رصد البحارة منذ قرون ظاهرة بحرية نادرة أثارت فضول العلماء، تتمثل في توهج مساحات شاسعة من سطح المحيط ليلا بضوء أبيض يميل إلى الأخضر، حتى يبدو البحر كأنه بأكمله تحول إلى مصدر إنارة ضخم.
وتعرف هذه الظاهرة باسم "البحار اللبنية"، وتتميز بندرتها واتساع نطاقها، حيث يمكن أن تغطي مساحات تصل إلى عشرات الآلاف من الكيلومترات المربعة، وقد يكون توهجها قويا لدرجة يمكن معها رؤيتها من الفضاء، أو القراءة تحت ضوئها في عرض البحر.
ورغم تواتر المشاهدات منذ القرن الـ17، لا تزال الأسباب الدقيقة لهذه الظاهرة مجهولة، إذ غالبا ما تحدث في مناطق بعيدة عن المحيط الهندي، ما يصعب رصدها ودراستها ميدانيا.
غير أن دراسة جديدة قد تمهد الطريق لفهم أعمق، بعد أن تمكن فريق بحثي من تجميع أول قاعدة بيانات شاملة خلال 3 عقود، تضمنت شهادات تاريخية من البحارة، وسجلات تعود إلى 80 عاما من "مجلة المراقب البحري"، إلى جانب صور التقطت عبر الأقمار الصناعية، وفق الدراسة التي نشرت في التاسع من أبريل/نيسان في مجلة "إيرث أند سبايس ساينس".
يقول المؤلف الرئيسي للدراسة "جاستن هادسون"، وهو طالب دكتوراه في قسم علوم الغلاف الجوي بجامعة ولاية كولورادو الأميركية، في تصريحات لـ"الجزيرة. نت": "حتى هذه اللحظة، لدينا صورة واحدة فقط ملتقطة من مستوى سطح البحر، جاءت من مصادفة نادرة ليخت خاص عام 2019. وهذا يظهر مدى صعوبة دراسة هذه الظاهرة".
ويوضح الباحث أن الهدف من هذه القاعدة البيانية هو التمكن من التنبؤ بموعد ومكان ظهور البحار اللبنية، حتى يمكن إرسال سفينة بحث علمي في الوقت المناسب لجمع بيانات بيولوجية وكيميائية حيوية.
ويعتقد أن السبب المحتمل وراء هذا التوهج المستمر هو نوع من البكتيريا المضيئة يعرف باسم "فيبريو هارفيي"، وهي كائنات مجهرية قادرة على إنتاج ضوء حيوي، وقد تكون تعيش على سطح الطحالب البحرية خلال فترات ازدهارها.
وبحسب الدراسة، فقد تم تسجيل حالة واحدة فقط تمكن خلالها العلماء من أخذ عينة مائية من هذه الظاهرة، كانت عام 1985، حيث عثروا على هذه البكتيريا مضيئة على سطح الطحالب.
كشفت الدراسة الجديدة أن أغلب مشاهدات البحار اللبنية وقعت في مياه البحر العربي وبالقرب من جزيرة سقطرى اليمنية وسواحل الصومال، حيث تمثل هذه المناطق ما يقرب من 60% من كل الحالات المعروفة عالميا.
ويضيف "هادسون": "تعد هذه المناطق ذات أهمية بيئية واقتصادية كبرى، خصوصا لقطاع الصيد. كما أن نشاط الرياح الموسمية في المحيط الهندي، والذي يتغير تبعا لمراحل المناخ، يؤثر على الحياة البيولوجية هناك، ويمكن يكون مرتبطا بظهور هذه الظاهرة".
ويعتقد الباحثون أن هناك ارتباطا وثيقا بين ظهور البحار اللبنية وبين ظواهر مناخية عالمية مثل "تذبذب المحيط الهندي" و"ظاهرة النينيو"، وهو ما يدل على أن هذه الظاهرة مرتبطة بحركة الكربون والمغذيات في النظام البيئي للمحيط.
"هذه الظاهرة المذهلة تمثل تعبيرا مدهشا عن تفاعلات حيوية في كوكبنا لم تدرس بعد بشكل كاف، وربما تحمل أسرارا حول العلاقة بين المحيط والغلاف الجوي، بل وبين الميكروبات ودورة الكربون العالمية" كما أوضح المؤلف الرئيسي للدراسة.
ويضيف: "لا نعرف بعد ما إذا كانت البحار اللبنية علامة على صحة بيئية جيدة أو على اضطراب بيئي. البكتيريا التي نشتبه في أنها وراء الظاهرة معروفة بأنها قد تضر بالأسماك والقشريات. ما نأمله الآن هو أن تساعدنا هذه البيانات في الوصول إلى إجابات لم تكن ممكنة من قبل".