في أعماق البحار المظلمة، وتحت جليد القطب المتجمد، ينصت العلماء إلى رسائل خفية من الكون. جسيمات شبحية تُدعى النيوترينوات، قادرة على اختراق الأرض وجسد الإنسان دون أن تُمس، تحمل أسرار انفجارات النجوم وثقوب سوداء تفوق الخيال. ورغم صِغرها المتناهي، فإنها تحمل مفاتيح فهم القوى التي تشكّل ملامح الكون، وتفتح نافذة جديدة لفهم أصل المادة، وكأنها همسات خفية من أعماق الكون العاصف، تدعونا إلى فك طلاسمه واكتشاف حقيقته الغامضة.
منذ أكثر من عقد من الزمان، تتولى رافعاتٌ عائمة إنزال شحنات غامضة إلى عمق يقارب 3000 متر تحت سطح البحر الأبيض المتوسط، هناك حيث تتلألأ كرات ضخمة لامعة، محشوة بالإلكترونيات، فتبدو كأنها شظايا من عالم آخر. لكنها في الحقيقة كواشف تنتمي إلى آلة تُدعى "كي إم 3 نت"، صُممت لتقتفي أثر واحد من أعتى الجسيمات الكونية غموضًا.
لا تزال هذه الآلة بحاجة إلى سنوات قبل أن تكتمل تمامًا، ومع ذلك وجد الفيزيائي بمركز فيزياء الجسيمات في مرسيليا، باسكال كويل، نفسه في مواجهة مفاجأة أربكته عام 2023، حين التقطت عيناه إشارة لافتة في بياناته الأولية. لقد كان نيوترينو، نعم، لكن ليس كأي نيوترينو مألوف، بل من نوع لم يُشاهَد مثله من قبل. ومن جانبه، يعلّق كويل بقوله: "حين شرعتُ في تتبّع هذا الحدث للمرة الأولى، انهار برنامجي بالكامل".
تمكّن مشروع "كي إم 3 نت" من تسجيل نيوترينو قادم من الفضاء بطاقة هائلة تزيد بنحو 35 مرة عن أي نيوترينو سبق رصده، وأعلى بآلاف المرات مما تنتجه أقوى مُسرّعات الجسيمات لدينا. لطالما عُرفت هذه الجسيمات بأنها عصيّة على الفهم، إذ تكاد لا تتفاعل مع المادة الأخرى إلا بقدر ضئيل للغاية يجعل وجودها شبه خفي، وهو ما دفع العلماء إلى وضع الكواشف في أعماق البحر لالتقاطها. غير أنّ هذا النيوترينو تحديدًا بدا وكأنه يتحدى المستحيل.
يتأجج السباق الآن لمعرفة أيّ قوة في هذا الكون العجيب استطاعت أن تُطلِق مثل هذا الجسيم. ومع انهماك علماء الفلك في تفكيك خيوط الحدث، تبيّن أن هناك احتمالين، وكلاهما يقود إلى أعمق نقطة في الكون وأكثرها غرابة وغموضًا.
تكمن أهمية ذلك في أن فهم أصل هذا النيوترينو قد يساعدنا في كشف الطبيعة الحقيقية لهذه الجسيمات، ويزيح الستار عن الأفران الكونية العنيفة التي تنبثق منها هذه الكائنات الشبحية.
تَوصل عالم الفيزياء النمساوي فولفغانغ باولي عام 1930 إلى لغز الطاقة المفقودة في التحلّل الإشعاعي، فافترض وجود جسيم متناهي الصغر يتسلّل خفيةً، حاملاً معه ما اختفى من طاقة، والذي أُطلِق عليه فيما بعد اسم "نيوترينو"، أي "المحايد الصغير" بالإيطالية.
غير أنّ ظهوره في التجارب لم يتحقق إلا عام 1956، إذ يكاد يكون بلا كتلة، ولا يحمل شحنة كهربائية، وهو ما يجعل تفاعله مع المادة أمرًا نادرًا للغاية. حتى إنه يستطيع أن يقطع مسافة سنة ضوئية كاملة داخل معدن كثيف كالرصاص دون أن يصطدم بشيء.
حتى يومنا هذا، لا تزال النيوترينوات عصية على الأسر في المختبرات، كما يوضح المتخصص في فيزياء النيوترينو بجامعة هارفارد، كارلوس أرغويليس ديلغادو، فهي لا تتفاعل إلا عبر القوة الضعيفة، وهي إحدى القوى الأساسية الأربع في الكون، إلى جانب الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوة النووية القوية.
هذا يعني أن الطريقة الوحيدة لرصدها هي تتبّع تأثيراتها النادرة عندما تصطدم أحيانًا بنوى الذرّات. ويصفها أرغويليس ديلغادو قائلًا: "تُعد النيوترينوات من أكثر الجسيمات غموضًا في الجدول الدوري لفيزياء الجسيمات، المعروف بالنموذج القياسي".
في البداية، تنبأ النموذج القياسي بوجود ثلاثة أنواع -أو ما تُسمى "نكهات"- من النيوترينوات، جميعها عديمة الكتلة. لكن العقود الأخيرة قلبتْ هذه الصورة، حين أثبتت التجارب أن تلك الجسيمات الشبحية تستطيع أن تتبدّل بين نكهاتها المختلفة وهي تجوب الفضاء في رقصة غامضة لا معنى لها إلا إذا كان لها شيء من الكتلة. ولهذا يُصرّ المتخصص في فيزياء النيوترينوات بكلية لندن الجامعية، رايان نيكول، بقوله: "نحن على يقين تام بأن النيوترينوات تمتلك كتلة".
وفي أبريل/نيسان الماضي، أكدت تجربة كاترين في ألمانيا أن هذه الكتل لا بد أن تكون على الأقل في حدود جزء من مليون من كتلة الإلكترون، إلا أن قيمها الدقيقة وآلية اكتساب النيوترينوات لكتلتها لا تزال لغزًا غامضًا.
يُعلّق فيزيائيو الجسيمات آمالهم على أن يتمكن هذا الكائن العجيب من سبر أغوار نظرية أعمق تصوغ لنا خريطة الجسيمات والقوى الأساسية. ومن أجل ذلك، يشيّدون اليوم تجارب هائلة لرصد النيوترينوات، على غرار تجربة النيوترينو العميقة تحت الأرض في الولايات المتحدة، وتجربة هايبر-كاميوكاندي في اليابان، ومرصد جيانغمن تحت الأرض في الصين. وتعتمد هذه التجارب عادةً على إطلاق حزم صناعية من النيوترينوات عالية الطاقة باتجاه كواشف تحت الأرض، من أجل دراسة كيفية تذبذب النيوترينوات ذات الطاقات المختلفة بدقة عبر مسافات متباينة.
تنتمي النيوترينوات الكونية، مثل تلك التي عطّلت حاسوب كويل، إلى عالم مختلف تمامًا، عالم يستحوذ على فضول العلماء نظرًا لطاقاتها التي تفوق بكثير تلك التي يمكن إنتاجها على الأرض. ويُعتقد أنها تنشأ إمّا في الانفجارات النجمية الهائلة المعروفة بالمستعرات العظمى (السوبرنوفا)، أو بالقرب من الثقوب السوداء الهائلة التي تتربع مراكز المجرات.
غير أن رصد هذه النيوترينوات فائقة الطاقة يُمثل تحديًا أعظم. فكما يوضح أرغويليس ديلغادو: "كلما ارتفعت الطاقة قلّ عدد النيوترينوات، وإن أردت البحث عن أعلاها طاقة، فلا بد أن تبني كواشف جبارة تفوق قدرة الموارد البشرية على تشييدها".
انطلق أول مشروع من هذا النوع عام 2010 في القطب الجنوبي، وحمل اسم "آيس كيوب"، حيث رُصّت آلاف الكواشف بحجم كرة السلة في قلب مكعّب جليدي هائل يمتد كيلومترًا كاملًا في العمق. وعندما ترتطم النيوترينوات عالية الطاقة بذرات الجليد، تُطلِق جسيمات تُدعى ميونات، تنطلق بسرعة تفوق سرعة الضوء داخل ذلك الوسط المتجمّد. ومن اندفاعها ينفجر وميض أشبه بصدمة ضوئية يُسمى "إشعاع تشيرينكوف"، يحمل بصمة مميزة تلتقطها كواشف الآيس كيوب.
يرصد الآيس كيوب يوميًا مئات النيوترينوات، غير أن معظمها ليس سوى صدى لاصطدام الأشعة الكونية -تلك الجسيمات الغامضة عالية الطاقة التي تجوب الكون- بغلافنا الجوي، مولِّدة سيولًا من الميونات والنيوترينوات. وتُعرف هذه بالنيوترينوات الغلافية، وهي تختلف عن النيوترينوات الكونية التي قطعت رحلتها عبر أرجاء الكون، والتي تُعد أندر بكثير، إذ لم يُسجَّل منها سوى بضع مئات منذ بدء تشغيل الآيس كيوب.
في السياق ذاته، تقول عالمة النيوترينوات في جامعة دريكسل بولاية بنسلفانيا، ناوكو كوراهاشي نيلسون: "لقد كان ذلك وحده كافيًا لإشعال شرارة عصر جديد في علم فلك النيوترينو". ففي عام 2011، أبصرت البشرية لأول مرة جسيماتٍ شاردة جاءت من خارج حدود مجموعتنا الشمسية.
وعلى خلاف الأشعة الكونية التي تتشتّت وتضيع، تشق النيوترينوات طريقها بخفةٍ واستقامة، إذ لا تثقلها شحنة ولا تُقيدها كتلة تُذكر. وهكذا تحوّلت إلى رسل سماوية تقود العلماء إلى مواطن ميلادها.
وفي عام 2018، دوّى الاكتشاف الأبرز: استطاع مرصد الآيس كيوب أن يتعقّب نيوترينو إلى منبعه الأول، فإذا به ثقب أسود فائق الكتلة في قلب مجرة بعيدة، يرسل نفاثاته النارية صوب الأرض، فيما يُعرَف بالبلازار. ومنذ ذلك الحين، أخذ الستار يُكشف عن مصادر أخرى لا تقل روعة، تُعرف بالنوى المجرية النشطة.
صُممتْ تجربة "كي إم 3 نت" للمشاركة في مطاردة النيوترينوات الكونية، مُقدّمةً منظورًا جديدًا من أعماق البحر الأبيض المتوسط. فبينما يعتمد الآيس كيوب على مساحات شاسعة من الجليد ليحوله إلى مرآة طبيعية تلتقط النيوترينوات، اختارت تجربة "كي إم 3 نت" أن تستعيض عنه بالماء.
وعند اكتمالها المرتقب في عام 2029 تقريبًا، ستتألف من 345 سلسلة طويلة تغوص في الأعماق، تحمل كل منها 18 كاشفًا ضوئيًا كرويًا. لكن في فبراير/شباط 2023، وبينما كان مشروع "كي إم 3 نت" في بداياته ولم يكتمل منه سوى عُشره فقط، وقع حدث غير متوقع: باغت العلماءَ نيوترينو نادر يكاد يستحيل رصده، ليكشف عن نفسه قبل أن يكتمل بناء المرصد الضخم.
ومن جانبها، تُعبِّر الباحثة في المعهد الوطني للفيزياء النووية بإيطاليا، روزا كونيلوني، عن دهشتها الواضحة بقولها: "لقد كان الأمر مفاجئًا حقًا". لم يظهر أي دليل على نيوترينوات وُلدت بطاقة هائلة داخل "المسرّعات الكونية للجسيمات"، فأقصى ما رُصد هناك لم يتجاوز 6 بيتا-إلكترون فولت، وهي طاقة أشبه بسقوط حبّة رمل من ارتفاع بضعة سنتيمترات، لكن مضغوطة في حيز متناهي الصغر.
لذلك كان وقع المفاجأة كبيرًا عندما أعلن باحثو "كي إم 3 نت" في فبراير/شباط الماضي، عن رصد نيوترينو بلغت طاقته نحو 220 بيتا-إلكترون فولت، أي أعلى بحوالي 35 مرة من الرقم القياسي السابق، وإن ظلّت هناك مساحة لعدم اليقين حول القيمة الدقيقة. عندها تساءلت كوراهاشي نيلسون بدهشة لا تخلو من الحيرة: "كيف يمكن لكاشف أصغر، لم يبدأ عمله إلا منذ وقت قصير، أن يقتنص أندر الجسيمات على الإطلاق وأعلاها طاقة؟".
دفعت الطبيعة المفاجئة تمامًا لهذا الاكتشاف بعضَ الباحثين للتساؤل عمّا إذا كان الأمر مجرد إشارة زائفة أو خلل في الكاشف. ورغم إعادة التحقق منه مرارًا وتكرارًا، لا يزال باب الشك مواربًا وفقًا لما تشير إليه عالمة فيزياء الجسيمات بجامعة نيويورك، غلينيس فارار. لكن إن لم يكن إنذارًا كاذبًا، فالمسألة تحمل بين طياتها لغزًا يستدعي تفسيرًا عميقًا. وعن ذلك، تتساءل فارار: "إن كان هذا حقًا هو نيوترينو تبلغ طاقته 220 بيتا-إلكترون فولت، فلا بد أن في الكون عالَمًا آخر من المصادر الخفية، يمدّنا بجيل جديد من النيوترينوات".
إذن يبقى السؤال الأهم: ما الذي يمكن أن يكون وراء هذا الشبح الكوني؟ تقول إحدى الفرضيات إنه وُلد من مسرّع جسيمات كوني جديد، لكنه أكثر جنونًا وسطوة مما عرفناه من قبل. وربما كان مختفيًا عن عين الآيس كيوب المغمورة في جليد القطب الجنوبي، لكنه انكشف أمام "كي إم 3 نت" من أعماق البحر المتوسط، كما يوضح كويل. غير أن عالمة فيزياء الجسيمات بجامعة كاليفورنيا، شيرلي لي، ترى أن الأمر قد لا يتجاوز نسخة أكثر تطرفا من المصادر التي نعرفها.
فالنوى المجرية النشطة، مثل "البلازارات"، تنفث نيرانها صوب السماء، وكذلك المستعرات العظمى (السوبرنوفا)، تُنتج موجات صدمية تُسرّع البروتونات بسرعة هائلة بآلية تُسمى "تسارع فيرمي". ويُعتقد أن النيوترينوات عالية الطاقة تتولد عندما تصطدم هذه البروتونات إما ببروتونات أخرى أو بجسيمات الضوء. لذا، من المعقول أن مثل هذه العمليات قد تدفع نيوترينو إلى طاقة تصل إلى 220 بيتا-إلكترون فولت. ومع ذلك، يظل الغموض قائمًا، إذ غالبًا ما تبقى الآليات الدقيقة لإنتاج النيوترينوات محجوبة عن علماء الفلك. وعن ذلك، تقول شيرلي: "لا نعرف على وجه اليقين كيف يعمل البلازار بالفعل".
وفي محاولة لاختبار هذه الفرضية، وجّه فريق "كي إم 3 نت" أنظاره نحو البقعة السماوية التي وُلد منها النيوترينو شديد الطاقة، فتعقّبوا 12 مصدرًا محتملًا، لكن لم يكن أي منها حاسمًا. وكما تقول شيرلي: "لم يعثروا على مصدر مقنع". وفي الوقت ذاته، ثمة احتمال آخر يثير الخيال: أن يكون مرصد "كي إم 3 نت" قد التقط لأول مرة أثرًا خفيًا لأعلى النيوترينوات طاقة في الكون، تلك المعروفة باسم "النيوترينوات الكوزموجينية"، أو "النيوترينوات الكونية".
ومن المهم إدراك أن هذه النيوترينوات لا تظهر إلا حين تبلغ الطاقة حدودًا تتجاوز 100 بيتا-إلكترون فولت، ويعتقد العلماء أنها تولد في مسرح كوني مذهل، حيث تصطدم الأشعة الكونية فائقة القوة ببقايا الضوء الأول (خلفية الإشعاع الكونية الميكروي)، وهو الأثر الخافت للانفجار العظيم الذي لا يزال يملأ أرجاء الكون حتى اليوم.
على الجانب الآخر، تقول شيرلي لي: "إنه احتمال يبعث على الحماسة حقًا، فقد تنبأ العلماء منذ زمن بعيد بوجود مثل هذا التدفق من النيوترينوات فائقة الطاقة، فهو أمر لا مفر منه، ومع ذلك لم ينجح أحد في رصده من قبل". وترجّح شيرلي أن النيوترينو الذي سجله مرصد "كي إم 3 نت" قد يكون بالفعل نتاجًا لهذا التدفق الكوني النادر، مشيرةً إلى أنه من غير المعتاد أن نرصد نيوترينوات كونية بطاقة بضعة بيتا-إلكترون فولت فقط -كما فعل الآيس كيوب مع النوى المجرية النشطة- ثم نقفز فجأة إلى جسيم أشد هولًا بطاقة 220 بيتا-إلكترون فولت.
ومع ذلك، يؤجج هذا الاحتمال سؤالًا جوهريًا: إذا كان التدفق موجودًا حقًا، فلماذا لم يرصده الآيس كيوب حتى الآن؟ لا أحد يملك إجابة قاطعة، وهو ما تختتم به شيرلي حديثها قائلة: "لهذا السبب، من الصعب الجزم بأن هذا الحدث ناتج عن هذا التدفق الغامض".
قد يكون فكّ هذا اللغز بمثابة مفتاح لبوابة واسعة تطلّ على أسرار النيوترينوات، بل على أسرار الكون برمّته. فكما تقول كوراهاشي نيلسون: "إنها مسألة تحمل انعكاسات هائلة على العلم والفلك"، في حين توضح عالمة فيزياء الجسيمات الفلكية في معهد نيلز بور بالدنمارك، إيرينه تامبورا، أن رصد مثل هذه النيوترينوات سيمنح العلماء نافذةً أوضح على أصل الأشعة الكونية التي تُنتجها.
من ناحية أخرى، إذا ظلّت المسرّعات الكونية فائقة الشدة هي التفسير الأقرب، فقد تصبح النيوترينوات عالية الطاقة وسيلةً فريدة لسبر أغوار بعض أعجب الظواهر الكونية. ففهم ما يحدث داخل المستعرات العظمى أو في نوى المجرات النشطة ليس بالأمر الهيّن، إذ غالبًا ما تتشوّه أشعة غاما التي تطلقها بفعل إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (CMB) والحقول المغناطيسية المنتشرة في الفضاء. وكما تقول كوراهاشي نيلسون: "ما طبيعة هذا الكون العنيف؟ في الحقيقة لا نعرف تمامًا". لكن، وبما أن النيوترينوات لا تحمل شحنة كهربائية وتسافر في خطوط مستقيمة من دون عوائق، يمكننا تتبّع مصدرها بسهولة أكبر، مما يفتح الباب أمام فهمٍ أعمق لآلية عمل هذه المصادر الكونية.
تخيّلْ أن هناك مجرّات كاملة في الكون لا تُضيء على الإطلاق، لا أشعة ولا ضوء، لأنها محجوبة بسحب كثيفة من الغبار أو مختبئة خلف مجرّات أخرى. مثل هذه العوالم المظلمة لا يمكننا رؤيتها إلا من خلال بصمتها الخفية: النيوترينوات التي تطلقها.
عن ذلك، تقول كوراهاشي نيلسون: "قد يكون هناك نجم مظلم أو حتى مجرّة مظلمة لا تُكشف إلا عبر النيوترينوات، بل ربما كان في بدايات الكون عصورٌ كاملة لم يصل فيها أي ضوء إلى الفضاء، وكانت النيوترينوات وحدها هي اللغة التي يتحدث بها الكون".
مع تزايد فهمنا لماهية هذه المسرّعات الكونية، تتسع إمكانية استخدامها لاستكشاف أسئلة جوهرية عن طبيعة الواقع ذاته، وكأن الكون كله يتحوّل إلى مختبر لفيزياء الجسيمات. فطاقات النيوترينوات والمسافات التي تقطعها تتجاوز كل ما يمكن أن نصنعه على الأرض، مما يتيح منظورًا جديدًا لدراسة خصائصها.
في الوقت نفسه، فإن تتبّع كيفية تناثر هذه النيوترينوات عند اصطدامها بالمادة الكونية؛ قد يكشف عن ثغرات جديدة في النموذج القياسي. تعليقا على ذلك، تقول العالمة شيرلي: "إنها ساحة جديدة تمامًا نبحث فيها عن انحرافات محتملة.. إنه مسار مترابط: كلما ازداد فهمنا للمصادر، استطعنا إخضاع النيوترينوات لاختبارات أكثر صرامة".
على سبيل المثال، قد تساعد تلسكوبات النيوترينوات الكونية يومًا ما في الكشف عن أصل كتلة النيوترينو. فإحدى الفرضيات ترى أن النيوترينوات لا تكتسب كتلتها عبر حقل هيغز وحده كما فعلت بقية الجسيمات في النموذج القياسي، بل من صلات غامضة مع نوع آخر -أضخم وأغرب- يُدعى نيوترينوات ماجورانا، وهي جسيمات تُعد نقيض نفسها في الوقت ذاته.
إذا صحّ ذلك، فإن الكون البدائي ربما كان يعجّ بهذه النيوترينوات، التي تحللت بطريقة غير متماثلة، مما أدى إلى إنتاج المادة بدلًا من المادة المضادة. وكما يقول عالم الفيزياء نيكول: "إذا كانت النيوترينوات نقيضَ نفسها، فقد يفسر ذلك أين اختفت المادة المضادة في بدايات الكون".
أمام هذا الرهان الكوني الكبير، تبدو كوراهاشي نيلسون مفعمة بالحماسة وهي تترقب اكتمال عمل كاشف آخر يوازي الآيس كيوب، بقولها: "انتظرتُ طويلاً لحظة دخول "كي إم 3 نت" حيز التشغيل. وما حدث بعد ذلك أثبت أن كاشفهم في الأعماق يعمل بكفاءة مدهشة. ومع وجود كاشفين معاً، لا يصبح الكون أوضح فحسب، بل تتسارع وتيرة الاكتشافات، وتتكاثر أمامنا المصادر التي نستطيع رصدها في آنٍ واحد".
تخوض كوراهاشي نيلسون مغامرة أخرى منفصلة، حيث تشارك في مشروع كاشف مائي جديد قرب جزيرة فانكوفر في كندا، يُعرف بتجربة النيوترينوات في المحيط الهادئ، ليقف جنباً إلى جنب مع مشروعيْ الرصد: آيس كيوب و"كي إم 3 نت". وعلى الجانب الآخر من العالم، تتشكل منذ عام 2021 ملامح كاشف عميق تحت مياه بحيرة بايكال في روسيا، مشروع واعد لولا أن التعاون العلمي تعثر منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. وتعليقًا على ذلك، يقول أرغويليس ديلغادو بأسف: "لم نعد نسمع أخبارهم إلا عبر المؤتمرات الكبرى، ومن العسير أن نعرف حقاً ما يجري هناك".
ومهما يكن، فإن الأعوام المقبلة تُخبئ لنا -ولا شك- مفاجآت أعظم كلما تجلّت صورة الكون العاصف وهو في حالاته القصوى، واتضحت أسراره شيئًا فشيئًا. وهكذا تختتم إيرين تامبورا حديثها قائلةً: "إننا نخطو بثبات نحو فجر جديد لفلك النيوترينوات فائقة الطاقة".
____________
* إضافة المترجم
هذه المادة مترجمة عن نيوساينتست ولا تعبر بالضرورة عن الجزيرة نت