني تحويل الزمكان نفسه، بل يعني تحويل مجال الجاذبية إلى أعداد كمية، تماما كما نفعل مع الحقول الأخرى في الفيزياء.

قد يبدو هذا فارقا بسيطا، لكنه مهم. ففي النسبية العامة، يُنظر إلى مجال الجاذبية على أنها مجرد انحناء في الزمكان. لكن هنا أطرح نقطة مختلفة بعض الشيء: فمن وجهة نظري، ما ينحني ليس المكان أو الزمان، بل الحقول مثل الحقل الكهرومغناطيسي الذي يربط كل شيء في المادة ببعضه. ووظيفة مجال الجاذبية تكمن في التفاعل مع الحقول الأخرى وتوجيهها بكيفية الانحناء. ومن باب التسهيل، نتصور هذه الحقول وكأنها موضوعة على شبكة غير مرئية نسميها الزمكان، لكن لا يجب أن نخدع أنفسنا ظانين أن الزمكان هو الشيء الأساسي.

قد يعتبر بعض زملائي أن وجهة نظري تنطوي على شيء من المبالغة، وأعترف أنه من الصعب حاليا التفكير في أي تجربة يمكن أن تثبت صحة كلامي. لكن بالنسبة إلي، يُعد هذا كله جزءا من التعامل مع نظرية الكم كما هي. لهذا أقترح أن تُعامل الجاذبية كما يُعَامل أي حقل كمومي آخر.

إعلان

استنادا إلى وجهة النظر هذه، فلا وجود للجسيمات، أو الزمان، أو المكان. وبدلا من ذلك، أرى أن العنصر الأساسي للطبيعة هو العدد الكمي. وفي النهاية، دعونا نتأمل كيف يمكن أن يقودنا التمسك الكامل بهذا المبدأ إلى رؤى جديدة.

ما سأقوله يذكّرنا بقصة الفيلسوف برتراند راسل، حينما قاطعته إحدى الحاضرات أثناء إلقاء محاضرة عن الكون، مدعية أن الكون مستند على ظهر سلحفاة كونية ضخمة. وعندما سألها راسل عما تقف عليه هذه السلحفاة، أجابته: "سلحفاة فوق سلحفاة، وهكذا إلى ما لا نهاية!". اقتراحي أشبه بهذه الفكرة من حيث البناء التراكمي، مع الفرق أن لا سلحفاة هنا على الإطلاق.

حين نتأمل كيفية تفاعل الحقول الكمية، نجد أنفسنا نستعين ببنية رياضية تُسمى الهاملتوني الكمي (وهي الكمية التي تمثل الطاقة الكلية للنظام الكمي، وتصف كيف يتغير النظام مع الزمن*). غير أن ما ظل يساورني القلق حياله هو أن هذه المعادلات تجمع بين الأعداد الكمية والأعداد الكلاسيكية، مثل الثوابت الفيزيائية، كسرعة الضوء أو شحنة الإلكترون.

قد يبدو هذا أمرا اعتياديا في الفيزياء، لكنه لا يستقيم تماما مع إحساسي باتساق الفكرة. فعلى امتداد قرن كامل، اعتاد الفيزيائيون تحويل بعض أجزاء المعادلات الكلاسيكية إلى أجزاء كمية. لكن أليس الأجدر، والأكثر اتساقا مع الفلسفة التي أتبناها أن تُكتب معادلاتنا بلغة واحدة، لغة كمية خالصة، من بدايتها إلى نهايتها؟

لست أول من يفكر بهذه الطريقة. ففي ثمانينيات القرن الماضي، اقترح الفيزيائي ديفيد دويتش إزالة الأعداد الكلاسيكية بالكامل، وتحويل جميع الكميات في معادلات ميكانيكا الكم إلى أعداد كمية، إلا أن ذلك قد يتمخض عنه نتائج غريبة.

لنأخذ سرعة الضوء على سبيل المثال، إننا نتعامل معها حاليا بوصفها عددا كلاسيكيا بسيطا. إذا حولناها إلى عدد كمي، فهذا يعني أن هناك حقلا كميا جديدا مرتبطا بسرعة الضوء. سيكون الأمر مشابها لما حدث عندما وضع العلماء الحقل الكهرومغناطيسي في إطار كمي وظهرت الفوتونات "الشبحية"، وهو ما يفضي في النهاية إلى أن الواقع أعمق وأعقد مما كنا نظن.

سلاحف إلى ما لا نهاية

يمكننا اختبار هذه الفكرة على أرض الواقع من خلال تجارب يمكن تصورها. فإذا وُجدت حقول كمومية إضافية، فينبغي أن تكون الجسيمات قادرة على التشابك معها. تخيّل أن ذرة وفوتونا قد دخلا في تشابك كمي كامل، و إذا كان هناك حقل كمي آخر يتربص في الخلفية، فقد ينضم إلى هذا التفاعل ويكوّن تشابكا بين 3 عناصر بدلا من عنصرين فقط. والنتيجة؟ أن قوة التشابك بين الذرة والفوتون ستكون أضعف مما نتوقع.

في عام 2022، اقترح جيم فرانسون من جامعة ميريلاند بمقاطعة بالتيمور، تجربة لاكتشاف هذا التشابك، وهي تشبه من حيث الفكرة التجربة التي تخيلتها للكشف عن الفوتونات "الشبحية". وحتى الآن، لم تُجرَ هذه التجربة، لكن التقنيات الحديثة تجعلها ممكنة عمليا.

من حيث المبدأ، يمكننا أن نأخذ فكرة تحويل الأعداد نفسها إلى كيانات كمومية ونغوص بها إلى مستوى أعمق من ذلك. فالأعداد الكمية ليست سوى جداول من أعداد، ويمكن ببساطة رفع كل عدد فيها ليصبح بدوره عددا كميا، ثم تكرار العملية مرة بعد أخرى. جداول تتوالد من جداول، بلا نهاية. ووفقا لهذا التصور، لا تكون الحكاية حكاية سلاحف تمتد إلى القاع، بل حكاية أعداد كمية، تمتد هي الأخرى إلى ما لا نهاية.

يمقت الفلاسفة التسلسل اللانهائي، لكن الطبيعة غير ملزمة باحترام تحفّظاتنا الفلسفية. فقد يكون الكون ببساطة هاوية لا نهاية لها، تمد الفيزيائيين بمصدر لا ينضب من الألغاز.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار