تخيل نفسك وسط مدينة صاخبة مليئة بالضوضاء، من سيارات موسيقى وأصوات بشر، ثم فجأة تسمع تصفيقة واحدة قوية جدا لا تدوم سوى جزء من الثانية، لكنها تغطي على كل الضوضاء من حولك، ومن شدتها تدرك فورا أن شيئا غير عادي قد حدث.
هذا بالضبط ما واجهه علماء الفلك، عندما رصدوا ألمع انفجار راديوي سريع تم تسجيله على الإطلاق، أطلقوا عليه الاسم العلمي "إف آر بي-إيه 20250316 ".
ووقع الانفجار، في 16 مارس/آذار 2025، واستمر أقل من خُمس الثانية، لكنه كان لامعا لدرجة أنه أطلق خلال تلك الفترة البسيطة جدا طاقة تعادل ما تبعثه الشمس خلال 4 أيام.
كما أن قوة الإشارة الصادرة عنه كانت غير مسبوقة، حيث وصلت إلى ذروة قدرها " 1.2 كيلو جانسكي"، وهي وحدة قياس لشدة التدفق الراديوي.
وقدر العلماء أن الطاقة المنبعثة بلغت حوالي 3.1 × 10³⁰ إرج لكل هرتز، أي ما يكفي لتشغيل مليارات مليارات المصابيح الكهربائية في لحظة واحدة، وهو ما يجعله يغطي على كل مصادر الراديو في مجرته خلال تلك اللحظة الخاطفة، ويجعل هذا الحدث واحدا من أضخم الانفجارات الكونية المسجلة على الإطلاق.
وتمكن العلماء من رصده بواسطة مصفوفة التلسكوبات الكندية "تشايم" في كولومبيا البريطانية، إضافة إلى مجموعة تلسكوبات "أوتريغرز" الصغيرة الموجودة في كاليفورنيا الغربية، وويست فرجينيا، حيث مكنت هذه الشبكة العلماء من استخدام تقنية "التداخل الطويل القاعدة"، التي سمحت لهم بتحديد مصدر الانفجار وهو المجرة "إن جي سي 4141″، ثم تحديد موقعه داخلها بدقة غير مسبوقة، في منطقة لا يتجاوز عرضها 45 سنة ضوئية (أصغر من متوسط حجم عنقود نجمي).
ويستخدم "التداخل الطويل القاعدة" في علم الفلك الراديوي لربط إشارات تلتقطها تلسكوبات راديوية موزعة في أماكن متباعدة جدا (قد تكون في دول مختلفة)، ثم جمعها باستخدام حواسيب فائقة، والنتيجة هي الحصول على دقة تعادل تلسكوب عملاق بحجم المسافة بين هذه التلسكوبات، مما يسمح بتحديد مواقع الأجرام السماوية بدقة غير مسبوقة.
ويشرح كيوشي ماسوي، أستاذ الفيزياء المشارك في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في بيان صحفي رسمي نشره موقع جامعة تورنتو الكندية: "من منظور كوني، فإن هذا الانفجار قريب جدا منا، مما يمنحنا فرصة لدراسة الانفجار بتفاصيل لم نرها من قبل".
وشبه العلماء دقتهم في رصد هذا الانفجار بـ"رؤية ريشة صغيرة على بُعد ألف كيلومتر"، إذ لم يكتفوا بالقول إن الانفجار وقع في مجرة "إن جي سي 4141″، بل حددوا منطقة صغيرة جدا داخل أطرافها (بعرض 45 سنة ضوئية فقط).
والمفارقة أن العلماء كانوا على وشك فقدان هذه الفرصة النادرة، إذ يوضح ماتياس لازدا، طالب دكتوراه بجامعة تورنتو: "كنا محظوظين للغاية أننا استطعنا تحديد الموقع بدقة. بعد ساعات قليلة من الرصد، تعرض أحد مواقع التلسكوب لانقطاع في الكهرباء، ولو حدث الانفجار بعد ذلك لكنا فقدنا هذه الفرصة تماما".
وبعد تحديد الموقع، وجه العلماء تلسكوب جيمس ويب الفضائي نحو المنطقة، فالتقط إشارة تحت حمراء خافتة متطابقة مع موقع الانفجار، مما أثار التساؤلات حول طبيعتها: هل هي نجم عملاق أحمر؟ أم مجرد صدى باهت للانفجار نفسه؟
ويعلق بيتر بلانشارد، زميل ما بعد الدكتوراه في جامعة هارفارد: "لأول مرة نستطيع باستخدام جيمس ويب رصد النجوم المحيطة بانفجار راديوي بدقة، وهذا يفتح الباب أمام فهم البيئات النجمية التي قد تولد مثل هذه الانفجارات الهائلة".
ورغم أن آلاف الانفجارات الراديوية السريعة رُصدت منذ 2018، فإن أغلبها يعاود التكرار، لكن المفاجأة أن " آر بي فلوت" لم يُرصد له أي تكرار حتى الآن، رغم مراجعة بيانات تمتد لأكثر من 6 سنوات.
وتوضح أماندا كوك، زميلة ما بعد الدكتوراه بجامعة مكغيل: "هذا الانفجار لا يبدو أنه يتكرر، وهو ما يختلف عن أغلب الحالات المدروسة، هذا يدفعنا للتفكير في أن بعض الانفجارات ربما تنجم عن أحداث انفجارية لمرة واحدة فقط".
ونُشرت نتائج هذا الإنجاز في ورقتين بدورية "إستروفيزكل جورنال ليترز"، الأولى ركزت على الرصد الراديوي وتحديد الموقع، والثانية على ملاحظات تلسكوب جيمس ويب.
وهذه النتائج لا تقدم فقط أوضح صورة حتى الآن عن انفجار راديوي سريع، بل تمهد أيضا لاستخدام هذه الظواهر الكونية الغامضة كأدوات علمية لفهم تطور النجوم والمجرات، ورسم خريطة أوضح للكون.